السبت

1446-12-11

|

2025-6-7

صدى وفاة أحمد الشريف في العالم الإسلامي

بقلم: د. علي محمّد الصلابي

الحلقة: السادسة عشر

ربيع الآخر 1441 ه/ ديسمبر 2019 م

نشر بمجلة (اللطائف) المصورة بعدد (945) 20 مارس سنة (1933 م) ما يلي:
«يوم (11) الجاري نعت برقيات الحجاز السيد أحمد الشريف السنوسي الكبير، فكان لنعيه رنة حزن مرير أعادت إلى الأذهان تلك الجهود الجبارة، والتضحيات الغالية التي بذلها هذا الفقيد العظيم في نشر الإسلام، وتثقيف أهل البيد، ومكافحة الاستعمار الإيطالي سنوات عديدة، قضاها أرسخ ما يكون ثباتاً وإيماناً، فقد كان للفقيد نفوذ روحي عجيب استطاع به أن يعمم دعوته في أحشاء الصحراء وشمال إفريقية، وأعمال السودان، ولما أغارت إيطالية على طرابلس منذ ربع قرن ثارت نخوته الوطنية الدينية، ووقف يدافع عن وطنه ودينه؛ مثيراً روح العزم والقوة في أنفس العربان، ثم انضم إلى الأتراك ضد الإيطاليين، إلا أن تركية اشتغلت بالحرب البلقانية الثانية سنة (1911 م)، فظل الفقيد يناضل وحده في الميدان، وصمد به ما يزيد عن ثلاث سنوات؛ استطاع خلالها بجلده، ومضاء عزمه، ويقينه مع قواته القليلة أن يقهر القوات الإيطالية المنظمة الكبيرة، ويلحق بها الهزائم والخسائر، حتى أرغم إيطالية على طلب الصلح معه على يد الخديوي السابق عباس حلمي، فرفضه قائلاً: إني لا أصالح أبداً دولة مسيحية على شبر من أرض للمسلمين، واستمر في جهاده المستميت إلى اخر سني الحرب العالمية، حيث سافر إلى تركية، وعرضت عليه الخلافة الإسلامية فرفضها، وبعد أن وضعت الحرب أوزارها التجأ إلى بلاد الحجاز، وظل فيها أربعة عشر عاماً بعيداً عن وطنه، محتفظاً بإيمانه وتقشفه ووطنيته، إلى أن لبى نداء ربه، وله في القلوب أفعم الذكريات...».
فرح إيطالية بموته:
أعلنت إيطالية وفاة السيد أحمد الشريف على لسان وزير مستعمراتها وقتذاك الجنرال دي بونو داخل قاعة المجلس الفاشيستي المنعقد حينذاك، فقال: مات السيد أحمد الشريف السنوسي بالحجاز متأثراً بالشلل، وبموته ماتت جميع مخاوفنا في إفريقية، وقال أيضاً ما معناه: إن موت هذا الرجل العدو اللدود لنا يجعلنا نطمئن لجميع أعمالنا ومقاصدنا الدينية في شمال إفريقية، وقد كتبت أكثر الصحف الإيطالية؛ يومية كانت أو أسبوعية في فصول عقدتها حول تصدع ذلك الصرح العظيم.
شكيب أرسلان يؤبِّن أحمد الشريف في عنوان كبير: بقية السلف الصالح وخاتمة المجاهدين:
لم يشعر بالخوف قلبي فيما عدا المصائب التي رزئت بها في أفراد عائلتي ما أشعره النبأ الصادع، والخبر الفاجع الذي نقل إلى الافاق نعي الأستاذ الأكبر، والسراج الأزهر، خاتمة المجاهدين، ومثال الغزاة المرابطين، السيف الباتر على هدي الصحابة الكرام في العصر الحاضر، محيي ماثر الأوائل في أيام الأواخر، سيدي أحمد الشريف ابن سيدي الشريف ابن سيدي محمد بن علي السنوسي رضي الله عنه وعن سلفه وأرضاهم، وجعل في جوار قدسه مأواهم.
إن فجيعة العالم الإسلامي بهذا الرجل الكبير من رجاله، بل بهذا الجبل الراسي من جباله هي من الحوادث التي تشغل مكاناً خاصّاً في تاريخ مصائب الإسلام الذي أصبح أغنى تواريخ الأمم بالمصائب، وإن هذا الفقيد العظيم لو عاش في زمن السلف الصالح وأيام الغزوات العربية والفتوحات العمرية لما كان مكانه في ذلك الوقت ليقصر عن مكان أحد من أولئك الأبطال الذين نشروا الإسلام في الخافقين، ورفعوا لواءه من نهر الرون إلى جدار الصين، فما ظنك وهو قد جاهد هذا الجهاد كله، ووقف مدة عشرين سنة في وجه دولة من الدول العظام في عصر دثرت فيه معالم الجهاد، وانطفأت جذوة الإسلام؛ حتى لم يبق منها إلا الرماد، واستولى اليأس على قلوب المسلمين حتى حسبوا كل مقاومة لدولة أوروبية ضرباً من ضروب الحماقة، وعمَّ ذلك جموعهم الحاضر منهم والباد، وانتشر في الربى والوهاد، ومع هذا فإن سيدي أحمد الشريف السنوسي قد أتى ببرهان ساطع، ودليل قاطع على أن فئة من المسلمين في قطر لا يتجاوز عدد أهله عدة مئات من الألوف يمكنها بقوة الإرادة، وثبات العزم، ومضاء الصريمة، وإباء الضيم، وترجيح المعنى على المادة، وإيثار الشرف على الترف، وامتلاء القلوب بالإيمان، ووقف النفوس على اعتزام عزائم الإسلام أن تثبت مدة (240) شهراً، بإزاء دولة عدد أهلها اثنان وأربعون مليوناً، مجهزة بجميع ما هي مجهزة به عظميات دول العالم المتمدن، لها من فيالق البر وأساطيل البحر، وسيارات الكهرباء، والمحلقات في الفضاء ما لا تملك أعظم منه دولة من الدول القاعدة في الصف الأول في ممالك الأرض.
وقد يقول المتعنتون الذين في قلوبهم مرض، والذين لا يروقهم إلا أن يروا الإسلام ذليلاً مهيناً: وماذا أفادنا قيام السيد السنوسي في وجه إيطالية؟ وهل كان ذلك إلا سبباً في زيادة قهر المسلمين، وإرهاقهم بأفانين الظلم، وأساليب الاستئصال في طرابلس الغرب؟ فلو كان هؤلاء الأهالي قد خضعوا من بداية الأمر للدولة التي قد احتلت بلادهم، وقضى الله بسيادتهم عليهم؛ لربما كانوا قد نجوا من العذاب المقيم الذي هم فيه، والخطوب التي أبادت خضراءهم وما أشبه ذلك من الأعاليل التي تفيض بها قرائح النفوس الخاملة، المولعة بالاستحذاء للأجنبي أيَّاً كان.
وجوابنا على ذلك بسيط؛ وهو: إننا ما رأينا أمة أوروبية مهما قل عددها وانقطع مددها، قد رضيت بالاستحذاء لدولة أوروبية عظيمة مهما علا سلطانها، وغلظت مملكتها في الأرض؛ بل القاعدة عند الأوروبين الذين هم قدوة الشرقيين الان في جميع الماخذ والمتارك هي أن الأمة المستقلة لابد لها من أن تذود عن حوضها، وتدافع بغير دفاع؛ فالموت أولى بها من الحياة بلا نزاع، وأن بقية السيف مهما قلت هي أشرف مقاماً، وأرجى حياة من الكثرة المستنيمة إلى الذل، ولو كانوا كالجراد المنتشر، وقد حققت الحوادث، وأيدت التجارب أن الخضوع ليس من أحسن الوسائل التي تعالج بها عداوة الأعداء، وأن قول الشاعر:
قاتل عدوك باللسان وإن قدرت فبالسنان
إن العداوة ليس يصـ لحها الخضوع مدى الزمان
– لا تزال هي الحقيقة السياسية التي تدين بها دول العالم الحديث، كما دانت بها دول العالم القديم، ولعمري لو خضع الطرابلسيون من أول الأمر أكمل الخضوع لإيطالية؛ لما كانت لذلك نتيجة سوى زيادة الطغيان في معاملتهم واستخفافهم بملتهم، وامتداد أيدي الأوروبيين دون أدنى تردد إلى كل قطر من الأقطار الإسلامية قياساً على قضية طرابلس، واعتقاداً بأن هذه الأمة قد فقدت حسيس الحياة؛ فهي لا تبدي، ولا تعيد، ولا تفعل فيها الأسنة ولا السهام، لأنه ما لجرح بميت إيلام.
قد استشهدنا على صحة المقاومة ولو كان المعتدي قويَّاً، والمعتدى عليه ضعيفاً، بالقاعدة السياسية والمبادأى الأساسية التي يسير عليها الأوروبيون حرباً وسلماً، وعملاً وعلماً، ولم تتعرض إلى ما يجب من ذلك على المسلمين الذين ينهاهم كتابهم عن الخضوع للأجنبيين عنهم، ويقول لهم: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ۝} [التّوبَة: 24]
ولم يكن تقديمنا الحجة الأولى لكوننا أشد بها اقتناعاً من الحجة الثانية، ولكن لمعرفتنا أن مثل هؤلاء المصابين بمرض الافتتان بالسلطة الأوروبية ليسوا ممن يقبلون الجدال على قاعدة الأوامر والنواهي القرانية، وإنك إن لم تستظهر عليهم بكتاب أوروبي أو سنة غربية لم يفدك الأخذ والرد معهم شيئاً.
فالسيد أحمد الشريف السنوسي هو خاتمة مجاهدي الإسلام إلى هذا الوقت، قد سبقه الشيخ شامل الداغستاني الذي قاوم الدولة الروسية أربعين سنة، والأمير عبد القادر الجزائري الذي ناهض فرنسة 17 سنة، وتبعه في الجهاد واقتدى بسيرته محمد عبد الكريم الخطابي الريفي الذي كانت مقاومته قصيرة، ولكنها عريضة؛ تواقف فيها مع دولتي فرنسة وإسبانية معاً وجهاً لوجه، وزُلزلتا في حربه زلزالاً شديداً، ولولا السيد أحمد الشريف رحمه الله تعالى لكانت إيطالية استصفت قطري طرابلس، وبرقة من الشهر الأول من غارتها الغادرة عليهما، وإننا لا نزال نذكر كلام القواد، ورجال السياسة الأوروبية عن الحملة الإيطالية يوم جردتها ذينك القطرين؛ إذ قال بعضهم: إن إيطالية ستقبض على ناصية الأمر، وتستكمل هذا الفتح في مدة 15 يوماً، وقال أشدهم تشاؤماً وأقلهم تخيلاً، وأبصرهم بأمور الشرق؛ وهو اللورد كتشنر المشهور: إن هذا الفتح الذي يستقله الناس على إيطالية أمامه من الصعوبات أكثر مما يظنون، وقد يستغرق ثلاثة أشهر بالأقل... فليتأمل أولو الألباب كيف أن هذه الأشهر الثلاثة امتدت عشرين عاماً، ورزئت الدولة الإيطالية بمئة وخمسين ألف عسكري قتلى، عدا الجرحى، وبثلاثمئة مليون جنيه من الذهب الوضاح، هذا كان مجموع خسائر إيطالية منذ سنتين بحسب الإحصاءات الرسمية، وهذا كان ثمرة جهاد ذلك السيد السند.
