الأربعاء

1446-11-02

|

2025-4-30

في سيرة صلاح الدين الأيوبي:
نتائج الحملة الصليبية الثالثة وأهمُّ الأحداث قبل وفاة صلاح الدين
الحلقة: 101
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
صفر 1442 ه/ سبتمبر 2020


1 ـ برحيل ريتشارد قلب الأسد إلى بلاده بعد صلح الرملة بلغت الحملة الصَّليبية الثالثة نهايتها ، فلن يتوجَّه إلى الشرق الأدنى الإسلامي مرَّة أخرى هذا الحشد من الملوك ، والأمراء ، ومع أنَّ أوروبا الغربية اتَّحدت في ذلك العمل ، وجهَّزت حملةً كانت من أكبر الحملات الصليبية؛ فإنَّ ما حصلت عليه من نتائج كان ضئيلاً ، وما حدث من إنقاذ صور على يد كونراد دي مونتفيرات ، ومن نجدة طرابلس من قِبل الأسطول الصقلِّي إنما جرى قبل وصول أفراد الحملة الصليبية الثالثة ، وكلُّ ما أسهم به هؤلاء لم يتعدَّ الاستيلاء على عكا ، والمدن الساحلية حتى يافا ، فضلاً عن جزيرة قبرص ، على أنَّ أمراً واحداً قد تحقَّق للصليبيين هو توقف نشاط صلاح الدِّين في الفتح
2 ـ يَعُدُّ المؤرخون الحملة الصليبية الثالثة من الحملات الفاشلة في تاريخ الحروب الصَّليبية؛ لأنها لم تحقق من النتائج ما يتناسب مع ما بُذل فيها من جهدٍ ضخمٍ؛ فضلاً عن أنها لم تنجح في تحقيق الهدف الذي جاءت من أجله، وهو استعادة بيت المقدس من يد المسلمين.
3 ـ شاركت الظروف السياسية ، والعسكرية التي واجهت هذه الحملة ، وأحاطت بها في هذه النهاية الفاشلة؛ إذ ليس في استطاعة جيش تجرَّد من القيادة الموحدة ، وفرَّقته المنازعات السياسية ، وقاتل في أرضٍ أجنبية أن يحرز النَّصر على جيوشٍ جمع بينها وحدة الصَّفِّ ، والهدف ، وانضوت تحت قيادة رجلٍ واحدٍ ، مثل صلاح الدين.
4 ـ كان من بين عوامل الفشل: أنَّ ملكيْ إنكلترا ، وفرنسا حملاً معهما إلى الشرق ما بينهما من منازعات سياسية محلِّية ، على الرغم من اتفاقهما على التغاضي قبل أن يتحرَّكا من أوروبا الغربية.
5 ـ اختلف الطابع الرُّوحي للحملة؛ إذ لم يكن للبابا دورٌ كبير في توجيهها ، كما حدث في الحملة الصليبية الأولى ، وطغى عليها الطَّابع السياسي بما يحمل من خلفياتٍ متناقضة.
6 ـ استمرار تماسك الجبهة الإسلامية بعد أن اختفت المنازعات الدِّينية ، والسياسية؛ على الرغم من تراجع قوة المسلمين العسكرية بسبب الإرهاق ، والتعب؛ إذ تحتَّم على القوات الإسلامية أن تقوم بأعمال عسكرية مستمرة مدة ثلاث سنوات ، وفي ظروفٍ غير عادية ، بالإضافة إلى ما حصل من تشنُّجات سرعان ما امتصها صلاح الدين بحكمته ، نذكر منها النزاع الذي حصل بين العناصر التركية ، والعناصر الكردية في جيشه ، ولولا رحمة الله ، ثم قيادة صلاح الدين؛ لكانت الخسائر كبرى ، وبشكلٍ غير متصوَّر ، ولكن حسن قيادة صلاح الدين، وصمود المسلمين في وجه هذه الحملة الشرسة أربك ملوك أوروبا ، وأفشل مخطَّطاتهم ، ولم يستطيعوا إرجاع بيت المقدس، وهذا يعتبر انتصاراً عظيماً لصلاح الدِّين على الرغم من الخسائر؛ التي لحقت بالمسلمين.
7 ـ تميَّزت هذه الحملة الصليبية بحدوث تفاهمٍ كبيرٍ مع المسلمين ، فكان الطرفان شديدي الصلة ببعضهما ، وتعَدَّى ذلك إلى طرح مشروع المعاهدة ، وإرسال الفواكه ، والثلج لريتشارد قلب الأسد أثناء مرضه ، وحضور طبيب صلاح الدين الخاص لمعالجته ، وكان من نتائج هذا الاختلاط في حياة الفرنج ما يأتي:
أ ـ نقلوا عن المسلمين كثيراً من العلوم ، والمعارف؛ التي كانت سائدةً بينهم في تلك الفترة ، وقد ألَّفوا فيها كتباً، احتوت كثيراً من التجديد ، والابتكار ، ووضع قوانين في هذه العلوم.
