في سيرة صلاح الدين الأيوبي:
حصار صور واستكمال الفتوحات الإسلامية في عهد صلاح الدين :
الحلقة: التسعون
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
محرم 1442 ه/ سبتمبر 2020
حقَّق صلاح الدين في سنة 583 هـ/1187 م انتصاراتٍ عظيمةً ضدَّ الصليبيين ، سيطر خلالها على معظم أنحاء مملكة بيت المقدس ما عدا مدينة صور؛ التي وصفها المؤرخون المسلمون بأنَّها مدينةٌ حصينةٌ متوسطةٌ في البحر ، كأنها سفينة ، ليس لها طريق إلى البر إلا من مكانٍ واحدٍ له سبعة أبراج. فضلاً عما كانت تتمتَّع به من أسوارٍ منيعةٍ ، وأبراج عاليةٍ ، قد امتلأت بالصَّليبيين الهاربين إليها بسبب الأمان الذي منحه صلاح الدين للصَّليبيين مقابل تسليم مدنهم له، وإذا كان الصَّليبيون قد فقدوا في معاركهم ضدَّ صلاح الدين معظم زعمائهم ، وقادتهم؛ الذين وقعوا بين قتلى وأسرى؛ فإنه قد ظهر بينهم بعض القادة الأكفاء الَّذين تولَّوا مهام أمورهم خاصة كونراد منونتفرات؛ الذي وصفه ابن شدَّاد بقوله: إنه كان رجلاً عظيماً ذا رأيٍ ، وبأسٍ شديد في دينه ، وصرامةٍ عظيمة. ووصفه سبط ابن الجوزي بأنه: كان شجاعاً حازماً. وكونراد هذا ، أو المركيس ـ كما تسمِّيه المصادر العربية أصبح زعيماً للصَّليبيين ، وقبل مَنْ بداخل المدينة من الأمراء ، وفرسانهم أن ينضووا تحت لواء كونراد ، ويعترفوا له بالزعامة عليهم مقابل تَعَهُّده بالدِّفاع عنهم ، وحمايتهم من هجمات المسلمين ، كما تقَرَّر رفض ما عرضه صلاح الدين من شروط أثناء المفاوضات، وسارع في إرسال الوفود لطلب المدد ، والعون من الغرب الأوروبي ، وحمل عبء الدفاع عن ما تبقَّى من الكيان الصَّليبي في بلاد الشام حتى قدوم الحملة الصليبية الثالثة.
واضطر صلاح الدِّين لرفع الحصار الأول لصور قبل فتح بيت المقدس ، وعمل كونراد على تقوية استحكامات المدينة، وإعدادها للمعركة المنتظرة ، فحفر خندقاً في الجانب الشرقي وهو الجانب الوحيد الذي يربط المدينة بالبر ، فأضحت المدينة كالجزيرة ، وحصَّن أسوارها ممَّا زاد في مناعتها. ولما عاد صلاح الدين إلى حصارها في 22 رمضان / من تشرين الثاني ، وبدأ الحصار بضرب أسوار المدينة بقذائف المنجنيق ، واستعمل المسلمون مختلف أنواع الأسلحة لاقتحامها ، لكن دون جدوى ، فقد صمدت المدينة في وجه الضَّرب ، والهجمات الإسلاميَّة البريَّة، والبحرية ، عندئذٍ لجأ صلاح الدين إلى الأسلوب السِّياسي لإقناع كونردا بالتَّسليم؛ إذ كان والده وليم الثالث أسيراً في قبضة صلاح الدين ، فحاول أن يستغلَّه كورقة ضغط في التاثير عليه ، وهدَّد بإعدامه ، لكن هذه المحاولة فشلت أمام تصلُّب كونراد؛ الذي ردَّ على صلاح الدين بأنه يفضل أن يُذْبَحَ هو ، وأبوه عن أن يسلِّم جزءاً من المدينة.
وتجاه هذه التطورات السياسية ، والعسكرية اضطَّر صلاح الدين إلى رفع الحصار عن صور في اخر شوال 583 هـ/أول كانون الثاني 1188 م وكان ذلك أول فشل يتعرَّض له في أعماله العسكرية ضدَّ الصليبيين منذ معركة حطِّين ولقد تضافرت عدَّة عوامل دفعت صلاح الدين إلى فكِّ الحصار عن صور ، من أهمِّها:
ـ كان الوضع النفسي للجيش الأيوبي حرجاً بعد أن جابهته صعوبةٌ في فتح المدينة ، وقد أشار بعض قادته بأنَّ العساكر بحاجة إلى الرَّاحة.
ـ دعاء الأمراء الأغنياء ، والممولين للجيش إلى فكِّ الحصار عن صور ، لأنَّهم خشوا أن يقترض صلاح الدين منهم ما ينفقه على أفراد الجيش إذا استمرَّ الحصار ، في حين كان رأي صلاح الدين متفقاً مع رأي بعض قادته الاخرين القاضي باستمرار مرابطة الجيش أمام صور ، مع الاتجاه باقتراض الأموال من الأغنياء ، لكنَّ هؤلاء ألحُّوا عليه برفع الحصار.
ـ انفتاح صور على البحر بعد فشل الحصار البحري الذي ضربه الأسطول المصري عليها ، فاستمرَّت المؤن والعتاد في الدُّخول إليها.
ـ تساهل صلاح الدين مع صليبي المدن المفتوحة ، والسَّماح لهم بالتجمُّع في صور ، ممَّا رفع معنويات هؤلاء ، فتكتَّلوا للدِّفاع عن المدينة.
ـ أدَّت العوامل الطبيعية دوراً اخر في فشل الحصار؛ إذ جاء شتاء ذلك العام مطيراً ، والبرد شديداً ، كما تفشَّى المرض في المعسكر الأيوبي.
ويُبدي المؤرخون المسلمون أسفهم العميق لفشل صلاح الدين في فتح صور. وأما المؤرخ ابن الأثير ـ الذي عرف بتحامله على صلاح الدين ـ حمَّل صلاح الدين مسؤولية ما حدث للمسلمين في صور ، وذكر: أنَّه لم يكن لأحد ذنب في أمر صور غير صلاح الدين ، فإنَّه هو الذي جهَّز جموع الصَّليبيين ، وأمدَّها بالرجال ، والأموال من أهل عكَّا ، وعسقلان ، والقدس، وغيرها ، وذلك بسبب إفراطه في التسامح مع الصَّليبيين. أما سبط ابن الجوزي فيرى: أن صلاح الدين ضيَّع الفرصة على المسلمين بتسيير الصَّليبيين إلى صور ، ولم ينظر في عواقب الأمور ، وأنه كان من الواجب عليه عرضهم على الإسلام ، وإلا ضرب رقابهم بالسَّيف ، كما أنه شبَّه تلك الأحداث بما حدث في معركتي بدر ، وأحد. ويبدو: أنَّ ابن الأثير تحامل على صلاح الدين ، لأنَّه كان ربيب البيت الزنكي ، ولم ينس: أنَّ صلاح الدين قضى على ملكهم في الشام ، ولا يستبعد أن يكون سبط ابن الجوزي قد تأثر بابن الأثير في ذلك.
والواقع: أنَّ تلك الخطَّة التي اتَّبعها صلاح الدين مع الصَّليبيين ، والتي تقوم على تأمينهم مقابل تسليم المدن ، والحصون له أتاحت لصلاح الدين فرصة الاستيلاء على معظم مملكة بيت المقدس في شهور قليلة ، ما عدا أماكن قليلة منها مدينة صور ، وصلاح الدين لم يكن أمامه غير اتِّباع هذه الخطَّة؛ إذ لو عمد إلى الاستيلاء على مدن مملكة بيت المقدس عن طريق القوَّة ، والمصابرة؛ لطال أمر القتال ، هذا بالإضافة إلى أنَّه قد اختار سياسة التَّسليم مقابل الأمان عملاً بالشَّريعة الإسلاميَّة السمحاء.
لقد تصرَّف صلاح الدين طوال حروبه ، كأنَّه يحاول محاولةً واعيةً أن يجعل نفسه مقبولاً عند رعاياه المقبلين ، وأن يضع أساس دولةٍ تعيش فيها الدِّيانتان جنباً إلى جنب تحت ظلِّ السلطان، وكان هدف صلاح الدين سحق قوَّة الصليبيين السِّياسية ، ولم يكن إبادة المسيحيين.
لقد أثَّرت تصرفات صلاح الدين المستمدة من هدي الإسلام العظيم في السَّاسة الأوروبيين، وشعوبهم لما رأوا من عفوه الكريم ، وتسامحه النبيل ، فكان إسوةً حسنةً ، ومثلاً يُضرب للناس ، وكسب للإسلام بقلبه ، وسيفه ، وهذا ما جعل تشرشل يقول عنه: إنه من أعظم ملوك الدُّنيا ، ودفع الكاتب الإنكليزي «ريدر هجارد» إلى القول بأنَّه أعظم رجلٍ على وجه الأرض.
استكمال الفتوحات:
1 ـ فتح الكرك ، والشوبك:كانت «ستيفاني» صاحبة إقطاع ما وراء نهر الأردن ، المجاور لمملكة بيت المقدس من بين الأسرى؛ الذين تمَّ افتداؤهم بعد فتح بيت المقدس ، فطلبت من صلاح الدين أن يُطلق سراح ابنها «همفري» صاحب تينين ، فوافق صلاح الدين على طلبها ، لكنه اشترط مقابل ذلك تسليمه الحصنين الكبيرين ، الكرك ، والشوبك التابعين لهذا الإقطاع ، ويبدو أنَّ «ستيفاني» وافقت على شرط صلاح الدين ، فأفرج هذا الأخير عن ابنها في حين أوعزت هي إلى حاميتي الحصنين بالاستسلام؛ غير أنهما رفضا ذلك ، مما دفعها إلى إعادة ابنها إلى الأسر. تجاه هذا التصرف النبيل بادلها صلاح الدين بتصرف أنبل ، فأطلق سراح ابنها بعد عدَّة أشهر ، وحاصر الحصنين ، واستمرَّ حصار الكرك ، والشوبك ما يزيد على السنة ، تعرَّض المدافعون عنهما إلى الجوع ، والعطش ، ولم يَسْتَسْلِموا إلا بعد أن نفدت ذخائرهم ، وأكلوا دوابهم ، ويئسوا من وصول نجدةٍ تساعدهم على الصمود ، وصبروا حتى لم يبق للصبر مجال ، وكان ذلك في شهر ربيع الأول عام 584 هـ/شهر أيار عام 1188 م.
2 ـ الالتفاف نحو الشَّمال: بعد فتح المناطق الجنوبية لبلاد الشام ، واتصالها ببقية المناطق الإسلامية من أيلة في العقبة في الجنوب حتى بيروت في الشَّمال ، باستثناء صور؛ التفت صلاح الدين بعد ذلك إلى الشَّمال لفتح مناطق السَّيطرة الصليبية في إمارتي طرابلس ، وأنطاكية وكان ريموند الثالث ، صاحب طرابلس ، قد توفي كمداً بعد فراره من معركة حطِّين بوقتٍ قصير ، ولم ينجب ذريَّةً ، فأوصى بأن يخلفه الابن الأكبر لبوهيموند الثَّالث أمير أنطاكية ، ولكن هذا الأخير كان بحاجة إلى ابنه البكر إلى جانبه للدِّفاع عن إمارة أنطاكية؛ لذلك استبدله بابن اخر هو بوهيموند ، واجتاح صلاح الدين البقيعة بعد أن جاءته إمدادات من سنجار ، وهاجم حصن الأكراد في شهر (ربيع الاخر/حزيران ، وكان بحوزة الدَّاوية ، لكنه جُوبه بقوَّة استحكاماته ، ومناعته ، فتجاوزه إلى شواطىء طرابلس ، وأنطاكية وهاجم أنطرطوس في شهر «جمادى الأولى/تموز» ودخله ، لكن استعصت عليه القلعة ، فأمر بوضع النار في البلد ، وأحرق جميعه.
وحاصر حصن المرقب ، فامتنع عليه أيضاً ، فاتجه إلى بانياس في أقصى شمال إمارة طرابلس، وفتحها ، ثم أوغل في إمارة أنطاكية ، فأذعنت له القلعة الساحلية جبلة ، واستسلمت اللاذقية ، وهي أكبر موانىء إمارة أنطاكية ، وقد غادرها الصليبيون بعد أن عجزوا عن الدِّفاع عنها ، وفتح حصن بكسرائيل الواقع على طريق حماة مقابل جبلة. وتحوَّل صلاح الدين بعد ذلك إلى الدَّاخل ، واصطحب مع ابنه الظاهر غازي صاحب حلب ، فهاجم قلعة صهيون التابعة للاسبتارية ، وفتحها عنوةً ، واستسلمت له حاميتا بكاس ، والشغر الواقعتان في الشمال الغربي ، على نهر العاصي ، وسرمين ، وبرزية ، وهي اخر ما يقع من القلاع في أقصى الجنوب من نهر العاصي.
وبهذه الفتوح تمَّت السيطرة على جميع المخافر الأمامية لمدينة أنطاكية ، ولم يبق من حصون تابعة لهذه الإمارة سوى بغراس ، ودربساك في الشَّمال ، فهاجمها صلاح الدين ، فأذعنت له دربساك الواقعة في جبال الأمانوس ، وكانت تابعة للدَّاوية ، واستسلمت قلعة بغراس ، التابعة للداوية أيضاً ، وكانت تتحكَّم في الطريق المؤدِّي من أنطاكية إلى كيليكية. وهكذا أصبحت إمارتا طرابلس ، وأنطاكية مقصوصتي الجناح ، ولم يبقَ سوى مدينتي طرابلس ، وأنطاكية، فضلاً عن ميناء السُّويدية ، واحتفظ الأسبتارية بحصني المرقب ، والأكراد ، واحتفظ الدَّاوية بأنطرطوس، ونتيجة لما الت إليه أوضاع إمارة أنطاكية ، التمس بوهيموند الثَّالث من صلاح الدين عقد هدنة ، يعترف فيها بكلِّ فتوحاته ، وكانت العساكر الإسلامية قد أصابها الإرهاق نتيجة القتال المتنقِّل ، والمتواصل ، لذلك وافق على التماسه، وعقدت الهدنة بينهما ثمانية أشهر وأتاحت هذه الهدنة لصلاح الدين الالتفاف مجدداً إلى الجنوب ، وبعد أن سَرَّح قسماً من جيشه هاجم حصني الداوية في صفد ، والأسبتارية في كوكب ، وفتحهما في شهري (شوال وذي القعدة عام 584 هـ/كانون الأول عام 1188 م وكانون الثاني عام 1189 م.
يمكنكم تحميل كتاب صلاح الدين الأيوبي وجهوده في القضاء على الدولة الفاطمية وتحرير بيت المقدس
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي: