في سيرة صلاح الدين الأيوبي:
معركة يافا:
الحلقة: المائة
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
محرم 1442 ه/ سبتمبر 2020
تُعَدُّ معركة يافا وما نتج عنها اخر صدامٍ مسلحٍ بارزٍ وقع بين المسلمين ، وصليبي الحملة الثالثة، وكان ريتشارد قلب الأسد قد اتَّخذ من هذه المدينة قاعدةً لجيشه إثر انتصاره على صلاح الدين في أرسوف نظراً لقربها من بيت المقدس، وفي الوقت الذي كانت المفاوضات دائرة بين الطَّرفين الإسلامي ، والصليبي بشأن عقد الصلح غادر ريتشارد قلب الأسد يافا إلى عكَّا ، وقد أعدَّ خطةً للإقلاع إلى بلاده؛ إذ لم يتمَّ حتى وقتذاك توقيع معاهدةٍ مع المسلمين ، وتقضي هذه الخطة بالزَّحف نحو بيروت ، ثم يبحر منها إلى أوروبا.
وقد هيَّأ هذا التحرُّك فرصة لصلاح الدِّين استغلَّها في تنظيم حملة على يافا ، ومن المحتمل: أنه استهدف تحقيق أربعة أهداف:
ـ أنَّه أراد الحصول على يافا في غياب الملك الإنكليزي.
ـ أمل في تحقيق انتصار حاسم على الصَّليبيين في يافا.
ـ محاولة رفع معنويات جنوده.
ـ منع ريتشارد قلب الأسد من احتلال بيروت.
وما كاد صلاح الدين يقترب من يافا في 15 رجب 588 هـ/27 تموز 1192 م حتَّى توجهت رسالةٌ عاجلةٌ إلى ريتشارد قلب الأسد ، تحمل إليه نبأ الهجوم على يافا ، فبادر إلى النُّهوض لنجدتها متَّخذاً في تقدُّمه طريق البحر، يسانده البيزويون ، والجنويون ، بينما أرسل جيشاً بطريق البر ، غير أنَّ الرياح العكسية حجزته عند رأس جبل الكرمل، ولم يشأ أفراد الجيش البري أن يبلغوا يافا قبل قدوم ملكهم ، لذلك تمهَّلوا في سيرهم. وقد أتاح هذا التطوُّر العسكري فرصةً طيبة للمسلمين لتحرير يافا ، وفعلاً دخلوا المدينة يوم الجمعة في 18 رجب/30 تموز بعد قتالٍ مريرٍ مع حاميتها ، وضربوا حصاراً على قلعتها ، فاضطر الصَّليبيون إلى طلب الصُّلح ، وفي الوقت المحددَّ لتسليم القلعة إلى المسلمين هبط ريتشارد قلب الأسد إلى البرِّ ، وشنَّ هجوماً مضاداً، واستطاع دخول المدينة ، وحمل المسلمين على الخروج منها ، وسحب صلاح الدين جيشه من المدينة ، وكان المرض قد اشتدَّ على ريتشارد ، واستمرَّ في إرسال الرسل تتردَّد على صلاح الدين في طلب الفاكهة ، والثلج ، كما أوقعه مرضه في شهوة الكمثرى ، والخوخ ، وكان صلاح الدين بتسامحه يمدُّه بذلك. وجدَّد ريتشارد قلب الأسد عرض الصُّلح على صلاح الدين مدفوعاً بعدَّة عوامل منها:
ـ لقد ألَمَّ به المرض واشتدَّ عليه ، فتدهورت صحَّته بشكلٍ ملحوظ حتَّى عجز عن قيادة قوَّاته ، والتَّخطيط السليم.
ـ وردت إليه أخبار أخرى مزعجة من إنكلترا تفيد بأنَّ أخاه يوحنا ارتكب من الأعمال السيئة ما تتطلب عودةً عاجلة.
ـ انقطاع النَّجدات العسكرية من أوروبا.
ـ يَئِسَ من استرداد بيت المقدس.
ـ ما حلَّ بالصَّليبيين من الإرهاق ، وما أظهره كلٌّ من ابن أخته هنري ، والطوائف الدِّينية والعسكرية من عدم الثقة في سياسته.
