وفاة كليم الله موسى (عليه السلام)
مختارات من كتاب الأنبياء الملوك
بقلم: د. علي محمد الصلابي
الحلقة (5)
كان نبي الله ورسوله موسى (عليه السلام) من أُولي العزم من الرسل، الذين حققوا التوحيد وإفراد الله بالعبادة، وحارب فرعون ونظامه الظالم بالعقل والحكمة والحجج والبراهين، وجعله الله سبباً في إنقاذ بني إسرائيل من النظام الاستبدادي الفرعوني. وقد تميّزت شخصيتُه العظيمة بصفات جميلة، وأخلاق كريمة: فقد كان كثير الدعاء لله عز وجل، والتضرع بين يديه، وشديد الخوف منه، ومتوكلاً عليه، وصابراً على تكاليف الدعوة ومشاقها صادقاً مع ربه، شجاعاً لا يخاف إلا الله، عالماً وحكيماً وأميناً وقوياً ورحيماً ومُعيناً للمُستضعفين، وغير ذلك من الأخلاق الحميدة، والصفات الكريمة التي عاش بها وسط الناس، ودعا إليها وعلمها لمن استجاب لدعوته. وقد أسهمت تلك المنظومة الأخلاقية المتينة في التأسيس الأخلاقي والمنهج الرباني، الذي سار عليه الموحّدون لله عز وجل في عهده وبعد وفاته، ومن أهمّ تلك الأخلاق والصفات: الإخلاص والصبر، عبوديته لله، تعظيم موسى (عليه السلام) لربه وخوفه، والتّوكل على الله، والشكر، والإحسان والعلم، والقوة الإيمانية، وكثرة الدعاء والتواضع، والاعتراف بالخطأ، والشهامة ومساعدة الضُّعفاء، والعزيمة. فقد استمر بنو إسرائيل في التيه بسيناء، وواصل موسى (عليه السلام) مسيرته ودخول الأرض المقدسة لتربيتهم على قيم الجهاد، وخلال هذه الفترة توفي نبي الله هارون (عليه السلام)، فقد كان هارون (عليه السلام) حيًّا مع بداية التيه، قال تعالى:﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (25) قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (26)﴾ [المائدة: 25 - 26]، ولم يرد له ذكر في القرآن، ولا في الحديث الصحيح بعد ذلك.
وتحدّثتِ الإسرائيلياتُ كثيراً عن وفاة هارون (عليه السلام)، وفصّلت في ذلك، فذكرت اتهام بني إسرائيل لموسى (عليه السلام) في قتل هارون، ودفاع موسى عن نفسه. وحدّدت المكان الذي دُفن فيه هارون، لكننا لن نذهب مع تلك الإسرائيليات، ونؤمن بما ورد في الآيات القرآنية والأحاديث الصحيحة. وبعد وفاة هارون استمرّ موسى (عليه السلام) يربّي الجيل الجديد من بني إسرائيل، ويساعده في ذلك فتاه الصّالح يوشع بن نون.
وأخيراً حان أجل موسى (عليه السلام)، وقدّر الله أن ينهي حياته التي عاشها في الابتلاءات والمحن وواجهها بالصبر والثبات والاحتمال، وبذل جهده في تربية بني إسرائيل والارتقاء بهمتهم وعزائمهم. وجاءه الأجل، وهو يربي الجي الجديد من قومه، ويُعدّهم لدخول الأرض المقدسة. عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن رسول الله (ﷺ) -في حديث الإسراء والمعراج - قال: «مررت عَلَى مُوسَى لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي عِنْدَ الْكَثِيبِ الْأَحْمَرِ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي قَبْرِهِ».
أي: أن رسول الله شاهد موسى (عليه السلام) قائماً يُصلّي في قبره عند الكثيب الأحمر، وهو في طريقه من المسجد الحرام في مكة إلى المسجد الأقصى في بيت المقدس في رحلة الإسراء والمعراج.
قال الشيخ صلاح الخالدي: إن طريق الإسراء كانت هي الطريق ما بين الحجاز وبلاد الشام، فلعل الكثيب الأحمر المذكور في الحديث في منطقة معان جنوب الأردن أو منطقة وادي عربة، أو منطقة شرق نهر الأردن. ويدل الحديث على أن موسى (عليه السلام) حي في قبره، وحياته خاصة ليست بمقاييس حياتنا الدنيا لأنه غادر هذه الحياة، إنما حياته حياة برزخية تليق به. ومعلوم بأن الأنبياء أحياء في قبورهم، يحيون حياة خاصة، وأن الأرض لا تأكل أجسامهم.
وكان موسى (عليه السلام) قائماً في قبره يُصلي لله سبحانه، وهي صلاة خاصة، وذكر لله وثناء عليه، وليست تكليفاً، لأنه لا تكليف بعد الموت.
والخلاصة: لا يمكننا تحديد المكان الذي دفن فيه موسى (عليه السلام)، فكل ما ذكره الحديث أن قبره بجانب الطريق عند الكثيب الأحمر، كما أن هذا القبر والكثيب الأحمر ليسا في الأرض المقدسة، وإنما هما على مشارفها على بُعد رمية حجر منها، لأن موسى (عليه السلام) توُفّي قُبيل دخول قومه الأرض المقدسة، وهم دخلوها بعد دفنه، وكانوا بقيادة خليفته يوشع بن نون ولم يأخذوه معهم، ولم يدفنوه في الأرض المقدسة، لأن كل نبي يدفن في المكان الذي تُوفّي فيه.
ودليل ذلك ما رواه أحمد والترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أنّ أصحاب النبي ﷺ لم يدروا أين يقبرون النبي ﷺ، حتى قال أبو بكر رضي الله عنه: سمعت رسول الله ﷺ، يقول: «لَنْ يُقْبَرَ نَبِيٌّ إِلَّا حَيْثُ يَمُوتُ».
وروى ابن ماجه: عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال سمعتُ رسولَ اللهِ ﷺ يقول: «ما قُبِضَ نبيٌّ إلا دُفن حيثُ يُقبضُ»؛ وهذا معناه أن موسى (عليه السلام) دفن في المكان الذي قُبض فيه، ولم يدفن في الأرض المقدسة، ولم ينقل إليها. والله أعلم.
وهكذا انتهت حياة موسى (عليه السلام)، وبقيت سيرته وقصته التي عاشها لله ومع الله وبالله وفي سبيل دعوة التوحيد، وتعليم الناس عبادة الله وشرعه، وإنقاذ المستضعفين، وإقامة الحجة على الفراعنة الجاحدين.
لقد عاش موسى (عليه السلام)، واستطاع أن يُرسي قواعد حضارة ربانية أسست على تقوى الله وتوحيده، واكتملت تلك الحضارة بعد وفاته في عهد طالوت، وداوود، وسليمان (عليهم السلام)؛ فأصبحت لبني إسرائيل دولة داوود، ثم سليمان عليهما السلام، بعدما كانوا مستضعفين تحت حكم الفراعنة.
مراجع الحلقة:
- علي محمد محمد الصلابي، الأنبياء الملوك، الطبعة الأولى، دار ابن كثير، 2023، ص 39-43.
- صلاح الخالدي، القصص القرآني عرض وقائع وتحليل أحداث، دار القلم، دمشق - الدار الشامية، بيروت، ط1، 1419ه - 1998م، ص (3/332-341).
لمزيد من الاطلاع ومراجعة المصادر للمقال انظر:
كتاب الأنبياء الملوك في الموقع الرسمي للشيخ الدكتور علي محمد الصلابي: