في سيرة صلاح الدين الأيوبي:
(مرض صلاح الدين ووفاته: عام 589 هـ)
الحلقة: الثانية بعد المائة والأخيرة
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
صفر 1442 ه/ سبتمبر 2020
1 ـ الأيام الأخيرة من حياة صلاح الدين: قال العماد: والسُّلطان مقيمٌ بدمشق في داره ، وممالك الافاق في انتظاره ، والأنام مشرقة بمطالع أنواره ، ورسل الأمصار مجتمعون على بابه ، منتظرون لجوابه ، والضيوف في فيوض إنعامه عائمون ، والفقراء في رياض صدقاته راتعون ، ويجلسُ في كلِّ يوم وليلة لإسداء الجود ، وإبداء السُّعود ، وبثِّ المكارم، وكثف المظالم ، وبرز إلى الصيد شرقي دمشق بزاد خمسة عشر يوماً ، واستصحب معه أخاه العادل ، وأبعد في البَرِّيَّة ، وظهر عن ضَمِيْر ضُمَيْر إلى الجهة الشرقية وطابت له الفرص ، ووافق مراده القنص، ثم عاد يوم الإثنين حادي عشر صفر ، ووافق ذلك عود الحاجِّ الشامي ، فخرج للتَّلَقِّي ، وسعادته في التَّرَقِّي ، ولما لقيَ الحُجَّاجَ استعبرت عيناه ، كيف فاته من الحجِّ ما تَمنَّاه ، وسألهم عن أحوال مكَّة ، وأميرها ، وأهلها ، وخصبها ، ومحلِّها ، وكم وصَلَهم من غَلاَّت مصر ، وصدقاتها، وعن الفقراء، والمجاورين ، ورواتبها ، وإداراتها ، وسُرَّ بسلامة الحاجِّ ، ووضوح ذلك المنهاج ، ووصل من اليمن ولدُ أخيه سيف الإسلام ، فتلقَّاه بالإكرام.
2 ـ مرض صلاح الدين: لمَّا كانت ليلة السبت وجد كسلاً عظيماً ، فما انتصف اللَّيل حتَّى غشيته حُمَّى صفراوية ، كانت في بطنه أكثر منها في ظهره ، وأصبح يوم السبت سادس عشر صَفَر عليه أثُر الحُمَّى ، ولم يُظهر ذلك للناس ، لكن حضر عنده القاضي ابن شدَّاد ، والقاضي الفاضل ، ودخل ولده الأفضل. قال القاضي ابن شداد: وطال جلوسنا عنده ، وأخذ يشكو من قلقه باللَّيل ، وطاب له الحديث إلى قريب الظُّهر ، ثم انصرفنا؛ والقلوب عنده ، فتقدَّم إلينا بالحضور على الطَّعام في خدمة ولده الأفضل ، ولم يكن للقاضي عادةٌ بذلك ، فانصرف ، ودخلت إلى الباب القِبْلي ، وقد مُدَّ الطعام ، وولده الأفضل قد جلس في موضعه ، فانصرفتُ ، وما كان لي قوةٌ للجلوس استيحاشاً ، وبكى في ذلك اليوم جماعةٌ تفاؤلاً بجلوس ولده في موضعه ، ثمَّ أخذ المرض في تزايدٍ من حينئذٍ ، ونحن نلازم التردُّد في طَرَفي النَّهار ، وأَدْخُل إليه أنا ، والقاضي الفاضل في النَّهار مراراً، ويُعطى الطريق في بعض الأيام التي يجد فيها خفةً ، وكان مرضه في رأسه.
وكان من أمارات انتهاء العمر غيبة طبيبه الذي كان قد ألف مِزاجه سفراً ، وَحَضرَاً ، ورأى الأطباء فَصْدَه ، ففصدوه في الرَّابع ، فاشتدَّ مرضه ، وقَلَّت رطوبات بدنه ، وكان يغلبه النَّفَس غلبةً عظيمة ، ولم يَزَل المرض في تزايدٍ؛ حتى انتهى إلى غاية الضَّعف ، ولقد أجلسناه في السَّادس من مرضه، وأسندنا ظهره إلى مِخَدَّة ، وأُحضر ماءٌ فاترٌ يشربه عقيب شراب يُلَيِّن الطَّبع، فشربه ، فوجده شديد الحرارة ، فشكا من شدَّة حرِّه ، فغيِّر وعُرِض عليه ثانياً ، فشكا من برده ولم يغضب ، ولم يصخب ، رحمه الله ، ولم يقل سوى هذه الكلمات: سبحان الله لا يمكن أحداً تعديل الماء.
فخرجتُ أنا ، والقاضي من عنده ، وقد اشتدَّ منَّا البكاء ، والقاضي الفاضل يقول لي: أبصر هذه الأخلاق؛ التي قد أشرف المسلمون على مفارقتها ، والله لو أنَّ هذا ببعض الناس؛ كان قد ضرب بالقدح رأس من أحضره. واشتدَّ مرضه في السادس، والسابع، والثامن ، ولم يزل متزايداً ، وتغيَّب ذهنه، ولما كان التَّاسع؛ حدثت به رَعْشَةٌ، وامتنع من تناول المشروب ، واشتدَّ الإرجاف في البلد ، وخاف الناس ، ونقلوا الأقمشة من الأسواق ، وغشي الناسَ من الكابة والحزن ما لا يمكن حكايته.
ولقد كنت أنا ، والقاضي الفاضل نقعد كلَّ ليلةٍ إلى أن يمضي من الليل ثُلثُهُ ، أو قريبٌ منه، ثم نحضر من باب الدَّار، فإن وجدنا طريقاً؛ دخلنا ، وشاهدناه ، وانصرفنا ، وإلا تَعَرَّفنا أحواله ، وانصرفنا ، وكُنَّا نجد الناس يرتقبون خروجنا من بيوتنا ، حتى يقرؤوا أحواله من صفحات وجوهنا.
ولمَّا كان العاشر من مرضه حُقن دفعتين ، وحصل من الحُقْنة راحةٌ ، وحصل بعض الخفِّ ، وتناول من ماء الشعير مقداراً صالحاً ، وفرح الناس فرحاً شديداً ، فأقمنا على العادة إلى أن مضى من الليل هزيعٌ ، ثم أتينا باب الدَّار ، فوجدنا جمال الدولة إقبالاً ، فالتمسنا منه تعريف الحال المتجَدِّدة ، فدخل، ثم أنفذ إلينا مع الملك المعظَّم تورانشاه يقول: إن العَرَق قد أخذ في ساقيه ، فشكرنا الله تعالى على ذلك ، والتمسنا منه أن يمسَّ بقيَّة بدنه ، ويخبرنا بحاله في العرق، فافتقده ، ثمَّ خرج إلينا ، وذكر: أنَّ العَرقَ سابغٌ ، فشكرنا الله تعالى على ذلك ، وانصرفنا طيَّبة قلوبنا ، ثم أصبحنا في الحادي عشر من مرضه وهو يوم الثلاثاء السَّادس والعشرين من صفر حضرنا بالباب ، وسالنا عن الأحوال، فأخبرنا: أن العرق أفرط حتى نفذ في الفَرش ، ثمَّ في الحُصُر، وتأثرت به الأرض ، وأن اليبس قد تزايد تزايداً عظيماً ، خارت القوَّة، واستشعر الأطباء.
3 ـ تحليف الملك الأفضل الناس: ولمَّا رأى الملك الأفضل ما حلَّ بوالده ، وتحقَّق اليأس منه ، وشرع في تحليف الناس ، وجلس في دار رضوان المعروفة بسكنه ، واستحضر القضاة ، وعُمل له نسخة يمين مختصرةٌ مُحَصِّلةٌ للمقاصد ، تتضمَّن الحلف للسُّلطان مدة حياته ، وله بعد وفاته ، واعتذر للنَّاس بأن المرض قد اشتدَّ ، وما نعلم ما يكون ، وما نفعل هذا إلا احتياطاً على جاري عادة الملوك .