وأشار صلاح الدين إلى الأسباب الَّتي دعته إلى قبول الصُّلح ، ومنها:
ـ النزاع بين الأكراد ، والأتراك في جيشه.
ـ سامة العساكر ، ومظاهرتهم بالمخالفة.
ـ ازدياد قوَّة العدو.
ـ خشيته من حدوث الخلاف بعد وفاته داخل أسرته ، وانصرافهم عن الاهتمام بالمصلحة العامة.
المفاوضات وصلح الرَّملة:
استمرَّت المفاوضات مع الفرنج خمسة عشر شهراً ، واقتضت 42 وفداً ، والمفاوضات تتقطع، وتتصل ، وكان البادىء في طلبها دوماً ملك الإنكليز ريتشارد. وأهمُّ هذه المراحل التي مرَّت بها المفاوضات حتى توِّجت بالصُّلح:
المرحلة الأولى:بعد عشرة أيام فقط من وصول الملك الإنكليزي ريتشارد بادر بإرسال رسول إلى صلاح الدين ، وقد سمح للرَّسول بالتوجه إلى الملك العادل أولاً ، فاستصحبه إلى صلاح الدين ، وكان موجز الرِّسالة التي أرسلها ريتشارد تتلخَّص في أنَّ ملك الإنجليز يطلب الاجتماع بصلاح الدين، ولما علم صلاح الدين بذلك أجاب دون تردُّد ، وقال: إنَّ الملوك لا يجتمعون إلا عن قاعدة ـ أي: هدنة ـ وإذا أراد ريتشارد الاجتماع بصلاح الدين فلابدَّ من تقرير الهدنة قبل الاجتماع ، ولابدَّ من ترجمان موثوق به بين الطرفين يفهم كلَّ ما يقوله الطرف الاخر ، وإذا تقرَّرت الهدنة؛ تمَّ الاجتماع بالملك الإنجليزي.
عاد الرسول إلى ريتشارد ، وعاد مرَّةً أخرى ، وكان حديثه مع الملك العادل ، وانتهى الأمر بالاتفاق على اجتماع العادل مع الملك ريتشارد في مرج عكَّا. والعساكر محيطةٌ بهما ، ومعهما ترجمان ، وعاد الرَّسول ، ولكنه تأخَّر عدَّة أيام بسبب المرض ، والرَّاجح: أن ريتشارد هو الذي كان مريضاً ، وليس الرسول. وفي روايةٍ أخرى: أنَّ القادة الصليبيين أنكروا فكرة الصُّلح مع المسلمين ، وقالوا: هذه مخاطرة بدين النَّصرانية. وقد عاد الرسول مرَّةً أخرى ، واعتذر عن التأخير بسبب المرض. وممَّا قاله الرَّسول: إن «الملوك» إذا تقاربت منازلهم عليهم أن يتهادوا. وأضاف: عندي ما يصلح للسُّلطان ، وأنا استخرج الإذن في إيصاله إليه ، فوافق الملك العادل بشرط إرسال هدية في المقابل للملك الإنجليزي ، فرضي الرَّسول ، وقال: الهدية شيءٌ من الجوارح قد جلبت من وراء البحر ، وقد ضعفت ، فيحسن أن تقدِّموا لنا طير ، ودجاج حتى نطعمها ، فتقوى ، ونحملها إليكم. فداعبه الملك العادل ، وقال: الملك قد احتاج إلى فراريج ، ودجاج ، ويريد أن يأخذها منا بهذه الحجَّة. فانقطع الحديث عدَّة أيام ، ثم عاد الرسول ، ومعه إنسانٌ مغربي مسلمٌ قد أسره الصَّليبيون من مد ة طويلة هديةً إلى السُّلطان ، فقبله ، وأطلقه ، وأعاد الرسول مكرَّماً.
وقد بلور المؤرخ ابن شدَّاد الأسباب الحقيقية التي تكمن وراء تبادل الرُّسل ، فقال: وكان غرض الصليبيين بتكرار الرسائل تعرُّف قوَّة النفس ، وضعفها عند المسلمين ، وكان غرض المسلمين بقبول الرَّسائل تعرُّف ما عند الصليبيين من ذلك.
المرحلة الثانية: ففي التاسع من جمادى الاخرة عام 587 هـ/الرابع من يوليو 1191 م أثناء القتال في عكا بين المسلمين ، والصليبيين عندما قررت حامية عكَّا الإسمية التخلِّي عن القتال ، وأرسلت إلى ريتشارد رفض عرض حامية المدينة؛ إلا أنَّه أرسل في اليوم نفسه ثلاثة رسل إلى صلاح الدين يطلبون فاكهةً ، وثلجاً. وقد ذكر الرُّسل: أنَّ مقدَّم الأسبتارية «جارنيه» سيحضر في اليوم التالي للتحدُّث في معنى الصُّلح. وقد أكرم صلاح الدين الرُّسل ، وأدخلهم سوق العسكر ، وشاهدوه، وعادوا في اليوم نفسه إلى عسكرهم ، وقد أعقب ذلك استسلام مدينة عكَّا للصَّليبيين ، واستقبال صلاح الدين لسفراء الصَّليبيين حول تسليم عكا ، وهو جانب يتعلَّق بمدينة عكَّا فقط ، وقد سبق أن أوضحناه ، ولا يمس جوهر قضية الصُّلح العامة التي نناقشها على هذه الصَّفحات.
المرحلة الثالثة: وكانت المرحلة الثالثة من المفاوضات في المرحلة السَّابقة لمعركة أرسوف ، ففي الحادي عشر من شعبان 587 هـ/الثالث من سبتمبر 1191 م أتت بعض رسل الصَّليبيين تطلب التَّحدُّث إلى الملك العادل ، فسمح لهم ، وكان حاصل حديث الرُّسل: «إنا قد طال القتال ، وأنه قتل من الجانبين الرِّجال ، والأبطال ، وإنا نحن جئنا في نصرة فرنج السَّاحل ، فاصطلحوا أنتم ، وهم، وكلٌّ منا يرجع إلى مكانه.
وعلم صلاح الدين بمضمون أفكار الرُّسل ، فكتب إلى أخيه العادل يطلب منه إطالة الحديث مع الرُّسل؛ حيث تصل النَّجدات الإسلامية. وفي اليوم التالي اجتمع الملك العادل بالملك الإنجليزي ريتشارد ، وتولَّى الترجمة همفري سيد تبنين، وسأل العادل ريتشارد عن شروطه حول عقد الصلح ، فذكر له: «القاعدة أن تعود البلاد كلُّها إلينا ، وتنصرفون إلى بلادكم» ومعنى ذلك عودة الحال إلى ما قبل معركة حطِّين ، ولم يقبل الملك العادل مثل هذه الشروط ، فأخشن الملك الإنجليزي الجواب ، وجرت منافرةٌ اقتضت رحيل الملك الإنجليزي ، ورفاقه ، ثم كانت معركة أرسوف؛ التي انتصرت فيها القوات الصَّليبية ، وإن كان نصراً غير حاسمٍ.
وبعد ثمانية أيام ، وأثناء إقامة القوات الصليبية بقيادة ريتشارد في مدينة يافا ، وقيام صلاح الدين بتخريب مدينة عسقلان وصل في التاسع عشر من شعبان 587 هـ/الحادي عشر من سبتمبر 1191 م إلى صلاح الدين مَنْ أخبره من جانب الملك العادل: أنَّ الصليبيين تحدَّثوا معه في أمر الصُّلح ، وأنَّ شروطهم إعادة جميع البلاد السَّاحلية، فطلب صلاح الدين من أخيه العادل فتح باب المفاوضات؛ لما راه في نفوس المسلمين من الضَّجر ، والسامة من القتال ، والمصابرة ، كما طلب منه أيضاً إطالة أمد المفاوضات؛ حتى يتمَّ تخريب عسقلان ، وفي خلال الأيام التالية وقع حادثٌ له مغزاه في تاريخ الحملة الصليبية الثالثة ، ففي الثاني عشر من رمضان 587 هـ/الثالث من أكتوبر وصلت رسلٌ من جانب كونراد ـ الذي تصفه المصادر العربية باسم المركيس ـ: قد استشعر: أن الصَّليبيين يريدون الاستيلاء على صور ، فانحاز عن قوات الحملة الصليبية الثالثة ، وأرسل إلى صلاح الدين يطلب الصُّلح مقابل إعطائه صيدا ، وبيروت مقابل مجاهرة ريتشارد بالعداوة ، والسير بقو اته إلى عكَّا ، ومحاصرتها ، والاستيلاء عليها.