ب ـ نقلوا عن المسلمين كثيراً من الصناعات ، والفنون ، مثل: صناعة النسيج ، والصِّباغة ، والميناء ، والمعادن ، والزجاج ، كما نقلوا عنهم فنَّ العمارة ، وكان لهذا النقل تأثيرٌ عميقٌ في حياة أوروبا الصناعيَّة ، والتجارية ، والفنيَّة. يقول جوستاف لوبون: ولم يكن تأثير الحروب الصليبية في الصناعة، والفنون أقلَّ من ذلك... ثم يقول: وعن المسلمين أخذت أوروبا صناعة النَّسائج الحريرية ، والصباغة المتقنة.. ولم يلبث فنُّ العمارة أن تحوَّل في أوروبا تحولاً تاماً.
ج ـ تأثرت الحضارة الغربية بالحضارة الإسلامية تأثُّراً أدَّى إلى نمو الحضارة الغربية ، وازدهارها، ولولا الحرب الصليبية؛ لتأخَّر نمو الحضارة في أوروبا مدَّةً لا يعلمها إلا الله ، ولقد اعترف المنصفون من المستشرقين بهذه الحقيقة قبل أن يقولها مؤرِّخو المسلمين.
يقول جوستاف لوبون: ولكنَّا إذا نظرنا إلى النتائج البعيدة؛ التي أسفرت عنها الحروب الصليبية؛ تجلَّت لنا أهميَّة تلك النتائج ، فقد كان اتصال الغرب بالشرق مدَّة قرنين ـ أي: مدَّة التواجد الصليبي في بلاد المسلمين ـ من أقوى العوامل على نمو الحضارة في أوروبا ، وتكون الحروب الصليبية قد أدَّت بهذا إلى نتائج غير التي نشدتها ، فأما الشرق؛ فكان يتمتَّع بحضارةٍ زاهرةٍ بفضل المسلمين ـ وأما الغرب؛ فكان غارقاً في بحر الهمجية.
ذلكم هو ما أفادته أوروبا من الحروب الصليبية ، وهي وإن منيت بخسائر فادحة ، وهزائم قاتلة لم تحقِّق الهدف الذي جاءت من أجله ، وهو استعادة بيت المقدس من أيدي المسلمين؛ إلا أنَّها كسبت من وراء ذلك هذه المكاسب العظيمة؛ التي نهضت بأوروبا ، وأسرعت في إيصال الحضارة إليها. وأما المسلمون؛ فإنه لم يكن لدى الصليبيين ما يمكن أن يستفيد منه المسلمون ، فقد كان الصليبيون في سلوكهم وحوشاً ضاريةً ، وأنهم كانوا ينهبون الأصدقاء ، والأعداء ، ويذبحونهم على حدٍّ سواء. ولقد وصف أسقف عكا الصَّليبي (جاك دوفيتري) الغزاة بقوله: وكان لا يُرى منهم في أرض الميعاد غير الزنادقة ، والملحدين ، واللصوص، والزناة ، والقتلة ، والخائنين ، والمهرِّجين ، والرهبان الدُّعَّار، والراهبات العواهر.
وكان مع الحملة الصليبية جيش العواهر؛ الذي جلب خصيصاً للترفيه عن المقاتلين ، لم يقتصر على جنود الصليبيين، ولكنه تعدى ذلك إلى صفوف الفجرة ، والفسقة من المسلمين. يقول ابن كثير: وأمداد الفرنج تصل من البحر من كلِّ وقت؛ حتى إنَّ نساء الفرنج ليخرجن بنية القتال، ومنهنَّ من تأتي بنية راحة الغرباء ، لينكحوها في الغربة ، فيجدون راحةً ، وخدمةً ، وقضاء وطر ، فإذا وجدوا ذلك ثبتوا على الحرب ، والغربة ، حتى إن كثيراً من فسقة المسلمين تحيَّزوا إليهم من أجل هذه النِّسوة ، واشتهر الخبر بذلك.
وذكر المؤرخ أبو شامة من أنَّه حدث أثناء حصار الصَّليبيين لعكَّا أن وصل مركب فيه ثلاثمئة امرأة فرنجية مستحسنة اجتمعت من جزر البحر ، وانتدبن للجرائر ، واغتربن لإسعاف الغرباء ، وقصدن بخروجهن تسبيل أنفسهن للأشقياء، وأنهنَّ لا يمتنعن عن العُزبان ، ورأين أنهن لا يتقربن بأفضل من هذا القُربان ، وزعمْنَ: أنَّ هذه قربةٌ ما فوقها قربة ، ولاسيما فيمن اجتمعت فيه غربة، وعزوبة. ويقول أيضاً: وخرجت النساء للإسهام في الحملة الصليبية الثالثة ، فمنهنَّ من خرج وقد لبسن الدُّروع ، وكنَّ في زي الرجال للاشتراك في المعارك بأنفسهنَّ؛ لاعتقادهنَّ: أن ذلك عبادةٌ. ومنهنَّ من خرجن لإسعاف الغرباء ، وإسعاد الصَّليبيين بتسبيل أنفسهن للاستمتاع بهنَّ؛ حتى لا يتسرَّب الملل إلى نفوس المحاربين.
8 ـ فقه المصالح والمفاسد: جاء صلح الرملة بسبب ظروف عسكرية ، واقتصادية جعلت صلاح الدين يقبل به ، مع علمه بأنَّ الموقف الفرنجي كان ضعيفاً ، فقد كانت تقديرات رجاله، ومستشاريه بأنَّ مغادرة القوى العسكرية الفرنجية إلى بلادهم هي من صالحهم ، وإن بقاءهم سيؤدي إلى قدوم قوات أوروبية جديدة ستحدث الضرر بالمعسكر الإسلامي.
وإذا نظرنا في تاريخ المعاهدات ، والاتفاقات ، والهدن التي عقدها المسلمون مع الفرنج ، كعماد الدين ، ونور الدين محمود زنكي ، وصلاح الدين نلاحظ: أنها كانت محددة الأهداف ، وهو إعطاء فرصة للقو ات الإسلامية للاستعداد، وزيادة إمكاناتها القتالية للقيام بجولة ، أو جولات قادمة ضدَّ الفرنج ، ومعظم هذه الاتفاقات كانت بطلب من الفرنج أنفسهم ، ولم يكن الزُّعماء المسلمون يتوانون عن عقدها؛ لما فيها من مصلحةٍ لهم ، إمَّا لمحاربة إمارات أخرى لم تعقد معهم المعاهدات ، أو للتَّسهيل على المسلمين ، وحرية تنقُّلهم ، وسفرهم بين مصر ، وبلاد الشام، ولتسهيل مهمة تنقل القوافل التجارية عبر المنطقة العربية ، أو لتوفير الأمن ، والاطمئنان لقوافل الحجَّاج لأداء مناسك الحج دون خطرٍ.
وأما الصُّلح الأخير ، وهو صلح الرملة ، فقد حدد بثلاث سنوات ، ووجد صلاح الدين ، ومستشاروه: أنَّ المصلحة في عقده بسبب سوء الأحوال الصحيَّة التي ألمَّت بجنده بالإضافة إلى الإرهاق ، والتعب الذي عانوه ، فكانوا يرون: أنها فرصةٌ للاستعداد لجولات ، ومعارك قادمة. فابن شدَّاد يقول: ورأى السلطان في ذلك مصلحةً؛ لما غشي الناس من ضعفٍ ، وقلَّة النفقات، والشوق إلى الأوطان... فرأى أن يجمَّهم مدَّةً؛ حتى يستريحوا، وينسوا هذه الحالة التي صاروا إليها ، ويعمِّر البلاد ، ويشحن القدس بما يقدر عليه من الأسلحة ، ويتفرَّغ لعمارته.
ويذكر ابن شديد كذلك: أن صلاح الدين لم يكن راضياً عن هذا الصُّلح ، ولكنه رأى المصلحة في الصَّلح لسامة العسكر ، ومظاهرتهم بالمخالفة. ويرى أبن شدَّاد: أنَّ الصُّلح كان في مصلحة المسلمين؛ لأن صلاح الدين توفي بُعيد عقده؛ ولو اتَّفقت وفاته أثناء المعارك المحتدمة بين المسلمين ، والفرنج؛ لكان الإسلام على خطر ، فما كان الصُّلح إلا توفيقاً ، وسعادة.
9 ـ مقتل ريتشارد قلب الأسد: بعد صلح الرملة أبحر ريتشارد من عكَّا عائداً إلى بلاده ، وغرقت سفينته في البحر ، واستطاع أن يصل إلى الشاطىء سالماً ، ثم توغَّل في أرض النِّمسا متنكِّراً ، حتى اكتشف أمره في إحدى الحانات بالقرب من مدينة فيينا في 11 كانون الأول (ديسمبر) 1192 م فاقتيد إلى ليوبولد دوق النِّمسا الذي اتَّهمه بقتل المركيز كونراد مونتفرات ، وأراد الدُّوق أن يبيعه ، فتقدَّم أعداؤه لشرائه؛ إلا أنه ما لبث أن سلَّمه إلى هنري السادس إمبراطور الدولة الجرمانية المقدَّسة ، فبقي في أسره حتى دفع فديةً كبيرة ، وقد أطلق سراح ريتشارد قلب الأسد في اذار (مارس) 1194 م ، وظلَّ يقاتل خصومه من الأمراء حتى أصيب بسهمٍ قاتل ، فقضى نحبه في 26 اذار عام 1199 م.
10 ـ طلبات من ديوان العزيز: وبعد خراب عسقلان وصل من دمشق كتاب من النواب بها؛ وفي طيه كتاب من بغداد من الدِّيوان العزيز النبوي يتضمَّن فصولاً ثلاثة: الأول: الإنكار على الملك المظفر في مسيره إلى بكتمر. والثاني: الإنكار على مظفر الدين في مسك حسن بن قفجاق ، والأمر بإعادته إلى الكرخاني. الثالث: فيه الأمر بإحضار القاضي الفاضل إليهم؛ ليقال له أشياء. فأجاب السُّلطان عن الأول بأنَّا لم نأمره بذلك ، وعن الثاني بأن ابن قفجاق لا يخفى ما تصدَّى له من الفساد في الأرض. وعن الثالث بأنه كبير الأمراض ، وقوَّته تضعف عن الحركة إلى العراق. وكتب القاضي الفاضل في الاعتذار بالحضور إلى الدِّيوان ، وتمثل في كتابه بهذين البيتين:
ما كنتُ أوَّل سارٍ غرَّه قَمَرٌ
مَثّلْ لِنفسكَ شخصي إنَّني رجلٌ
ورائد خدعته خُضْرَةُ الدِّمَنِ
مِثلَ المُعَيْدِيِّ فاسمعْ بي ولا تَرَني