نعم لم تأكل إيطالية في اعتدائها الفظيع هذا مريئاً، ولم تشرب هنيئاً، وعلق في حلقها من سمك الإسلام حسك لا يزول في الأحقاب ولا في القرون، وكل ذلك بما أراده الله على يد رجل قد كان يفهم الإسلام حق الفهم، ويعمل بما يعلم منه دون انحراف يمنة ولا يسرة، ولم يكن في قلبه شيء من الدنيا بجانب الاخرة، وكان جميع حطام هذا العالم الفاني لا توازي عنده جناح بعوضة في جانب الواجب الإسلامي، وهذا الرجل هو السيد السنوسي الكبير الذي لولاه لم يكن أنور قَدِر أن يعمل شيئاً، ولا كانت الدولة العثمانية قدرت أن تدافع عن طرابلس شهراً واحداً ، وما كان المرحوم الشهيد البطل الفريد عمر المختار إلا حسنة من حسنات السيد أحمد الشريف، وقائداً من قواده.
قلت: إن السيد السنوسي لو كان في عصر السلف لكان في صف أعاظم أبطال المسلمين، فكيف وهو في عصر الخلف الذين بينهم وبين السلف ما بين المشرق والمغرب؟! وإن هذه المقابلة تذكرني بما قاله العلماء عن أحمد بن حنبل رضي الله عنه: ما قام أحد بأمر الإسلام بعد رسول الله (ص) مثل أحمد بن حنبل، فقيل لذلك القائل وأظنه ابن المديني المحدث المشهور: ولا أبو بكر الصديق، فأجاب ولا أبو بكر الصديق رضي الله عنه؛ ذلك لأن أبا بكر الصديق رضي الله عنه كان له رجال وأعوان، وإن أحمد بن حنبل لم يكن له رجال ولا أعوان، وإنما كان يناضل بقوة نفسه وحدها.
ونحن نقول: لو كانت الدولة العثمانية قاومت إيطالية هذه المقاومة، أو قاومت أعظم من إيطالية مما سبقت لها العادة بمقاومته، وأحياناً بتوالي الهزائم عليه؛ لما كان في ذلك ما يقضي بالعجب، ولكن الذي قام هذا المقام الشريف، ووقف هذا الموقف التاريخي النادر النظير؛ هو رجل لا يملك سوى قوة إرادته، ومتانة إيمانه، وإيمان رجاله، وعزة أنفسهم بالإسلام، وصبرهم في البأساء وحين البأس، وبينهم وبين عدوهم في العُدد والأسلحة والمال، والعدد من الفروق الهائلة ما لا يحتمل التنظير في قليل ولا كثير، ففضله إذاً أعظم جداً من فضل الدولة العثمانية في جهادها، وإن كان فضلها عظيماً، وهو وحده كان مصدر هذه الإرادة التي أنشأت بإذن الله هذا الجهاد الطويل العريض، وحفظت شرف الإسلام المعتدى عليه في طرابلس، وغير طرابلس؛ لأنه مما يجب أن لا نتمارى فيه: أن أوروبة لا تعرف في ذات نفسها إلا إسلاماً واحداً.
إن السيد أحمد الشريف هو بنفسه أمة، وإن سيرة السيد أحمد الشريف هي بذاتها تاريخ، وإن كل من عرف عن كثب ذلك السيد الغطريف؛ علم من أخلاقه وورعه وحلمه وعلمه، وزهده في الدنيا، وحبه لمعالي الأمور، وعزوفه عن سفاسفها، ومواساته للفقراء، وحنانه على الضعفاء، وشدته مع ذلك في الدين، وانحصار كل همومه في استتباب أمر المسلمين، ومحافظته على الفرائض والسنن، وغير ذلك من الأخلاق العالية، والهمم الشماء، والمنازل القعساء، ما يذكِّر بأخلاق الصحابة الكرام، بل يشبه من أخلاق الخلفاء الراشدين العظام.