والمعروف: أنَّ كونراد كان خبيثاً ملعوناً ، لذلك أراد صلاح الدين معرفة حسن نواياه ، فطلب منه في بداية الأمر القيام بحصار عكَّا ، والاستيلاء عليها ، وإطلاق سراح الأسرى المسلمين في عكَّا ، وصور ، ثم يقوم صلاح الدِّين بعد ذلك بتسليمه صيدا ، وبيروت ، وفي عشية اليوم نفسه وصلت رسل الملك ريتشارد للحديث مرَّةً أخرى في مسألة الصُّلح ، وعلم ريتشارد بالسفارة التي أرسلها كونراد إلى صلاح الدين ، فعاد إلى عكَّا للعمل على فسخ فكرة المصالحة التي شرع فيها كونراد ، والعمل أيضاً على ضم كونراد إلى صفوف القوَّات الصليبية. وممَّا لا شكَّ فيه: أن ما حدث جعل صلاح الدين يدرك مدى الشِّقاق بين الصليبيين المحليين ، وقوات الحملة الثالثة ، كما أدرك ريتشارد: أنَّ ما حدث من كونراد يعتبر موجهاً إليه ، وإلى قوات الحملة الثالثة؛ التي عانت ، وتكلَّفت الكثير للدِّفاع عن الصَّليبيين المحليين ، وكان لذلك كله أكبر الأثر على سير المفاوضات ، وشروطها في المراحل المقبلة.
المرحلة الرابعة: وفي الرابع والعشرين من رمضان 587 هـ/الخامس عشر من أكتوبر 1191 م وصل رسول من قبل الملك الإنجليزي ريتشارد ، ومعه حصانٌ هديةً إلى الملك العادل في مقابل هديةٍ كان قد أرسلها إليه الملك العادل ، وكان ذلك مقدَّمةً لمفاوضات المرحلة الرابعة ، وبعد يومين أرسل ريتشارد يطلب من الملك العادل إيفاد رسوله للتحدُّث في أمر الصُّلح ، فأجابه العادل إلى طلبه ، وذهب رسول العادل ، واجتمع بالملك ريتشارد ، وممَّا قاله الملك في طلب الصُّلح: إنَّ المسلمين ، والفرنج قد هلكوا ، وخربت البلاد ، وخرجت من يد الفريقين بالكلِّية وقد تلفت الأموال ، والأرواح من الطائفتين ، وقد أخذ هذا الأمر حقَّه ، وليس هناك حديث سوى القدس ، والصليب ، والبلاد، فمتعبدنا ما ننزل عنه ، ولو لم يبق منا واحد ، وأما البلاد فيعاد إلينا منها ما هو قاطع الأردن، وأما الصليب فهو خشبة لا مقدار له عندكم ، وهو عندنا عظيم ، فَيَمُنُّ به السلطان علينا ، ونصطلح ، ونستريح من هذا العناء الدائم.
وعندما بلغ الملك العادل ما يطلبه ريتشارد؛ قام بدوره بإبلاغه إلى صلاح الدين؛ الذي قال في ردِّ الجواب للملك الإنجليزي: «القدس لنا كما هو لكم ، وهو عندنا أعظم ممَّا هو عندكم ، فإنَّه مسرى نبينا ، ومجتمع الملائكة ، فلا يتصوَّر أن ننزل عنه ، ولا نقدر على التلفُّظ بذلك بين المسلمين ، وأمَّا البلاد فهي أيضاً لنا في الأصل ، واستيلاؤكم كان طارئاً عليها لضعف مَنْ كان بها من المسلمين في ذلك الوقت ، وأما الصليب فهلاكه عندنا قربةٌ عظيمةٌ ، ولا يجوز لنا أن نفرِّط فيه إلا لمصلحة راجحةٍ إلى الإسلام هي أوفى منها.
