من كتاب الدولة الأموية عوامل الازدهار وتداعيات الانهيار (ج2):
براءة الحسن البصري من الاعتزال:
الحلقة: 175
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
رجب 1442 ه/ مارس 2021
يزعم المعتزلة أن الحسن البصري قال بالقدر على مذهبهم وأنه منهم، فيروون عن داود بن أبي هند أنه قال: سمعت الحسن يقول: كل شيء بقضاء وقدر إلا المعاصي. ويوردون رسائل أرسلها إلى عبد الملك بن مروان وفيها قوله بالقدر على مذهب المعتزلة، ويقولون: إن رسائله مشهورة. وقد تحمس الشيخ محمد أبو زهرة ليثبت أن الحسن البصري كان يقول بالقدر على مذهب المعتزلة، والرد على هذه الدعاوى الخالية من الحجج والبراهين والأدلة كالتالي:
أ ـ أن المعتزلة أنفسهم لا يقطعون بنسبة الحسن إليهم، ولذا نرى ابن المرتضى لما ذكر الحسن وقوله في القدر قال: (فإن قلت: فقد روى أيوب: أتيت الحسن، فكلمته في القدر فكف عن ذلك، قلت: فقد روى أنه خوفه بالسلطان فكف عن الخوض فيه. وهل يخاف الحسن السلطان وهو الرجل الذي يجهر بالحق دائماً؟!.
ب ـ أما بالنسبة للرسالة المنسوبة إليه فيقول عنها الشهرستاني: ورأيت رسالة نسبت إلى الحسن
البصري كتبها إلى عبد الملك بن مروان، وقد سأله بالقول بالقدر والجبر فأجابه فيها بما يوافق مذهب القدرية، واستدل فيها بايات من القران الكريم ودلائل من العقل، ولعلها لواصل بن عطاء، فما كان الحسن ممن يخالف السلف في أن القـدر خيره وشره من الله ـ تعالى ـ فإن هذه الكلمات المجمع عليها عندهم . وهذه الرسالة لم تصح نسبتها إلى الحسن، والمعتزلة ينسبون إلى الحسن أقوالاً بروايات منقطعة، فالمرتضى حين ذكر أهل العدل والتوحيد عد منهم الحسن البصري وترجم له ترجمة طويلة، ولما أراد أن يثبت أنه من أهل العدل قال: فمن تصريحه بالعدل، ما رواه علي بن الجعد قال: سمعت الحسن يقول: من زعم أن المعاصي من الله عز وجل جاء يوم القيامة مسوداً وجهه وقرأ: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ*}[الزمر: 60].
وعلي بن الجعد الذي يقول: سمعت الحسن ؛ لم يسمع منه ولم يلقه ، فهذه رواية منقطعة .
جـ وابن قتيبة يذكر عن الحسن البصري أنه تكلم في شيء من القدر، ثم رجع عنه، ولكنه يذكر بعد ذلك مباشرة أن عطاء بن يسار ومعبداً الجهني كانا يأتيان الحسن، فيسألانه ويقولان: يا أبا سعيد إن الملوك يسفكون دماء المسلمين، ويأخذون الأموال، ويفعلون ويفعلون، ويقولون: إنما تجري أعمالنا على قدر الله ! فقال: كذب أعداء الله، قال ابن قتيبة: فتعلق عليه بمثل هذا وأشباهه .
ويشبه هذا ما يروى عن الحسن: أنه قال ـ وهو محق في قوله ـ: إن الله تعالى بعث محمداً ﷺ إلى العرب وهم قدرية مجبرة يحملون ذنوبهم على الله، ويقولون: إن الله سبحانه قد شاء ما نحن فيه وحملنا عليه وأمرنا به، فقال عز وجل: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ *} [ الأعراف : 28] . فهل كلام الحسن ـ رحمه الله ـ في الروايتين دل على أنه قدري؟
إن الجواب على ذلك واضح بداهة لأنه يرد على الذين يحتجون بالقدر على كفرهم ومعاصيهم، ولا شك أن هذا
الاحتجاج باطل، وكلام الحسن حق . وقد أشار ابن تيمية إلى أنه قال: قد اتهم بمذهب القدر غير واحد، ولم يكونوا قدرية، بل كانوا لا يقبلون الاحتجاج على المعاصي بالقدر، كما قيل للإمام أحمد: كان ابن أبي ذؤيب قدرياً، فقال: الناس كل من شدد عليهم بالمعاصي قالوا: هذا قدري. وقد قيل: لهذا السبب نسب إلى الحسن القدر.
د ـ وهناك روايات تنفي هذا الزعم، فعن عمر مولى غفرة قال: كان أهل القدر ينتحلون الحسن بن أبي الحسن، وكان قوله مخالفاً لهم ؛ كان يقول: يا بن ادم، لا ترضِ أحداً بسخط الله، ولا تطيعنّ أحداً في معصية الله، ولا تحمدن أحداً على فضل الله، ولا تلومن أحداً فيما لم يؤتك الله، إن الله خلق الخلق والخلائق، فمضوا على ما خلقهم عليه، فمن كان يظن أنه مزداد بحرصه في رزقه فليزدد بحرصه في عمره، أو يغير لونه، أو يزيد في أركانه أو بنانه .
هـ ومعلوم أن المعتزلة أجمعوا على أصولهم الخمسة، والحسن البصري يعتبر القول بالمنزلة بين المنزلتين بدعة تخرج صاحبها عن عقيدة الجماعة، ولذلك اعتزل واصل بن عطاء حلقة الحسن لما خالفه في هذا الأصل، فكيف مع هذا يعتبر الحسن من علمائهم المنتسبين إليهم ؟!.
و ـ وقد اشتهر عن بعض المعتزلة القدرية أنهم يكذبون على الحسن البصري، فقد ذكر عبد الله بن أحمد في كتاب السنة عدة روايات تدل على ذلك، فمن ذلك ما رواه عن حميد قال: قدم الحسن مكة فقال فقهاء مكة الحسن بن مسلم وعبد الله بن عبيد: لو كلمت الحسن فأخلانا يوماً. فكلمت الحسن فقلت: يا أبا سعيد إخوانك يحبون أن تجلس لهم يوماً، قال: نعم ونعمة عين، فواعدهم يوماً فجاؤوا فاجتمعوا، وتكلم الحسن وما رأيته قبل ذلك اليوم ولا بعده أبلغ منه ذلك اليوم، فسألوه عن صحيفة طويلة، فلم يخطئ فيها شيئاً إلا في مسألة، فقال له رجل: يا أبا سعيد من خلق الشيطان؟ قال: سبحان الله، سبحان الله، وهل من خالق غير الله، ثم قال: إن الله خلق الشيطان وخلق الشر والخير، فقال رجل منهم: قاتلهم الله يكذبون على الشيخ.
وقال حميد لمن نقل عن عمرو بن عبيد حديثاً رواه الحسن: لا تأخذ عن هذا ؛ فإنه يكذب على الحسن . وروى عبد الله بن أحمد عن حماد بن زيد قال: قيل لأيوب: إن عمراً (أي عمرو بن عبيد) روى عن الحسن أنه قال: لا يجلد السكران من النبيذ، قال: كذب، أنا سمعت الحسن يقول: يجلد السكران من النبيذ .
فهذه الروايات وغيرها، تدل على أن دعوى أن الحسن البصري ـ رحمه الله ـ كان قدرياً أو كان يقول بقولهم ليست صحيحة. وإنما غرض المعتزلة هو التشرف بانتسابه إليهم، وإلا فكيف عدّوه منهم ؟! والمعتزلة ذكروا مع الحسن غيره، بل وعدّوا من الطبقة الأولى من طبقاتهم الخلفاء الراشدين وغيرهم من الصحابة . وواضح أن إدراج هؤلاء ضمن المعتزلة إنما قصد به بيان أن المعتزلة هي أتقى الفرق وأبرها . ومعلوم لدى طلاب العلم وعموم المسلمين أن الخلفاء الراشدين والصحابة الكرام براء من تهمة الاعتزال، وإنما هم سادة علماء أهل السنة والجماعة الذين ساروا على منهاج النبوة..
يمكنكم تحميل كتاب الدولة الأموية عوامل الازدهار وتداعيات الانهيار
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي:
الجزء الأول:
http://alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC9(1).pdf
الجزء الثاني:
http://alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC139.pdf
كما يمكنكم الاطلاع على كتب ومقالات الدكتور علي محمد الصلابي من خلال الموقع التالي:
http://alsallabi.com