ولا أقول هذا في مقام تأبين من عادة الناس أن يروا فيه الحسنات مجسمة، وأن يحملهم الموت على طي الهنات، وتناسي السيئات، بل أقول: إنه كان هذا لسان جميع من خالطوه، والفقيد رحمه الله ملان حياة وكل من خالطه يعرف منه هذه الأخلاق بأجمعها، ويعرف أكثر منها، وطالمـا كان يقول الأمير سعيد حليم، الصدر الأعظم: إن الأمة الإسلامية والدولة العثمانية لم تقدِّر هذا الرجل حق قدره... وإني لمتذكر كوننا صمنا شهر رمضان في مرسين، وذلك سنة (1342 هـ)، فكنت أفطر في منزلي بالبلدة، ثم أذهب إلى (خرستيان كوى) حيث يقيم السيد، ونصلي وراءه العشاء والتراويح، وكان يجتمع المغاربة الذين في مرسين نحواً من أربعين شخصاً، ويصلون وراءه أيضاً، فكان يقرأ خمس القران في كل صلاة، وكنت صليت وراءه ساعتين، فعجزت عن ذلك، وصرت أقتصر على صلاة العشاء، وكانوا هم يصلون التراويح، وبعد الصلاة نجلس إلى السحور، وكان في القراءة يتدفق كالسيل ولا يتوقف، ولا يتردد ولا يتلعثم، وكنت أقضي من ذلك العجب العجاب، وأقول: كيف أن رجلاً كهذا الرجل قد توسط بين الخمسين والستين من العمر، وتحمل من الهموم والأثقال ما تنوء به الجبال، وهو لا يزال يتذكر كتاب الله كله، ويقرؤه عن ظهر قلب كقراءته للفاتحة؟! ولم أتذكر أنه مدة الشهر من أوله إلى اخره وفي الختمات الست التي ختمها لكتاب الله توقف في القراءة أكثر من ثلاث أو أربع مرات، كان يقف قليلاً ليتذكر الاية، وكان وراءهُ شاب تونسي حافظ، فيسرع بإلقائه إياها، فيمضي في القراءة مضاء السهم، وهذا غريب فيمن بلغ تلك السن، وانطوى على ذلك الهم العظيم، من فراق الأوطان، وتنوع الأشجان، وجور الحدثان.
ولم يكن للسيد غرام في الدنيا إلا بأمر هذه الأمة، ولما سألته عند اجتماعنا في مكة عن أولاده الذين تركهم أطفالاً؟ أجابني: قد صاروا الان رجالاً، وما أنا بمفكر في أمرهم، وإنما يهمني أمر هذه الأمة المعذبة في طرابلس، وكان في قلبه من أمر طرابلس ما لا يعلمه إلا الله، ولكنه كان في إيمانه في ثبات الجبال، وكان يرى في هذه المصائب مقدمات يقظة الإسلام...
اللهم إنه كان من أجلِّ العارفين بك، وأبرِّ القائمين بأوامرك ونواهيك، وأشدِّ المحبين لعيالك الخلق، وأصلب المتمسكين بكلمتك الحق، وإنه كان القدوة المثلى بين خلائقك، والحجة الوثقى بحقائقك، والرجل الذي أدى إلى اخر نفس من أنفاسه جميع الواجب الذي عليه لدينه ولقومه، وللإنسانية التي كان لها مثالاً، فأعلِ درجته يا رب في جوار قدسك، ونور وحشة قبره بأنسك، وبوئه في عقباه المقام الكريم الذي يليق بكرمك العميم، وبثوابك لمن سلكوا الصراط المستقيم، واستحقوا النعيم المقيم، إنك أنت الرحمن الرحيم».
لقد نعت أحمد الشريف رحمه الله أغلب الصحف في المشرق الإسلامي بأقلام أكابر الشعراء والكتاب، وقد كتب السيد عبد الرحمن عزام فصلاً عن حياة السيد أحمد الشريف نشرته جريدة (البلاغ) الغراء الصادرة بمصر.
وقد صلى عليه المسلمون صلاة الغائب بعد صلاة الجمعة الأولى من شهر المحرم فاتحة سنة (1352 هـ)، وقالت مجلة (المنار): تقام صلاة الغائب على الزعيم الإسلامي المجاهد العظيم والمرشد الشهير السيد أحمد الشريف السنوسي في جميع المساجد الجامعة في القطر المصري، وسائر الأقطار التي بلغتها الدعوة إلى هذه الصلاة من مكتب المؤتمر الإسلامي العام في القدس الشريف، ستكون هذه الصلاة ممتازة بمعنى لم يسبق لها نظير في مثيلاتها من صلاة الغائب التي يقيمها المسلمون في بعض الأقطار عندما يموت عظيم من عظماء الإسلام في علمه الواسع وعمله النافع، لا باتصاف السيد السنوسي بشرف الحسب، ولا باشتهاره بالصلاح والتقوى، ولا بمكانه المعروف في العلم والعمل، والإرشاد والإصلاح، والبر والإحسان، ولا بالجاه العريض الذي ناله بتقليده سيف البيعة للسلطان محمد الخامس، وإنعام السلطان عليه بلقب الوزارة والنيشان المرصَّع، فكان أول عالم مرشد معهم تحلى بها، كما تقدم انفاً، بل تمتاز هذه الصلاة على هذا الرجل العظيم بعمل له هو الذي تم به كماله، وهو الجهاد بماله ونفسه في سبيل الله؛ دفاعاً عن دينه، وقومه، ووطنه، وبما ال إليه أمره من جراء هذا الجهاد من هجرته الأولى إلى بلاد الترك، ثم إخراجه منها وتعذر رجوعه إلى وطنه، وتعذر إقامته في سورية، ومصر، وفي كل قطر إسلامي خاضع لنفوذ الدول الاستعمارية الثلاثة المحاربة للإسلام المستذلة للمسلمين، وقد قاتلها كلها في سبيل الله، حتى لجأ أخيراً إلى مهد الإسلام في حرم الله، وحرم رسوله (ص)، ومات بجوار جده صلوات الله وسلامه عليه وعلى اله، فبهذا كله صار للصلاة عليه معنى لم يسبق لغيره من عظماء الإسلام المعاصرين.
هذا وقد أبَّنه الشاعر الكبير الأستاذ أحمد محرم المصري بقصيدة، قال فيها:
هتف النعي فما ملكتُ بياني ليت النعي إلى الإمام نعاني
فزع الحطيم وراع يثرب عاصف للموت ضج لهوله الحرمان
سهم أصاب المسلمين وجال في كبد الهدى وحشاشة الإيمان
جرح الأئمة واستمر فما ارعوى حتى استباح مقاتل الفرسان
ذهب الإمام يقيم حائط دينه ويراه أنفع ما يقيم الباني
ذهب المجاهد يشتري لبلاده عز الحياة بأشرف الأثمان
– وأما الأستاذ عبد القادر المجددي الأفغاني نزيل الحجاز؛ فقد قال قصيدة عصماء في رثاء أحمد الشريف، من أبياتها:
الله أكبر ما هذه المصيبات ذابت لأهوالها منا الحشاشات
أعلام جيش الهدى قد نكست جزعاً لما توالت من الأيام صدمات
مات الذي كان للإسلام خير حمى رباه رحماك ما هذه الدهيات
من للبواتر من بعد الفقيد ومن للمشرفية إن صحت ملاقاة
– إلى أن يقول:
ذببـت عن حـوض هـذا الدين متكـلاً على الإلـه فوافتك الشهادات
في الغرب في الشرق في الإسلام في عرب بطن الصحائف من ذكراك ايات
– هذه قصة أحمد الشريف السنوسي، السيد الصنديد، والعالم الجليل، والعابد الخاشع، والمجاهد الشجاع، والمهاجر الحزين، حاولت جاهداً أن أوضح للقارأى الكريم ملامحها الإيمانية، وروائحها الزكية، وروحها الأبية، وحياتها المليئة بالدعوة، والجهاد، والعبادة، والعطاء لهذا الدين العظيم.