وبعد ثلاثة أيام عاد رسول الملك ريتشارد من يافا بمقترحاتٍ جديدةٍ ، وموجز هذا العرض: أن يتزوَّج الملك العادل من جوانا ملكة صقليَّة السَّابقة أخت الملك ريتشارد ، وأن يكون مستقرُّ ملكهما القدس الشريف ، وأن يقدِّم لها ريتشارد بلاد السَّاحل التي فتحها من عكَّا إلى يافا ، وعسقلان ، وغير ذلك ، ويجعلها ملكة السَّاحل ، وأن يعطي صلاح الدين أخاه العادل جميع بلاد الساحل ، ويجعله ملكا عليها بالإضافة إلى ما في يده من البلاد ، والأقطاع ، وأن يسلِّم إليه صليب الصَّلبوت ، وتكون القرى للداوية ، والأسبتارية ، والحصون لهما ، وإطلاق سراح أسرى الجانبين ، ويرحل ملك إنجلترا إلى بلاده. ولما أُبلغ صلاح الدين بمقترحات الملك الإنجليزي، بادر بالموافقة معتقداً: أن ريتشارد لا يوافق عليه ، وأنَّ هذا منه هزوٌ ، ومكر ، أي: نوع من المزاح.
ولما علمت جوانا باقتراح أخيها زواجها من الملك العادل؛ غضبت ، وحلفت بدينها المغلَّظ من يمينها: أنَّها لا تفعل ذلك. لذلك عرض ريتشارد دخول العادل في الدِّيانة المسيحية ، ولكن العادل رفض قبول ذلك ، وترك باب المفاوضات مفتوحاً.
المرحلة الخامسة: وسارت المرحلة الخامسة من المفاوضات في خطَّيْن متوازيين: الخطُّ الأول يتعلَّق بالمفاوضات مع رسل كونراد ، والخط الثاني مرتبطٌ بالمفاوضات مع الملك الإنجليزي ريتشارد ، وبدا هذه المرحلة في الخامس عشر من شوال 587 هـ الخامس من نوفمبر 1191 م عندما وصل «رينالد جارنييه» حاكم صيداً كرسولٍ من جانب كونراد. ويفهم من النصوص التاريخية: أنَّ المحادثات مع كونراد لم تنقطع ، وقد أحسن المسلمون استقبال المبعوث حتى يتمَّ تدبير اللِّقاء مع صلاح الدين ، وبعد أربعة أيام استقبل صلاح الدين «رينالد جارنييه» وأكرمه إكراماً عظيماً. وتصف المصادر الإسلامية كونراد بأنه كان أشدَّ الصليبيين بأساً ، وأعظمهم في الحرب مراساً ، وأثبتهم في التدابير أساساً. وكان عرض كونراد يتلخَّص في تنازل المسلمين له عن صيدا ، ويتحالف مع المسلمين ضدَّ قوات الحملة الصَّليبية الثالثة، ويجاهرها بالعداوة ، وقد استمع صلاح الدين إلى هذه المقترحات من المبعوث ، ووعده بأن يردَّ عليه الجواب فيما بعد.
وفي اليوم الذي استقبل فيه صلاح الدين مبعوث كونراد؛ وصل في المساء همفري سيد تبنين كرسول من الملك الإنجليزي ريتشارد ، فاستقبله صلاح الدين ، وقدَّم المبعوث الصليبي مقترحاته. والملاحظ: أن الحرب ظلَّت قائمةً طوال هذه المشاورات. وفي الرابع من ربيع أول عام 588 هـ/العشرين من مارس 1192 م خرج العادل من القدس ، ومعه عرضٌ للصُّلح محدَّدٌ يقضي بأنه يمكِّن للصليبيين أن يضمُّوا إليهم مدينة بيروت إذا أصروا على طلبها بشرط أن تظلَّ خراباً ، ولا تعمَّر ، وكذلك القابون ، ويسلم لهم صليب الصَّلبوت ، وأن يُعَيَّن قسِّيسٌ من الفرنجة لكنيسة القيامة، ويُفتح للصَّليبيين أبواب مدينة القدس للزيارة بشرط عدم حمل السِّلاح. وكان الدافع لهذه المقترحات الجديدة ما عاناه المسلمون من تعبٍ في مواظبة الغزاة ، وكثرة الدُّيون ، والبعد عن الأوطان.
وزادت رغبة الملك ريتشارد في عقد الصلح ، والعودة إلى وطنه عندما وصل إلى معسكره مبعوثٌ قادمٌ من إنجلترا يخبره: أن الأمير يوحنا شقيق الملك ريتشارد يتطلَّع إلى السلطة ، والسيطرة على إنجلترا ، ويطالبه باسم كبير وزراء إنجلترا بالعودة إلى البلاد ، وقد أقلقت هذه الأخبار ريتشارد، ويضاف إلى ذلك: أنه في حوالي العشرين من مارس 1192 م/الرابع من ربيع أول 588 هـ قام «هيو» دوق برجانديا؛ الذي كان يتولَّى قادة ما تبقَّى من القوات الفرنسية باستدعائها من معسكر ريتشارد؛ لأنَّ الملك لا يمدُّ هذه القوات بالموادِّ الضرورية اللازمة للقتال. وفي الشهر التالي اغتيل كونراد ، كما سبق أن أوضحنا لتبدأ مرحلةٌ أخرى من المفاوضات في ظروفٍ تختلف عن الظروف السَّابقة ، فقد اختفى كونراد عن مسرح السياسة الصَّليبية ، والحالة في إنجلترا أصبحت حرجةً ، وعلى الملك الإنجليزي إنهاء الحرب ، والعودة إلى بلاده.
المرحلة السادسة: كانت المرحلة السادسة والأخيرة من المفاوضات طويلةً ، ومعقَّدةً ، فقد استمرَّت حوالي خمسة شهور. وفي 22 شعبان عام 588 هـ/2 أيلول عام 1192 م حمل رسلُ صلاح الدين العرض النهائي ، فوقَّعه ريتشارد قلب الأسد ، وأثبت هؤلاء أسماءهم إلى جانب اسمه على المعاهدة؛ التي تنصُّ على ما يلي:
ـ يكون للصليبيين المنطقة الساحلية من صور شمالاً إلى يافا جنوباً بما فيها قيسارية ، وحيفا ، وأرسوف.
ـ تكون عسقلان بأيدي المسلمين ، على أن يجري تخريبها.
ـ يتقاسم المسلمون ، والصَّليبيون اللد ، والرملة مناصفةً.
ـ يحقُّ للنصارى زيارة بيت المقدس بحريَّة.
ـ للمسلمين ، والنصارى الحقُّ في أن يجتاز كلُّ فريقٍ منهم بلاد الفريق الاخر.
ـ مدة المعاهدة ثلاث سنوات ، وثلاثة أشهر.
واشترط صلاح الدين دخول بلاد الحشيشية في الصُّلح ، بمعنى: أن المناطق التي يسيطر عليها هؤلاء تُعدُّ جزءاً من المناطق الإسلاميَّة؛ التي شملتها المعاهدة ، وفي المقابل اشترط ريتشارد قلب الأسد دخول كلٍّ من صاحب أنطاكية ، وطرابلس.
ولما تمَّت الهدنة؛ أذن صلاح الدين للصَّليبيين بزيارة بيت المقدس ، واختلط عسكر المسلمين بعسكر الصليبيين ، وذهبت جماعة من المسلمين إلى يافا في طلب التِّجارة ، كما وصل خلقٌ عظيم من الصَّليبيين إلى القدس للحجِّ ، وأنفذ صلاح الدين الخفراء يحفظونهم ، وغرضه من ذلك أن يقضوا وطرهم من الزيارة ، ويرجعون إلى بلادهم.
يمكنكم تحميل كتاب صلاح الدين الأيوبي وجهوده في القضاء على الدولة الفاطمية وتحرير بيت المقدس
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي: