الأربعاء

1446-11-02

|

2025-4-30

في سيرة صلاح الدين الأيوبي:
طبيعة المفاوضات بين العادل وريتشارد في هذه المرحلة:
الحلقة: الثامنة و التسعون    
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
محرم 1442 ه/ سبتمبر 2020


بدأت المباحثات في 18 شوال سنة 588 هـ/9 تشرين الثاني سنة 1192 م عندما أرسل ريتشارد قلب الأسد رسالةً إلى صلاح الدين من معسكره قرب بازور ، يطلب منه الدُّخول في مفاوضات من أجل الصلح بحجَّة: أنَّ القتال أهلك كثيراً من قوى الطَّرفين ، وخربت البلاد. لكن هذه المفاوضات ـ التي أناب فيها صلاح الدين أخاه العادل ـ لم تلبث أن تعثَّرت بسبب إصرار ريتشارد قلب الأسد على استعادة بيت المقدس ، والإقليم الواقع غرب الأردن بما فيه من حصون ، وصليب الصَّلبوت ، بالإضافة إلى تَمسُّكه بعسقلان ، وكلُّها شروطٌ رفضها صلاح الدين، وعرض ريتشارد قلب الأسد بعد بضعة أيَّامٍ مقترحاتٍ جديدةً تقضي:
1 ـ بأن يتزوَّج الملك العادل أخو صلاح الدين من الأميرة جوانا ، أخت ريتشارد قلب الأسد، وأرملة ملك صقلية.
2 ـ يُعطي صلاح الدين أخاه كلَّ ما بحوزته من أراضي في فلسطين ، ويمنح ريتشارد قلب الأسد أخته ما بحوزته من المدن السَّاحلية بما فيها عسقلان؛ الَّتي احتلها مؤخراً.
3 ـ يقيم العروسان في بيت المقدس ، ويتردَّد النصارى على كنيسة القيامة.
4 ـ يستعيد النَّصارى صليب الصلبوت.
5 ـ يُطْلَق سراح الأسرى من الجانبين.
6 ـ تُرَدُّ إلى الدُّاوية والأسبتارية بعض القرى في فلسطين دون الحصون.
رحَّب العادل بهذا العرض ، ورأى في ذلك «عين الصَّواب» ولعلَّه هدف إلى توحيد المسلمين، والصليبيين في بلاد الشام تحت حكمه ، وإقرار الأمور في تلك البلاد على أساس المحبَّة ، والارتباط بين الطرفين.
ورأى صلاح الدين في هذا العرض نوعاً من المزاح ، لكنَّه أبدى سروره للموافقة عليه ، ويبدو: أن قبوله بهذا المشروع سببه الاعتقاد بأن ملك إنكلترا لن يتمكَّن من تنفيذ مشروعه ، وأن هذا منه هزءٌ ، ومكر. وسرعان ما ظهر: أنَّ العقبة في سبيل تنفيذ ذلك المشروع جاءت من جوانا نفسها؛ التي ارتاعت عندما سمعت بهذا العرض ، وقالت بأنَّه ليس ثمة ما يدعوها لأن تتزوَّج من رجلٍ مسلم ، ممَّا دفع بريتشارد قلب الأسد أن يطلب من العادل أن يعتنق النَّصرانية لتذليل تلك العقبة ، فرفض العادل ذلك.
والحقيقة: أنَّ قبول المسؤولين الثلاثة بهذا المشروع ، إنَّما يدل على التقارب السِّياسي ، والحضاري في بلاد الشَّام بعد مرور قرن على بداية الحروب الصَّليبية بالإضافة إلى روح التَّسامح؛ التي أخذت تنمو بوضوح في بعض تصرُّفات الفريقين ، بدليل: أنَّ الملك ريتشارد قلب الأسد اجتمع مع العادل على وليمةٍ فاخرةٍ أقيمت في 18 شوال 588 هـ ، ثم افترقا بعد أن تحقَّقت بينهما أواصر الصَّداقة ، وقد أبدى الملك الإنكليزي رغبةً في الاجتماع بصلاح الدين ، لكن العادل رفض طلبه ، وقال: إنَّ الملوك إذا اجتمعوا تصبح بينهم المخاصمة بعد ذلك ، وإذا انتظم أمر؛ حسن الاجتماع. ثم شُغل ريتشارد قلب الأسد بحلِّ مشاكل الصَّليبيين ، وبخاصَّةٍ الخلافُ الحادُّ بين كونراد دي مونتفيرات، وجاي لوزينان.
فقهٌ سياسيٌّ صلاحيٌّ مواكبٌ للحرب:
في الوقت الذي كانت تدور فيه المفاوضات مع ريتشارد قلب الأسد استقبل صلاح الدين رينولد صاحب صيدا رسولاً من قِبَل كونراد دي مونتفيرات ، عرض عليه التَّحالف مقابل حصوله على صيدا ، وبيروت ، بل إنَّه اقترح أن تعود عكَّا إلى المسلمين ، وقد هدف إلى تحويل مسار المفاوضات لصَّالحه الخاص. وعندما علم ريتشارد قلب الأسد بتحرُّكات كونراد دي مونتفيرات؛ بذل جهوداً في إعادته إلى الصفِّ الصَّليبي ، غير أنَّ جهوده باءت بالفشل، وكرَّر دي مونتفيرات محاولة التفاهم مع صلاح الدين.
وعقد صلاح الدين مجلساً لأركان حربه ليقرِّر أيَّ جانبي الصليبين يمضي معه في المحادثات ، فرأى الملك العادل ، وبعض الأمراء الميل إلى المضي في المحادثات مع الملك الإنكليزي؛ لأنه سوف يغادر الشَّرق في حين أن كونراد دي مونتفيرات كان ينوي البقاء ، والاستقرار في فلسطين. فتقرَّر قبول مقترحات ريتشارد قلب الأسد من حيث المبدأ. ومهما يكن من أمر محاولات التفاهم بين المسلمين ، والصليبيين ، وما وقع في تلك الأثناء من قتالٍ بينهما ـ وإن كان محدوداً ـ لم يعد ثمة ما يدعو إلى التقارب ، ووصلت في غضون ذلك إلى مسامع ريتشارد قلب الأسد أخبار سيئة من الغرب؛ إذ إنَّ أخاه حنَّا قام بثورة ضدَّه ، مما تطلَّب منه العودة إلى بلاده بسرعة ، لكنَّه لم يشأ مغادرة الشرق قبل أن يحل مشاكل الصَّليبيين الداخليَّة ، ويتفاهم مع المسلمين.
وأما المشاكل الداخلية؛ فقد حُلَّت باغتيال كونراد دي مونتفيرات على يد الحشيشية في 13/ربيع الاخر عام 588 هـ/28 نيسان عام 1192 م ، فتخلَّص ريتشارد قلب الأسد من خصمٍ عنيدٍ ، وتحكَّم في صور ، واختار هنري دي شامبانيا لعرض مملكة بيت المقدس بعد أن تزوَّج من إيزابيلا أرملة كونراد ، ووريثة عرش المملكة. وأما المشاكل مع الجانب الإسلامي ، فقد تطلَّبت حلاًّ من نوعٍ اخر يقوم على القوَّة. وتطلَّع إلى استعادة بيت المقدس ، فاستولى على قلعة الدَّاروم في 9 جمادى الأولى/23 أيار ، بعد م قاومةٍ من جانب حاميتها ، لكنَّه فشل في الاستيلاء على مجدل يابا ، فاتجه إلى عسقلان ، ومنها شرح بالزَّحف نحو بيت المقدس ، فوصل في 27 جمادى الأولى/11 حزيران إلى بيت نوبة ، واستعدَّ صلاح الدين من جهته لمقاومته ، فسار إلى بيت المقدس.


يمكنكم تحميل كتاب صلاح الدين الأيوبي وجهوده في القضاء على الدولة الفاطمية وتحرير بيت المقدس
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي:

 


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022