الخميس

1446-11-10

|

2025-5-8

*امتناع بني إسرائيل عن دخول الأرض المقدسة ومرحلة التيه*

مختارات من كتاب الأنبياء الملوك (عليه السلام)

بقلم د. علي محمد الصلابي ...

الحلقة (4)

 

قال تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (20) يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (21) قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ (22) قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23) قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (24) قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (25) قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (26)﴾ [المائدة: 20 26].

إن هذه القصة التي بين كليم الله موسى (عليه السلام) وقومه، التي جاءت في سورة المائدة، ونزلت في الفترة المدنية تتحدث عن مرحلة متقدمة في حياة موسى مع قومه، وهم على أبواب الأرض المقدسة التي وعدهم الله في تلك الفترة، وموقفهم كذلك من ميثاق ربهم معهم، وكيف نقضوه، وكيف كان جزاؤهم على نقض الميثاق. هذه الآيات الكريمة تُبيِّن موقفَ بني إسرائيل من نبي الله موسى (عليه السلام) الذي أرسله الله إليهم، وخلصهم على يديه من ظلم فرعون -الذي كان يذبّح أبناءهم، ويستحيي نساءهم- وطغيانه، وأنعم الله عليهم إكراماً لموسى (عليه السلام) نِعماً جلية جليلة، كتظليل الغمام، ونبع الماء من الحجر، وإنزال المنّ والسّلوى، وفوق كل ذلك أنزل عليهم التوراة نوراً وهداية. ومع كل هذه النعم وقفوا مع نبي الله موسى موقف الجحود والخذلان عندما طلب إليهم موسى أن يجاهدوا في سبيل الله، ويدخلوا الأرض المقدسة، وقبل أن يطلب إليهم ذلك ذكّرهم ببعض نِعم الله عليهم. وقد تناول العلماء التعليق على "مرحلة التيه" التي عاشها بنو إسرائيل؛ بسبب ما فعلوه:

أ- علّق ابن خلدون -رحمه الله- على حكمة الله في التيه، فقال: "إن حكمة ذلك التيه مقصودة، وهي إفناء الجيل الذين خرجوا من قبضة الذل والقهر والقوة، وتخلّقوا به، وأفسدوا من عصبيتهم، وحتى نشأ في ذلك التيه جيلٌ آخر عزيز لا يعرف الأحكام والقهر، ولا يسام بالمذلة، فنشأت لهم بذلك عصبية أخرى اقتدروا بها على المطالبة والتغلب. ويظهر لك من ذلك أن الأربعين سنة أقل ما يأتي فيها فناء جيل ونشأة جيل آخر. سبحان الحكيم العليم".

ب- وقال محمد رشيد رضا -رحمه الله- تعليقاً على هذه القصة: "إن الشعوب التي تنشأ في مهد الاستبداد، وتساس بالظلم والاضطهاد، تفسد أخلاقها وتذل نفوسها، ويذهب بأسها، وتُضرب عليهم الذلة والمسكنة، وتألف الخضوع، وتأنس بالمهانة والخنوع. وإذا طال عليها أمد الظلم تصير هذه الأخلاق موروثة ومكتسبة، حتى تكون كالغرائز الفطرية والطبائع الخِلْقية، إذا أخرجت صاحبها من بيئتها، ورفعت عن رقبته نيرها، ألفيته ينزع بطبعه إليها، ويتفلّت منك ليقتحم فيها".

وقال أيضا: فعلينا أن نعتبر بهذه الأمثال التي بيّنها الله تعالى لنا، ونتعلم أن إصلاح الأمم بعد فسادها بالظلم والاستبداد إنما يكون بإنشاء جيل جديد يجمع بين البداوة واستقلالها وعزتها، وبين معرفة الشريعة والفضائل والعمل بها. وقد كان يقوم بهذا بعد ختم النبوة ورثة الأنبياء، الجامعون بين العلم وسنن الله في الاجتماع، وبين فترة البصيرة والإخلاص والصدق في حب الإصلاح، وإيثاره على جميع الأهواء والشهوات، ومن يضلل الله فماله من هاد.

وهكذا انفصل موسى وأخوه هارون -عليهما السلام- بمن أطاعهما واتبعهما من بني إسرائيل، انفصلا وافترقا عن الأغلبية الضالة الفاسقة من بني إسرائيل، وتاه بنو إسرائيل الفاسقون في صحراء سيناء، وصاروا يتخبطون بين شعابها ووديانها في حيرة وتيه وضلال وضياع، لا يعرفون ماذا يفعلون، ولا أين يسيرون، وهذا ما جنَوْه على أنفسهم، وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون. وبدأ أفراد ذلك الجيل يموتون تباعاً، ويخرجون من هذه الدنيا مجللين بالذل والضعف والهوان.

وهكذا تنتهي حياة موسى (عليه السلام) مع هذا الجيل من بني إسرائيل بعد محاولاته المستمرة للارتقاء بهم، لكنهم لم يتجاوبوا معه لتنتهي حياته معهم بيأسه منهم والتوجّه لتربية أبنائهم على الخشونة والشدة والجهاد. وأما هم فقد غادروا هذه الدنيا تائهين، حيارى، ضائعين. ويتركهم السّياق القرآني هنا في التيه، لا يزيد على ذلك، وهو موقف تجتمع فيه العبرة النفيسة إلى الجمال الفني، على طريقة القرآن في التعبير، وكانت هذه بعض آثار المنهج القرآني في التربية بالقصص عامة، وبعض جوانب الحكمة في تفصيل قصة بني إسرائيل.

مراجع الحلقة:

- علي محمد محمد الصلابي، الأنبياء الملوك، الطبعة الأولى، دار ابن كثير، 2023، ص 34-39.

- سيد قطب، في ظلال القرآن، دار الشروق، القاهرة، ط17، 1412ه، ص (2/868).

- عبدالحميد محمود طهماز، التفسير الموضوعي لسور القرآن، دار القلم، دمشق، ط1، 1435ه، ص (2/283).

- محمد رشيد رضا، تفسير المنار (تفسير القرآن الحكيم)، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1990م، ص (6/279).

 

لمزيد من الاطلاع ومراجعة المصادر للمقال انظر:

كتاب الأنبياء الملوك في الموقع الرسمي للشيخ الدكتور علي محمد الصلابي:

https://www.alsalabi.com/salabibooksOnePage/689


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022