11 ـ ما قاله الرشيد ابن النابلسي في قصد الفرنج للسُّلطان بالقدس:من جملة قصيدة:
ويح الفرنجة بل أمِّهم أَوَ ما
فكم نَثَرْتَهُمُ ضرباً إذا انتظموا
كم قد سَقَيْتَهُمُ ذُلاً فلا عجبٌ
إن يمَّموك فلا بِدعٌ لجهلهم
زاروا نموراً ولا تُغنيْ وقاحتهم
فَحَامِ عن حوطة البيت المقدَّس لا
هو الشَّريف وقد ناداك معتصماً
وسوف تستغفر الأيام هَفْوَتها
فيهم لبيبٌ على العِلاَّت يعتبر
وكم نَظَمْتَهُمْ طعناً إذا انتثروا
إنْ عربدوا سفهاً بالقوم قد سَكِرُوا
تسعى إلى الأُسد في غاباتها الحُمُرُ
إذا أُسودك في أبطالهم زأروا
خوفٌ وحاشاك من خوفٍ ولا ضررُ
فما على مجده من بعدها حَذَرُ
وتحصد الفئة الأوغاد ما بَذَرُوا

12 ـ وقال أبو الحسن ابن السَّاعاتي في مدح صلاح الدين:
مُنِعَتْ ظِبَاءُ المنُحنى بأسوده
فَغَلتْ بنا وهي الصَّديق لحاظُها
سَلْ عنه قلب الإنكتار فإنَّ في
وأشدُّ ما أشكوه فَتْكُ ظِبائه
كَظُبَى صلاح الدين في أعدائه
خفقانه ما شئت من أنبائه

لولاك أمَّ البيتَ غير مُدافع
وَبَكَتْ جفون القُدس ثانيةً دماً
ولسال سيلُ نَدَاك في بطحائه
لِتَرَنُّم النَّاقوس في أفنائه

13 ـ تحصين القدس وتفقد أحوالها بعد الصُّلح: قال العماد: عاد السلطان بعد السِّلم إلى القدس لتفقُّد أحواله ، وَعَرْض رجاله ، واشتغل بتشييد أسواره ، وتحصينها ، وتخليد اثاره ، وتحسينها ، وتعميق خنادقه ، وتوثيق طرائقه، وزاد في وقف المدرس سوقاً بدكاكينها ، وأرضاً ببساتينها ، وكذلك رتَّب أحوال الصُّوفية في رعايتها ، والوقف الكافل بكفايتها ، وعيَّن الكنيسة التي في شارع قمامة للبيمارستان ، ونقل إليه العقاقير، والأدوية من جميع الأنواع، والألوان ، وأدار سور القدس على قبَّة صهيون ، وأضافها إلى المدينة، وأمر بإدارة الخنادق على الجميع ، وصمَّم العزم على الحجِّ، فلم يوافقه القدر ، وتأسف على فواته بعد أن قدَّم مقدّماته ، وأقام شهر رمضان ، وأفاض الإحسان ، وفوَّض ولاية القدس ، وأعمالها إلى عزِّ الدين جُرْديك حين استعفى منها حسام الدين سياروخ ، وولَّى مملوكه علم الدين قيصر مادون القدس ، كعمل الخليل ، وغزَّة ، والداروم ، وعسقلان.
ـ اعتراض القاضي الفاضل على صلاح الدين في رغبته الحجِّ: ولمَّا بلغ القاضي الفاضل من قبل السلطان: أنَّه عازمٌ على الحجِّ؛ كتب إليه مشيراً بتبطيله: إنَّ الفرنج لم يخرجوا بعد من الشَّام ، ولا سَلُوا عن القدس ، ولا وُثِقَ بعهدهم في الصُّلح ، فلا يؤمن مع بقاء الفرنج على حالهم ، وافتراق عسكرنا ، وسفر سُلطاننا سفراً مقدَّراً معلوماً مُدَّة الغيبة فيه أن يَسْرُوا ليلة ، فيصبِّحوا القدس على غفلة ، فيدخلوا إليه ـ والعياذ بالله ـ ويَفْرُطُ من يد الإسلام ، ويصيرُ الحجُّ كبيرةً من الكبائر؛ التي لا تُغفر ، ومن العثرات التي لا تُقال. ثم قال: وحاجُّ العراق ، وخراسان أليس هم مئتي ألف ، أو ثلاثمئة ألف ، أو أكثر ، هل يؤمن أن يقال: قد سار السُّلطان لطلب ثأر ، وسَفْكِ دم ، وتشويش موسم ، فاقْعُدوا ، فيكون تاريخ سوءٍ ، أعوذ بالله منه ، ما هذه الشَّناعة ممتنعة الوقوع ، ولا مستبعدةً من العقول السَّخيفة...
يا مولانا! مظالم الخلق كَشْفُها أهمُّ من كل ما يتُقَربَّ به إلى الله ، وما هي بواحدة ، في أعمال دمشق من المظالم من الفلاحين ما يُستغرب معه وقوع القَطْر ، ومن تسلُّط المقطعين على المنقطعين من لا ينادي وليدُه وفي وادي بَرَدى ، والزّبَدَاني من الفتنة القائمة ، والسيف الذي يَقْطُر دماً مالا زاجر عنه ،وللمسلمين ثغور تريد التَّحصين ، والذخيرة،ومن المهمَّات إقامة وجوه الدَّخل ، وتقدير الخَرْج بحسبها ، فمن المستحيل نفقةٌ من غير حاصل ، وفرعٌ من غير أصل، وهذا أمر قد تقدَّم فيه حديث كثير ، وعَرَضَت للمولى شواغلُ دونه ، ومشت الأحوالُ مشياً على ظِلْعٍ ، فلمَّا خَلَتِ النُّوَب ـ أعاذ الله من عودها ـ كان خلو بيت المال أشدَّ ما في الشدَّة ، وليس المملوك مطالباً بذخيرةٍ تُحصَّل ، إنما يطلب تمشية من حيث تستقر.
وهذه الرسالة تدل على عمق فهم القاضي الفاضل بمقاصد الشريعة ، كما تبيِّن أهمية وجود العلماء الربَّانيين بجانب القادة السياسيين ، والعسكريين.
وقد استجاب السَّلطان صلاح الدين لنصيحة القاضي الفاضل ، فسمع منه ، وشكر نصحه، وقبله ، وعزم على ترك الحجِّ عامَه ذلك ، وكتب به إلى سائر الممالك ، واستمرَّ السُّلطان مقيماً بالقدس جميع شهر رمضان في صيامٍ ، وصلاةٍ ، وقران ، وكلَّما وفد أحدٌ من رؤساء النَّصارى للزيارة أوْلاه غاية الإكرام ، والإحسان تأليفاً لقلوبهم ، وتأكيداً لما حلفوه من الأيمان ، ورغبةً أن يدخل في قلوبهم شيءٌ من الإيمان ، ولم يبق أحد من ملوكهم إلا جاء لزيارة القُمَامة متنكراً ، ويحضر سماط السُّلطان فيمن يحضر من جمهورهم بحيث لا يُرى ، والسُّلطان يعلم ذلك جملةً لا تفصيلاً ، ولهذا يعاملهم بالإكرام ، وَيُرِيهم صفحاً جميلاً ، وبرَّاً جزيلاً ، وظلاًّ ظليلا.
14 ـ رجوعه إلى دمشق: ولمَّا كان خامس شوَّال سنة 588 هـ ركب في عساكره ، وجحافله، فبرز من القدس الشريف قاصداً دمشق المحروسة ، واستناب على القدس عز الدين جُرديك ، وعلى قضائها بهاء الدين يوسف بن رافع بن تميم الشَّافعي ، فاجتاز على وادي الجيب ، وبات على بِرْكة الدَّاويَّة ، ثم أصبح في نابلس ، فنظر في أحوالها ، وأمورها ، ثم ترحَّل عنها ، فجعل يمرُّ بالمعاقل ، والحصون ، والبُلدان للنظر في الأحوال ، والأموال ، وكشف المظالم، والمحارم ، والماثم، وترتيب المكارم ، وفي أثاء الطريق جاء إلى خدمته بيهموند صاحب أنطاكية ، فأكرمه ، وأحسن إليه، وأطلق له أموالاً جزيلةً ، وخلعاً جميلةً ، وكان العماد الكاتب في صحُبته، فأخبر عن منازله منزلةً منزلةً ، ومرحلة مرحلةً إلى أن قال:
وعبر يوم الإثنين عين الجرِّ إلى مرج يَبُوس وقد زال البُوس ، وهناك توافد أعيان دمشق وأماثلُها ، وأفاضلها ، وفواضلها ، ونزلنا يوم الثلاثاء على العَرَّادة، جرى المُتَلقُّون بالطُّرف ، والتحف على العادة ، وأصبحنا يوم الأربعاء ـ يعني سادس عشر شوّال بكرة ـ إلى جنَّة دمشق داخلين بسلامٍ امنين ، لولا أننا غير خالدين ، وكانت غيبة السُّلطان عنها طالت أربع سنين ، فأخرجت دمشق أثقالها ، وأبرزت نساءها ، ورجالها ، وكان يوم الزِّينة ، وخرج كلُّ من في المدينة، وحشر الناس ضُحَىً ، وأشاعوا استبشاراً، وفرحاً، واجتمع بأولاده الكبار، والصغار، ووفد عليه رسل الملوك من سائر الأقطار ، وَّقام بقيَّه عامه في اقتناص الصَّيد ، وحضور دار العدل للفصل ، والعمل بالإحسان ، والفضل ، ولما كان عيد الأضحى امتدحه بعض الشعراء بقصيدةٍ يقول فيها:
وأبيها لولا تغزُّلُ عينيها
ولكانت مدائح الملك النَّاصر
ملكٌ طبَّقَ الممالكِ عدلاً
فتنحَّلَ الأعيادَ صوماً وفطراً
يا مُسِرَّ الطَّاعات لله إن
نِلْتَ ما تبْتَغي من الدِّين والدُّنيا
قد جمعتَ المَجْدَيْنِ أصلاً وفرعاً
لما قلتُ في التغزُّلِ شِعْرا
أولى ما فيه أعلم فكرا
مثل ما أوسع البَرِيَّة بِرَّا
وتَلَقَّ الهَناءَ بَرَّا وبحرا
أضحى مليكٌ على الهَنَاتِ مُصِرَّا
فتيهاً على الملوكِ وفخرا
وَمَلَكْتَ الدَّارين دنيا وأخرى

15 ـ اتِّهام أمير الحجِّ بمكاتبة صلاح الدين ضدَّ الخليفة: في سنة 588 هـ اتُّهِم أمير الحجِّ ببغداد ، وهو طاشتكين ـ وقد كان على إمرة الحجيج من مدَّة عشرين سنة ، وكان في غاية حسن السيرة بأنَّه يكاتب صلاح الدين بن أيوب بالقدوم إلى العراق ليأخذها ، فإنه ليس يردُّه أحدٌ. وقد كان مكذوب عليه في ذلك ، ومع هذا حُبِس ، وأُهين ، وصودِر.
16 ـ وفاة الشاعر أبو المرهف نصير بن منصور النميري: توفي في عام 588 هـ أبو المرهف النميري ، فقد سمع الحديث ، واشتغل بالأدب ، وكان قد أصابه جُدَرِيٌّ وهو ابن أربع عشرة سنة ، فنقص بصره ، فكان لا يُبصِرُ الأشياء البعيدة ، ويرى القريب منه ، ولِكنَّه لا يحتاج إلى قائد ، فارتحل إلى العراق لمداواة عينيه، فايسته الأطباء من ذلك ، فاشتغل بحفظ القران ، ومصاحبة الصَّالحين ، والزَّهاد ، فأفلح،وله ديوان شعر كبير حسن ، وقد سئل مرَّةً عن مذهبه ، واعتقاده ، فأنشأ يقول:
أُحِبُّ عليَّاً والبَتُولَ ووُلْدهَا
وأبر أمَّمن نال عثمانَ بالأذى
ولا أجْحَدُ الشَّيْخَينِ فضْل التَّقَدُّم
كما أتَبَرَّأ من وَلاءِ ابن مُلْجِم

ويعجبني أهلُ الحديث لِصِدْقهم
فلستُ إلى قومٍ سِوَاهم بِمُنتَهي

ومن شعره قوله:
وزهَّدني في جميع الأنام
همُ النَّاس ما لم تُجَرِّبْهُمُ
وليتكَ تَسْلم عند البُعاد
قِلَّةُ إنصاف مَنْ نَصْحَبُ
وطُلْسُ الذِّئاب إذا جُرِّبوا
مِنْهُمُ فكيفَ إذا تَقْرُبُ

يمكنكم تحميل كتاب صلاح الدين الأيوبي وجهوده في القضاء على الدولة الفاطمية وتحرير بيت المقدس
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي:

 

http://www.alsalabi.com/salabibooksOnePage/63

كما يمكنكم تحميل الكتاب باللغة الإنجليزية:

http://www.alsalabi.com/salabibooksOnePage/147

وباللغة التركية SELAHADDİN EYYÛBÎ

http://www.alsalabi.com/salabibooksOnePage/118


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022