وكانت نسخة اليمين المحلوف بها ، وفضولها: إنني من وقتي هذا قد أصفيتُ نيَّتي ، وأخلصت طويَّتي للملك الناصر مدَّة حياته ، وإنَّني لا أزال باذلاً جهدي في الذبِّ عن دولته بنفسي ، ومالي، وسيفي ، ورجالي ، ممتثلاً أمره ، واقفاً عند مراضيه ، ثمَّ من بعده لولده الملك الأفضل عليٍّ، ووالله إنني في طاعته ، وأذبُّ عن دولته ، وبلاده بنفسي، ومالي ، وسيفي ، ورجالي ، وأمتثل أمره ، ونهيه ، وباطني ، وظاهري في ذلك سواء ، والله على ما أقول وكيل.
4 ـ وفاته، رحمه الله! ولمَّا كانت ليلة الأربعاء السابع والعشرين من صفر سنة تسع وثمانين وخمسمئة ، وهي الليلة الثانية عشر من مرضه ـ رحمة الله عليه ـ اشتدَّ مرضُه ، وضعفت قوَّته ، وقع في أوائل الأمر من أوَّل اللَّيل ، وحال بيننا وبينه النساء، واستحضرت أنا ، والقاضي الفاضل في تلك الليلة ، وابن الزَّكي ، ولم يكن عادته الحضور في ذلك الوقت ، وعرض علينا الملك الأفضل أن نبيت عنده ، فلم ير القاضي الفاضل ذلك رأياً ، فإنَّ الناس كانوا في كلِّ ليلةٍ ينتظرون نزولنا في القلعة ، فخاف أن لا ننزل، فيقع الصَّوت في البلد ، وربما نهبَ الناس بعضهم بعضاً ، فرأى المصلحة في نزولنا ، واستحضار الشيخ أبي جعفر إمام الكلاَّسة ـ وهو رجل صالح ـ يبيت في القلعة؛ حتَّى إن احتضر ـ رحمة الله عليه ـ باللَّيل؛ حضر عنده، وحال بينه وبين النساء ، وذُكِّر بالشهادة ، وذكر الله تعالى ، ففعل ، ونزلنا وكلٌّ منا يودُّ فداءه بنفسه، وبات في تلك الليلة ـ رحمة الله عليه ـ على حال المُنتقلين إلى الله تعالى ، والشيخ أبو جعفر يقرأ عنده القران ، ويذكِّره بالله تعالى ، وكان ذهنه غائباً من ليلة التاسع، ولا يكاد يفيق إلا في الأحيان.
وذكر الشيخ أبو جعفر: أنه لما انتهى إلى قوله تعالى: ﴿هُوَ ٱللَّهُ ٱلَّذِي لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَۖ عَٰلِمُ ٱلۡغَيۡبِ وَٱلشَّهَٰدَةِۖ﴾ [الحشر:22] سمعه وهو يقول ـ رحمة الله عليه ـ: «صحيح»؛ وهذه يقظةٌ في وقت الحاجة ، وعنايةٌ من الله تعالى به ، فلله الحمد على ذلك.
وكانت وفاته ـ رحمة الله عليه ـ بعد صلاة الصُّبح من يوم الأربعاء سابع وعشرين من صفر سنة تسع وثمانين وخمسمئة ، وبادر القاضي الفاضل بعد طلوع الصبح وفاته، رحمة الله عليه. ولقد حكى لي: أنه بُلِّغ لما بلغ الشيخ أبو جعفر إلى قوله تعالى: ﴿هُوَ ٱللَّهُ ٱلَّذِي لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَۖ عَٰلِمُ ٱلۡغَيۡبِ وَٱلشَّهَٰدَةِۖ﴾[الحشر:22] تبَّسَّم ، وتهلَلَّ وجهُهُ ، وسَلَّمها إلى ربه. وكان يوماً لم يُصَبِ الإسلام، والمسلمون بمثله منذ فُقِد الخلفاء الرَّاشدون ، وغِشيَ القلعة ، والبلد ، والدُّنيا من الوحشة مالا يعلمه إلا الله. قال القاضي بن شَدَّاد: وتالله لقد كنت أسمع من بعض الناس أنهم يتمنَّون فِدَاء مَنْ يعزُّ عليهم بنفوسهم ، فكنت أحمل ذلك على ضرب من التجوُّز ، والترخُّص إلى ذلك اليوم ، فإني علمت من نفسي، ومن غيري: أنَّه لو قُبِلَ الفداء؛ لفُدِيَ بالنفس.
