من كتاب الوسطية في القرآن الكريم
(فوائد الإيمان وثمراته)
الحلقة: السابعة والعشرون
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
ربيع الأول 1442 ه/ نوفمبر 2020
إنَّ من حكمة الله الربانية أن جعل قلوب عباده المؤمنين تحسُّ، وتتذوق، وتشعر بثمرات الإيمان لتندفع نحو مرضاته، والتوكل عليه سبحانه وتعالى، فإن شجرة الإيمان إذا ثبتت، وقويت أصولها، وتفرعت فروعها، وزهت أغصانها، وأينعت أفنانها؛ عادت على صاحبها وعلى غيره بكل خير عاجل واجل في الدنيا والاخرة، وثمار الإيمان، وثمراته، وفوائده كثيرة، قد بينها الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم، فمن أعظم هذه الفوائد والثمار:
أولاً: الاغتباط بولاية الله الخاصة؛ التي هي أعظم ما تنافس فيه المتنافسون، وتسابق فيه المتسابقون، وأعظم ما حصل عليه المؤمنون. قال تعالى: {أَلاَ إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } ثم وصفهم بقوله: { الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ *} [يونس: 62ـ 63] فكل مؤمن تقي فهو لله ولي ولاية خاصة، من ثمراتها ما قاله عنهم: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [البقرة: 257] أي: يخرجهم من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، ومن ظلمات الجهل إلى نور العلم، ومن ظلمات المعاصي إلى نور الطاعة، ومن ظلمات الغفلة إلى نور اليقظة، والذكر، وحاصل ذلك: أنه يخرجهم من ظلمات الشرور المتنوعة إلى ما يرفعها من أنوار الخير العاجل والاجل. وإنما حازوا هذا العطاء الجزيل بإيمانهم الصحيح، وتحقيقهم هذا الإيمان بالتقوى، فإن التقوى من تمام الإيمان.
ثانياً: الفوز بمرضاة الله ودار كرامته. قال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ *وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ *}[التوبة: 71 ـ 72] فنالوا رضا ربهم، ورحمته، والفوز بهذه المساكن الطيبة بإيمانهم الذي كمَّلوا به أنفسهم، وكمَّلوا غيرهم بقيامهم بطاعة الله، وطاعة رسوله، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، فاستولوا على أجلِّ الوسائل، وأفضل الغايات، وذلك فضل الله.
ثالثاً: ومن ثمرات الإيمان: أن الله يدفع عن المؤمنين جميع المردة، وينجيهم من الشدائد، كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} [الحج: 38] أي: يدافع عنهم كل مكروه، يدافع عنهم شرَّ شياطين الإنس والجن، ويدافع عنهم الأعداء، ويدافع عنهم المكاره قبل نزولها، ويرفعها، أو يخفضها بعد نزولها، ولما ذكر تعالى ما وقع فيه يونس عليه السلام، وأنه: {فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ *} قال: { فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ *} [الأنبياء: 87 ـ 88] إذا وقعوا في الشدائد؛ نجّيناهم كما أنجينا يونس، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «دعوة أخي يونس ما دعا بها مكروب إلا فرج الله عنه كربته: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين». وقال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا *} [الطلاق:4].
فالمؤمن المتقي ييسر الله له أموره، وييسره لليسرى، ويجنبه العسرى، ويسهِّل عليه الصعاب، ويجعل له من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ويرزقه من حيث لا يحتسب، وشواهد هذا كثيرة من الكتاب، والسنة.
رابعاً: ومنها: أن الإيمان، والعمل الصالح الذي هو فرعه يثمر الحياة الطيبة في هذه الدار، وفي دار القرار قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ *}[النحل:97].
ذلك: أن من خصائص الإيمان: أنه يثمر طمأنينة القلب، وراحته، وقناعته بما رزقه الله، وعدم تعلقه بغيره، وهذه هي الحياة الطيبة، فإن أصل الحياة الطيبة راحة القلب، وطمأنينته، وعدم تشوشه ممَّا يتشوش منه الفاقد للإيمان الصحيح.
خامساً: ومنها: أن جميع الأعمال، والأقوال إنما تصحُّ، وتكمل بحسب ما يقوم بقلب صاحبها من الإيمان، والإخلاص، ولهذا يذكر الله هذا الشرط الذي هو أساس كل عمل، مثل قوله: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ}[الأنبياء: 94] أي: لا يجحد سعيه، ولا يضيع عمله، بل يضاعف بحسب قوة إيمانه، وقال تعالى: {وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا *} [الإسراء: 19] والسعي للآخرة هو العمل بكل ما يقرب إليها، ويدني منها من الأعمال التي شرعها الله على لسان نبيه محمد صلى الله عليه وسلم فإذا تأسست على الإيمان، ونبتت عليه؛ كان السعي مشكوراً مقبولاً مضاعفاً، لا يضيع منه مثقال ذرة. وأما إذا فقد العمل الإيمان، فلو استغرق العامل ليله ونهاره؛ فإنه غير مقبول. قال تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا *} [الفرقان: 23]؛ وذلك لأنها أسست على غير الإيمان بالله ورسوله الذي روحه الإخلاص للمعبود، والمتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم. قال تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرَينِ أَعْمَالاً *الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا *أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً *} [الكهف: 103ـ 105] فهم لمَّا فقدوا الإيمان، وحلَّ محلَّه الكفر بالله واياته؛ حبطت أعمالهم. قال تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ }[الزمر: 65] وقال: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ *} [الأنعام:88].
ولهذا كانت الردة عن الإيمان تحبط جميع الأعمال الصالحة، كما أنَّ الدخول في الإسلام، والإيمان يَجُبُّ ما قبله من السيئات؛ وإن عظمت، والتوبة من الذنوب المنافية للإيمان، والقادحة فيه، والمنفقة له تجبُّ ما قبلها.
سادساً: ومن ثمرات الإيمان: أن صاحب الإيمان يهديه الله إلى الصراط المستقيم، ويهديه إلى علم الحق، وإلى العمل به، وإلى تلقي المحاب بالشكر، وتلقي المكاره والمصائب بالرضا، والصبر. قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ } [يونس: 9] وقال تعالى: { مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ}[التغابن: 11].
ذكر الشوكاني رحمه الله في تفسير هذه الآية: (هو الرجل تصيبه المصيبة، فيعلم: أنها من عند الله، فيرضى، ويسلِّم. ولو لم يكن من ثمرات الإيمان إلا أنه يسلي صاحبه عن المصائب، والمكاره؛ لكفى. ومصاحبة الإيمان، واليقين أعظم مسل عنها، ومهون لها، وذلك لقوة إيمانه، وقوة توكله، ولقوة رجائه بثواب ربه، وطمعه في فضله، فحلاوة الأجر تخفف مرارة الصبر، قال تعالى: {إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ}[النساء:104].
سابعاً: ومن ثمرات الإيمان، ولوازمه، وفوائده، وخيراته من الأعمال الصالحة ما ذكره الله بقوله سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَانُ وُدًّا *} [مريم: 96] أي: بسبب إيمانهم، وأعمال الإيمان يحبهم الله، ويجعل لهم المحبة في قلوب المؤمنين، ومن أحبه الله، وأحبه المؤمنون من عباده؛ حصلت له السعادة، والفلاح، والفوائد الكثيرة من محبة المؤمنين من الثناء، والدعاء له حيّاً وميتاً، والاقتداء به، وحصول الإمامة في الدين.
وهذه أيضاً من أجلِّ ثمرات الإيمان أن يجعل الله للمؤمنين الذين كملوا إيمانهم بالعلم والعمل لسان صدق، ويجعلهم أئمة يهتدون بأمره، كما قال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ *}[السجدة: 24] ، فبالصبر واليقين اللذين هما رأس الإيمان وكماله نالوا الإمامة في الدين.
ثامناً: ومنها قوله تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11] فهم أعلى الخلق درجة عند الله وعند عباده في الدنيا والآخرة، وإنما نالوا هذه الرفعة بإيمانهم الصحيح، وعلمهم، ويقينهم، والعلم واليقين من أصول الإيمان.
تاسعاً: من ثمرات الإيمان حصول البشارة بكرامة الله، والأمن التام من جميع الوجوه، كما قال تعالى: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ *} [البقرة: 223] فأطلقها؛ ليعم الخير العاجل والآجل، وقيَّدها في مثل قوله تعالى: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ } [البقرة:25] فلهم البشارة المطلقة والمقيدة، ولهم الأمن المطلق في مثل قوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ } [الأنعام: 82] ولهم الأمن المقيد في مثل قوله تعالى: { فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ *} [الأنعام: 48] فنفى عنهم الخوف لما يستقبلونه، والحزن مما مضى عليهم، وبذلك يتم لهم الأمن.
فالمؤمن له الأمن التام في الدنيا والآخرة، أَمِنَ من سخط الله وعقابه، وأمن من جميع المكاره والشرور، وله البشارة الكاملة بكل خير، كما قال تعالى: {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [يونس: 64].
ويوضح هذه البشارة قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلاَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ *نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ *نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ *}[فصلت: 30 ـ 32].
وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ *} [الحديد: 28] فرتب على الإيمان حصول الثواب المضاعف، وكمال النور الذي يمشي به العبد في حياته، ويمشي به يوم القيامة: {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ}[الحديد: 12].
فالمؤمن من يمشي في الدنيا بنور علمه وإيمانه، وإذا أُطفئت الأنوار يوم القيامة؛ مشى بنوره على الصراط؛ حتى يجوز به إلى دار الكرامة والنعيم، وكذلك رتب المغفرة على الإيمان، ومن غفرت سيئاته سلم من العقاب، ونال أعظم الثواب.
عاشراً: ومن ثمرات الإيمان حصول الفلاح الذي هو إدراك غاية الغايات، فإنه إدراك كل مطلوب، والسلامة من كل مرهوب، والهدى الذي هو أشرف الوسائل، كما قال تعالى بعد ذكره المؤمنين بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم وما أنزل على من قبله، والإيمان بالغيب، وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة اللتين هما من أعظم آثار الإيمان قال تعالى: {أُولَئِكَ عَلَى هُدَىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ *} [البقرة:5].
فهذا هو الهدى التام، والفلاح الكامل، فلا سبيل إلى الهدى والفلاح اللذين لا صلاح ولا سعادة إلا بهما إلا بالإيمان التام بكل كتاب أنزله الله، وبكل رسول أرسله الله، فالهدى أجلُّ الوسائل، والفلاح أكمل الغايات.
الحادي عشر: ومن ثمرات الإيمان الانتفاع بالمواعظ، والتذكير بالايات:
قال تعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ *}[الذاريات:55].
وقال: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ *}[الحجر:77].
وهذا لأن الإيمان يحمل صاحبه على التزام الحق واتِّباعه علماً، وعملاً، وكذلك معه الالة العظيمة والاستعداد لتلقي المواعظ النافعة والايات الدالة على الحق، وليس عنده مانع يمنعه من قبول الحق، ولا من العمل به.
وأيضاً: فالإيمان يوجب سلامة الفطرة، وحسن القصد، ومن كان كذلك انتفع بالايات، ومن لم يكن كذلك فلا يستغرب عدم قبوله للحق، واتِّباعه له، ولهذا يذكر الله ـ في سياق رفض الكافرين تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم وقبولهم الحق الذي جاء به ـ السبب الذي أوجب لهم ذلك، وهو الكفر الذي في قلوبهم؛ لأن الحق واضح، واياته بينة واضحة، والكفر أعظم مانع يمنع من اتِّباعه، أي: فلا تستغربوا هذه الحالة، فإنها لم تزل دأب كل كافر.
الثاني عشر: ومنها: أن الإيمان يقطع الشكوك التي تعرض لكثير من الناس، فتضر بدينهم. قال تعالى:
{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} [الحجرات: 15] أي: دفع الإيمان الصحيح الريب ، وأزالهما بالكلية، وقاوم الشكوك التي تلقيها شياطين الإنس، والجن، والنفوس الأمارة بالسوء، فليس لهذه العلل المهلكة دواء إلا تحقيق الإيمان. ولهذا ثبت في الحديث الصحيح عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يزال الناس يسألون، حتى يقال: هذا، الله خلق الخلق، فمن خلق الله؟ فمن وجد ذلك؛ فليقل: امنت بالله». وفي رواية: «فليستعذ بالله، ولينته».
وبهذا بيَّن صلى الله عليه وسلم الدواء النافع لهذا الداء المهلك، وهو ثلاثة أشياء: الانتهاء عن هذه الوساوس الشيطانية. والاستعاذة من شر من ألقاها ليضلَّ بها العباد . والاعتصام بعصمة الإيمان الصحيح الذي من اعتصم به كان من الامنين ؛ وذلك لأن الباطل يتَّضح بطلانه بأمور كثيرة، أعظمها العلم بأنه منافٍ للحق، وكل ما نقض الحق فهو باطل: {فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ *}[يونس: 32].
الثالث عشر: ومنها: أنَّ الإيمان ملجأ المؤمنين في كل ما يلمُّ بهم من سرور، وحزن، وخوف، وأمن، وطاعة، ومعصية، وغير ذلك من الأمور التي لابد لكل أحد منها، فليجؤون إلى الإيمان عند الخوف، فيطمئنون إليه، ويزيدهم إيماناً وثباتاً، وقوة وشجاعة، ويضمحل الخوف الذي أصابهم كما قال تعالى عن خيار الخلق: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ *فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ *} [آل عمران:173 ـ 174].
لقد اضمحل الخوف من قلوب هؤلاء الأخيار، وخلفه قوة الإيمان، وحلاوته، وقوة التوكل على الله، والثقة بوعده، ويلجؤون إلى الإيمان عند الطاعة، والتوفيق للأعمال الصالحة، فيعترفون بنعمة الله عليهم بها، وأن نعمته عليهم فيها أعظم من نعم العافية والرزق، وكذلك يحرصون على تكميلها، والقيام بكل سبب لقبولها، وعدم ردها أو نقصها، ويسألون الذي تفضل عليهم بالتوفيق لها أن يتم عليهم نعمته بقبولها، والذي تفضل عليهم بحصول أصلها أن يتم لهم منها ما انتقصوه منها: {أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ *} [المؤمنون: 61] ويلجؤون إلى الإيمان إذا ابتلوا بشيء من المعاصي بالمبادرة إلى التوبة منها، والقيام بما يقدرون عليه من الحسنات لجبر نقصها.
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ *} [الأعراف: 201]. فالمؤمنون في جميع تقلباتهم، وتصرفاتهم ملجؤهم إلى الإيمان، ومفزعهم إلى تحقيقه، ودفع ما ينافيه ويضاده، وذلك من فضل الله عليهم، ومنِّه.
وخوفاً من الإطالة نقتصر على هذه الثمرات العظيمة التي بينها المولى عز وجل، وبذلك نستيقن: أن كتاب الله جاء تبياناً لكل شيء، وعرض قضية الإيمان من جوانبها المتعددة النافعة للناس، وبين وسائل زيادة الإيمان، ورغَّبنا فيه بذكر فوائده، وثماره بحكمة بالغة تليق بالحكيم العليم جل وعلا.
وبيَّن المولى عز وجل في كتابه حقيقة الإيمان بأنه اعتقاد بالجَنان، ونطق باللسان، وعمل بالأركان، ووضَعَنا على الصراط المستقيم، فسلمت عقول المسلمين، وقلوبهم من أمراض التعطيل، والتشبيه، والإفراط، والتفريط، ووقع أهل البدع في الانحراف عن جادة الصواب وطريق أهل الاستقامة؛ لأنهم ابتعدوا عن كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وفهم الصحابة، والتابعين لهم بإحسان من علماء، وفقهاء، ومحدِّثين.
يمكنكم يمكنكم تحميل كتاب :الوسطية في القرآن الكريم
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي
http://alsallabi.com/uploads/file/doc/29.pdf
كما يمكنكم الإطلاع على كتب ومقالات الدكتور علي محمد الصلابي من خلال الموقع التالي:
http://alsallabi.com