الأربعاء

1446-11-16

|

2025-5-14

من كتاب الوسطية في القرآن الكريم

صفات الملائكة الخلقية

الحلقة: الثامنة والعشرون

بقلم الدكتور علي محمد الصلابي

ربيع الأول 1442 ه/ نوفمبر 2020

إنَّ الإيمان بالملائكة أصلٌ من أصول الاعتقاد، لا يتم الإيمان إلا به، والملائكة من عوالم الغيب التي امتدح الله المؤمنين بها تصديقاً لخبر الله سبحانه، وإخبار رسوله صلى الله عليه وسلم وقد بين الله ـ سبحانه وتعالى ـ في كتابه وسنة نبيه هذا الموضوع بحيث أصبح ـ عند من اطلع على هذه النصوص ـ الإيمان بها واضحاً، وليس فكرة غامضة، وهذا ما يعمق الإيمان، ويرسخه، فإن المعرفة التفصيلية أقوى، وأثبت من المعرفة الإجمالية.
وبيَّن الله سبحانه وتعالى الانحراف الذي وقع فيه الناس في اعتقادهم في الملائكة منذ القديم، فهناك من عبدهم، وهناك من ظن: أنهم بنات الله، وأما الفلاسفة؛ فإنهم يرون: أن الملائكة هم الأفلاك التي نراها في الفضاء، وبعضهم أنكر وجودها، وأما اليهود؛ فعادوا بعضهم، ووصفوا الملائكة بأنهم يشربون، ويأكلون.
كما ذكرت التوراة المحرفة في سفر التكوين وبعض أسفارهم: أن الملائكة لا تأكل، ولا تشرب، واضطرب أمرهم في هذا الشأن، واستزلهم الشيطان، وتصوِّر التوراة جبريل عليه السلام بأنه شيطان ـ لعنة الله على اليهود ـ يصنع الغواية، ويغوي الأنبياء؟!!
قالت التوراة المحرفة: (قد رأيت الرب جالساً على كرسيه، وكل جند السماء وقوف لديه، عن يمينه، وعن يساره، فقال الرب: من يغوي اخاب، فيصعد، ويسقط في رامون جلعاد، فقال هذا: هكذا، وقال ذاك: هكذا، ثم خرج الروح ـ يعني: جبريل ـ ووقف أمام الرب، وقال: أنا أغويه، وقال له الرب: بماذا؟ فقال: أخرج،وأكون روح كذب في أفواه جميع أنبيائه. فقال: إنك تغويه، وتقتدر؟ فاخرج، وافعل هكذا).
يا سبحان الله! يجعلون جبريل روح كذب في أفواه جميع أنبياء اخاب، والرب يشجعه على ذلك! وبذلك اتضحت مسالك الناس في اعتقادهم في الملائكة بين منكر لها، وهم الملاحدة، وبين متصوِّر لها بأفلاك، وأوهام، وهم الفلاسفة، وبين زاعم بأنها بنات الله، وعبدوها من دون الله، وهم مشركو العرب.
وجاء القرآن ليبيِّن منهج الوسطيَّة في هذا الركن من العقائد بما ينفع الناس، ويدلهم على الصراط المستقيم، الذي هو الوسطيَّة في هذا الدين، وجاء القرآن الكريم موضحاً ما ينفع الناس ويصحح تصوراتهم، وأفكارهم، ومعتقدهم في قضايا الاعتقاد وغيرها. إنَّ المسلم يعتقد اعتقاداً جازماً بأن لله ملائكة موجودين مخلوقين من نور، وأنهم لا يعصون الله ما أمرهم، وأنهم قائمون بوظائفهم التي أمرهم الله بالقيام بها. ولا يصلح إيمان عبد حتى يؤمن بوجودهم، وبما ورد في حقهم من صفات وأعمال في كتاب الله سبحانه، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم من غير زيادة، ولا نقصان، ولا تحريف.
قال تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ *}[البقرة: 285].
وفي الحديث الصحيح عن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ عندما سأل جبريل عليه السلام صلى الله عليه وسلم عن الإيمان قال صلى الله عليه وسلم: «أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الاخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره».
فوجود الملائكة ثابت بالدليل القطعي الذي لا يمكن أن يلحقه أدنى شك، ومن هنا كان إنكار وجودهم كفراً بنصِّ القرآن الكريم، فقد قال عز وجل: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخر فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا *}[النساء: 136].
والذي يجمع الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية التي تكلَّمت عن الملائكة وأوصافهم وأعمالهم وأحوالهم يلاحظ: أنها تناولت في الغالب ما بين علاقتهم بالخالق سبحانه، وبالكون والإنسان، فعرَّفنا سبحانه من ذلك على ما ينفعنا في تطهير عقيدتنا، وتزكية قلوبنا، وتصحيح أعمالنا.
وأما حقيقة الملائكة، وكيفيَّة خلقهم، وتفصيلات أحوالهم؛ فقد استأثر سبحانه بها، وهذا من وسطية القرآن، وحكمة الرحمن سبحانه وتعالى؛ حيث يعرف الناس في حدود ما يحتاجون إليه، ويصلح أحوالهم في المعاش والمعاد، وما تطيقه عقولهم، فالله سبحانه وتعالى لم يطلعنا على جميع المغيبات، سواء منها ما يتعلق بجلاله، وصفاته، وأسمائه، وما تعلق بمخلوقاته الغيبية، والمؤمن الصادق يقرُّ بكل ما أخبر به الخالق مجملاً أو مفصلاً، ولا يزيد على ذلك، ولا ينقص منه، ولا يتكلف البحث عن ما لا ينفعه، ولا يخوض فيه.
إن الخالق عز وجل لم يخبرنا عن صفاتهم الخِلقية إلا النزر القليل، فأخبرنا سبحانه: أنهم خُلقوا قبل ادم، إذ ورد في القرآن : أن الله أخبرهم بأنه سيخلق الإنسان، ويجعله في الأرض. قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ *}[البقرة: 30].
وأما المادة التي خلقوا منها؛ فقد أخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم: أن الله خلقهم من نور، فقد أخرج مسلم عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «خلقت الملائكة من نور، وخلق الجان من مارج من نار، وخلق آدم مما وصف لكم». وتدل النصوص في مجموعها على أن الملائكة مخلوقات نورانية، ليس لها جسم مادي يدرك بالحواس الإنسانية، وأنهم ليسوا كالبشر، فلا يأكلون، ولا يشربون، ولا ينامون، ولا يتزاوجون، مطهرون من الشهوات الحيوانية، ومنزهون عن الاثام والخطايا، ولا يتصفون بشيء من الصفات المادية، التي يتصف بها ابن آدم.
أ ـ لهم القدرة على التشكل:
غير أنَّ لهم القدرة على أن يتمثلوا بصور البشر بإذن الله تعالى، كما أخبر الله عز وجل عن جبريل عليه السلام: أنه جاء مريم في صورة بشرية، فقال تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِيًّا * فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا *}[مريم: 16 ـ 17].
وفي حديث جبريل المشهور حين جاء يعلِّم الصحابة معنى الإسلام، والإيمان، والإحسان، وأشراط الساعة ذكر عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ: أنه جاء على هيئة رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يُرى عليه أثر السفر، وأنه جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه، ثم شرع في السؤال.
ب ـ لهم أجنحة:
ومن صفاتهم الخلقية التي أخبرنا الله بها: أنه جعل لهم أجنحة يتفاوتون في أعدادها، فقال سبحانه: {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ *} [فاطر: 1] هذا ما أخبرنا به الله عز وجل عن الملائكة من حيث خلقتها، ونؤمن به كما جاء، ولا نسأل عن غيره، ولو كان في التفصيل نفعٌ لعباد الله؛ لما حجب عنهم معرفته، فهو اللطيف الرحيم بهم، يعلمهم الحق والخير، وهذا من حكمة القرآن، وهدايته إلى الصراط المستقيم، ووسطيته في الأمور.
يمكنكم يمكنكم تحميل كتاب :الوسطية في القرآن الكريم
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي
http://alsallabi.com/uploads/file/doc/29.pdf
كما يمكنكم الإطلاع على كتب ومقالات الدكتور علي محمد الصلابي من خلال الموقع التالي:
http://alsallabi.com


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022