5 ـ الجلوس للعزاء ودفنه: ثمَّ جلس ولده الأفضل للعزاء في الإيوان الشَّمالي ، وحُفظ باب القلعة إلا عن الخواصِّ من الأمراء، والمعمَّمين ، وكان يوماً عظيماً قد شغل كلَّ إنسان ما عنده من الحزن ، والأسف ، والبكاء ، والاستغاثة عن أن ينظر إلى غيره ، وحُفِظَ المجلس عن أن ينشد فيه شاعرٌ ، أو يتكلَّم فيه فصَّال ، أوْ وَعَّاظ ، وكان أولاده يخرجون مستغيثين بين الناس ، فتكاد النفوس تُزهق لهول منظرهم ، ودام الحال على ذلك إلى بعد صلاة الظُّهر ، ثم اشتغل بتغسيله ، وتكفينه ، فما تمكَّنَّا أن ندخل في تجهيزه ما قيمتُه حبَّةٌ واحدةٌ إلا بالقرض؛ حتَّى في ثمن التِّبن الذي يُلَتُّ به الطِّين. وغَسَّله الدَّولعي الفقيه ونُدبت إلى الوقوف على غُسْله ، فلم يكن لي قُوَّة تَحَمُّل ذلك المنظر ، وأخرج بعد صلاة الظُّهر في تابوت مُسَجَّىً بثوب فوط ، وكان ذلك ، وجميع ما احتاج إليه من الثياب في تكفينه قد أحضره الفاضل من وجِه حلٍّ عَرَفَه ، وارتفعت الأصوات عند مشاهدته ، وعظم الضَّجيج حتى إنَّ العاقل يتخَيَّل: أنَّ الدُّنيا كلها تصبح صوتاً واحداً ، وغِشيَ الناس من البكاء والعويل ما شغلهم عن الصَّلاة، وصلَّى عليه الناس أرسالاً، وكان أوَّل من أمَّ الناس القاضي محي الدين بن الزَّكي، ثم أعيد ـ رحمة الله عليه ـ إلى الدار التي في البستان التي كان متمرضاً بها، ودفن في الضفَّة الغربية منها، وكان نزوله في حفرته قريباً من صلاة العصر.
ثم نزل في أثناء النَّهار ولده الظَّافر ، وعزَّى النَّاسَ فيه ، وسكَّن قلوب الناس ، وكان الناس قد شغلهم الحزن ، والبكاء عن الاشتغال بالنَّهب ، والفساد ، فما يوجد قلبٌ إلا حزين ، ولا عينٌ إلا باكية إلا من شاء الله ، ثم رجع الناس إلى بيوتهم أقبح رجوع ، ولم يَعُدْ منَّا أحدٌ في تلك الليلة إلا أنَّا حضرنا ، وقرأنا ، وجَدَّدنا حالاً من الحُزن ، واشتغل ذلك اليوم الملك الأفضل بكتب الكتب إلى إخوته ، وعمِّه يخبرهم بهذا الحادث. وفي اليوم الثاني جلس للعزاء جلوساً عامَّاً، وأطلق باب القلعة للفقهاء ، والعلماء ، وتكلَّم المتكلمون ، ولم ينشد شاعرٌ ، ثم انفضَّ المجلس في ظهيرة ذلك اليوم ، واستمرَّ الحال في حضور الناس بكرةً ، وعشيةً لقراءة القران ، والدُّعاء له ، رحمه الله!
وقال ابن كثير: .. ثم عمل عزاؤه بالجامع الأُمويِّ ثلاثة أيام ، يحضره الخواصُّ ، والعوامُّ ، والرَّعية ، والحكَّام ، وقد عمل فيه الشعراءُ مراثي كثيرةً من أحسنها ما عمل العماد الكاتب في كتابه «البرق الشامي» وهي مئتان واثنان وثلاثون بيتاً.
6 ـ سيف صلاح الدين في قبره: ويقال: إنَّه دُفن معه سيفُه الذي كان يحضر به الجهاد، والجلاد، وذلك عن أمر القاضي الفاضل أحد الأجواد الأمجاد، وتفاءلوا بأنَّه يكون معه يوم القيامة يتوكَّأ عليه، حتى يدخل الجنَّة؛ لما أنعم عليه من كسر الأعداء، ونصر الأولياء، وأَعظم عليه بذلك المنَّة!
7 ـ وصية صلاح الدين لابنه الملك الظاهر: أوصيك بتقوى الله ، فإنها رأس كلِّ خير ، وامرك بما أمرك الله به ، فإنَّه سبب نجاتك ، وأحذِّرك من الدِّماء، والدخول فيها ، والتقلُّد لها ، فإن الدَّم لا ينام ، وأوصيك بحفظ قلوب الرَّعية، والنَّظر في أحوالهم ، فأنت أمين ، وأمين الناس عليهم. وأوصيك بحفظ قلوب الأمراء ، وأرباب الدَّولة ، والأكابر ، فما بلغتُ ما بلغتُ إلا بمدارة الناس ، ولا تحقد على أحدٍ ، فإنَّ الموت لا يبقي على أحد ، وأحذر ما بينك وبين الناس ، فإنَّه لا يُغفر إلا برضاهم ، وما بينك وبين الله يغفره الله بتوبتك إليه ، فإنَّه كريم.
8 ـ ما خلَّف من التَّركة: لم يترك في خزانته من الذهب سوى دينارٍ واحدٍ، وستة وثلاثين درهماً. وقيل: سبعة وأربعين درهماً، ولم يترك داراً ، ولا عقاراً ، ولا مزرعةً ، ولا بستاناً ، ولا شيئاً من أنواع الأملاك ، وإنما لم يُخلِّف أموالاً ، ولا أملاكاً لكثرة عطاياه ، وهباته ، وصدقاته ، وإحسانه إلى أمرائه ، ووزرائه ، وأوليائه حتَّى إلى أعدائه. وقد كان متقلِّلاً في ملبسه ، ومأكله ، ومشربه، ومركبه ، فلا يلبس إلا القطن، والكتَّان ، والصُّوف، ولا يُعرَفُ: أنَّه تخطَّى مكروهاً بعد أن أنعم الله عليه بالملك ، بل كان همُّه الأكبر ومقصوده الأعظم نَصْرَ الإسلام ، وكسر الأعداء اللِّئام ، ويعمل فكره في ذلك، ورأيه وحده، ومع من يثق برأيه ليلاً، ونهاراً ، وجهاراً ، وهذا مع ما لديه من الفضائل ، والفواضل ، والفوائد الفرائد في اللُّغة ، والأدب ، وأيام الناس ، حتى قيل: إنه كان يحفظ الحماسة بتمامها ، وختامها ، وكان مواظباً على الصَّلوات في أوقاتها في جماعةٍ ، ولم تفته الجماعة في صلاة قبل وفاته بدهرٍ طويل ، حتَّى ولا في مرضِ موته ، كان يدخل الإمام فيُصلِّي به ، فكان يتجشَّم القيامَ مع ضعفه .
9 ـ من أروع الرسائل في أخبار وفاة صلاح الدين: قال صاحب النُّجوم الزاهرة: وفي ساعة موت السُّلطان صلاح الدين كتب القاضي الفاضل إلى ولده الملك الظاهر صاحب حلب بطاقةً مضمونها: ﴿لَّقَدۡ كَانَ لَكُمۡ فِي رَسُولِ ٱللَّهِ أُسۡوَةٌ حَسَنَةٞ﴾[الأحزاب:21]﴿إِنَّ زَلۡزَلَةَ ٱلسَّاعَةِ شَيۡءٌ عَظِيمٞ﴾ [الحج:1] . كتبت إلى مولانا السُّلطان الملك الظاهر، أحسن الله عزاءه ، وجبر مصابه ، وجعل فيه الخلف للملك المرحوم ، وقد زُلزل المسلمون زلزالاً عظيماً ، وقد حفرت الدُّموع المحاجر ، وبلغت القلوب الحناجر ، وقد قبَّلتُ اباك ومخدمي وداعاً لا تلاقي بعده ، وقد قبَّلت وجهه عنِّي، وعنك ، وأسلمته إلى الله مغلوب الحيلة، ضعيف القوَّة، راضياً عن الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وبالباب جنود مجنَّدة، والأسلحة المغمدة ما لا يدفع البلاء، ولا يرد القضاء، وتدمع العين، ويخشع القلب ، ولا نقول إلا ما يُرضي الربَّ، وإنا عليك يا يوسف لمحزونون. وأما الوصايا؛ فما يحتاج إليها، والاراء فقد شغلني المصاب عنها ، وأما لائح الأمر، فإنه إن وقع اتِّفاق؛ فما فقدتم إلا شخصه الكريم، وإن كان غير ذلك فالمصائب المستقبلية أهونها موتُه، وهو الهول العظيم. والسَّلام.
10 ـ رؤيا مبشرة: قال أبو شامة في كتابه الرَّوضتين: ووجدت في بعض الكتب الفاضلية: أنَّ رجلاً رأى ليلة وفاة السُّلطان كأنَّ قائلاً يقول له: قد خرج اللَّيلة يوسف من السِّجن. وهو من الأثر النبوي: «الدُّنيا سجن المؤمن، وجنَّة الكافر». وما كان يوسفنا ـ رحمة الله عليه ـ في الدنيا بالإضافة إلى ما صار إليه في الاخرة لا في سجنٍ. رضي الله عن تلك الروح ، وفتح له باب الجنَّة ، فهو اخر ما كان يرجو من الفتوح.
1 ـ قصيدة العماد الأصفهاني في رثاء صلاح الدين:
شَمْلُ الهُدى والمُلْكِ عَمَّ شَتَاتُهُ
أين الذي مُذْ لم يَزَل مخشيَّةً
أين الذي كانت له طاعاتُنا
بالله أين النَّاصر الملك الذي
أين الذي ما زال سُلطاناً لنا
أين الذي شَرُفَ الزَّمان بفضله
أين الذي عَنَتِ الفرنجُ لبأسِه
أغلالُ أعناقِ العِدَى أسيافُه
لم يُجْدِ تدبيرُ الطَّبيب وكم وكن
مَنْ في الجهاد صِفَاحُه ما أغُمدت
مَنْ في صدور الكُفْر صدرُ قَناتِهِ
لَذُّ المتاعب في الجهاد ولم تكن
مسعودةٌ غداوتُهُ محمودةٌ
في نصرةِ الإسلام يَسْهَرُ دائماً
لا تحسبوه مات شخصٌ واحدٌ
مَلِكٌ عن الإسلام كان محامياً
قد أظلمت مُذ غابَ عنها دُوْرُه
دُفن السَّماحُ فليس تُنثَرُ بعدما
الدِّين بعد أبي المظفَّر يوسف