إن هذه السيرة العطرة تبين لمسلمي ليبية أن من أصلاب أجدادهم خرج مثل هؤلاء الأبطال، وعاشوا للذود عن الإسلام، ونشره بين الأنام، وبذلوا الأنفس والأموال، وتقيم الحجة الدامغة بالبراهين الساطعة، والحجج الواضحة أن الشعب المسلم في ليبية خرج منه قادة وأبطال، ورجال عظام، ندر الزمان أن يأتي بمثلهم وأن شجرة الإسلام الزكية الضاربة بجذورها في شعبنا منذ زمن الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ لكفيلة بأن تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها، وأن ما نحن فيه من عثرة، وكبوة، وذلة، وبلاء (لا شك أنه من ذنوبنا)، كما أنها فترة تمر بها الشعوب قبل تمكينها، فإلى الغد المشرق مع فجر الإسلام النير، فلتكن الهمم متجهة، ولتتوحد الصفوف للعمل والتضحية والعطاء، والبذل من أجل أن تصبح بلادنا قلعة من قلاع المسلمين الحصينة؛ منها تخرج جيوش المجاهدين، والدعاة العاملين، وتستقبل وفود طلاب العلم من العالم أجمع، ونسأل الله تعالى أن تعود بلادنا كما كانت وأكثر في دعوتها للإسلام وجهادها في سبيله، على أسس صحيحة من كتاب الله وسنة رسوله الكريم، وهدي الصحابة الميامين، ومن تابعهم إلى يوم الدين.
وعلى أحمد الشريف السنوسي وإخوانه الميامين الذين سطروا لنا هذا التاريخ العظيم، عليهم من الله المغفرة والرحمة والرضوان.
وكأن الشاعر عندما صاغ الأبيات الاتية يجسد لنا حال أحمد الشريف رحمه الله:
أقسمت أن لا أنثني عن غايتي ما دمت أحمل مصحفي وسلاحي
سأُعيد للإسلام سالف مجده بعزيمتي وبوحدتي وكفاحي
أنا مسلم لا أرتضي بعقيدة تُملى من الدَّجَّال والسفاح
أنا مسلم سجلتُ أروعَ صفحةٍ بعقيدتي وعدالتي وصلاحي
أنا ثائر أبني الحياة كريمةً وعزيزةً وعلى هدى وفلاح
في الأرض أبذر شرعَ دين محمد ويشعُّ نور جلاله الوضاح
أقسمت يا وطني بأن لا أنحني إلا لربِّي فالق الإصباح
قسماً بأن أسعى لإسعاد الورى سعياً حثيثاً مؤذناً بنجاح
مراجع البحث:

1.علي محمد محمد الصلابي، مِنْ أَعْلَامِ التَّصَوُّفِ السُّنِّيِّ: 7سيرة الزعيم أحمد الشريف السنوسي،دار الروضة،اسطنبول،1438ه،2017م ص(182:171).
2. لوثروب ستودارد، حاضر العالم الإسلامي، المحقق: شكيب أرسلان -عجاج نويهض، دار الفكر، ط3، 1971، (2/396 إلى 405).
3. أحمد الطيب الاشهب، برقة العربية بين الأمس واليوم،دار الهواري:القاهرة،1364ه،1945م، ص (326).
4. محمد رشيد رضا، مجلة المنار (2/137) لعام (1933م).


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022