والدَّهرُ ساء وأقلعت حسناتُه
مرجَّوةً هبَّاتُهُ وَهِبَاتُه
مبذولةً ولرَبِّه طاعاتُه
لله خالصةً صفت نيَّاتُه
يُرجى نَدَاه وتُتَّقى سَطَواتُه
وسَمَتْ على الفُضَلاء تشريفاتُه
ذُلاًّ ومنها أدركت ثاراتُه
أطواقُ أجياد الورى مِنَّاتُهُ
أجدت لطبِّ الدَّهر تدبيراتُهُ
بالنَّصر حتى أُغمدت صفحاتهُ
حتَّى توارت بالصِّفيح قَنَاتُه
مُذ عاش قَطُّ لذاتِهِ لَذَّاتُه
روحاتُه ميمونةٌ ضَحَواتُه
ليطولَ في روض الجنان سُبَاتُه
فمماتُ كلِّ العالمين مماتُه
أبداً لماذا أسلَمَتْهُ حُمَاتُه
لمَّا خلتْ مِنْ بَدْرِه دَارَاتُه
أودى إلى يوم النُّشور رُفاتُهُ
أَقْوَت قُواه وأَقْفَرتْ ساحاتهُ
جبلٌ تضعضع مِنْ تَضَعْضُعِ رُكنه
ما كنتُ أعلم أنَّ طوداً شامخاً
ما كنتُ أعلم أنَّ بحراً طامياً
بحرٌ خلا مِنْ وارديه ولم تَزَل
مَنْ للتيامى والأراملِ راحمٌ
فعلى صلاح الدين يوسُفَ دائماً
لضريحه سُقْيا السَّحابِ فإنْ يَغِبْ
وكعادة البيت المقَدَّسِ يحزُنُ
مَنْ للثُّغور وقد غدَاها حفِظُهُ
بكتِ الصَّوارمُ والصَّواهلُ إذ خلت
وبسيفه صدأٌ لِحُزْن مُصابها إذ
يا وحشةً للبيض في أغمادها
يا وحشةَ الإسلام يوم تمكَّنَتْ
ياحسرتا مِنْ يأسِ راجيه الَّذي
ملأتْ مهابتُه البلاد فإنَّه
ما كان أسرع عصره لمَّا انقضى
لم أنس يوم السَّبت وهو لِمَا به
والبِشْرُ منه تَبلَّجَت أنوارُهُ
ويقول لله المهيمن حُكْمُهُ
وقف الملوكُ على انتظار ركوبه
كانوا وقوفاً أمسِ تحت ركابه
وممالك الافاق ساعيةٌ له
هذي مناشيرُ الممالك تقتضي
هذي الجيوش من البلاد تواصَلَت
قد كان وَعْدُك في الرَّبيع بجمعها
والجُندُ في الدِّيوان جُدِّدَ عَرْضُهُ
والقدسُ طامحةٌ إليك عيونُه
والغربُ منتظرٌ طلوعك نحوه
والشَّرق يرجو غَرْبَ عَزمِكَ ماضياً
مُغْرىً بإسداء الجميل كأنَّما
أركانُنا تَهْدُّنا هدَّاتُهُ
يَهْوي ولا تَهْوِي بنا صهْوَاتُه
فينا يُطَمُّ وتنتهي زَخَراتُه
محفوفةً بوفوده حافَاتُه
متعطِّف مفضوضةٌ صَدَقاتُهُ
رضوانُ ربِّ العرش بَلْ صَلَوَاتُه
تَحْضُر لرحمةِ ربِّه سُقْياتهُ
البيت الحرامُ عليه بل عرفاتهُ
مَنْ للجهاد ولم تَعُدْ عاداتُه
مِنْ سَلِّها وركوبها غزواتُه
ليس يُشفى بعده صَدَياتُه
لا تنتقيها للوغى عزماتُه
في كلِّ قلبٍ مؤمنٍ رَوْعَاتُهُ
يُقضى الزَّمان وما انقضت حسراتهُ
أسدٌ وإنَّ بلادَهُ غاباتُه
فكأنَّما سنواتُه ساعاتُه
يُبدي السُّباتَ وقد بَدَتْ غشياتُه
والوَجْه منه تلألأت سُبُحاتُه
في مرضةٍ حَصَلَت بها مَرْضَاتُه
لهُمْ ففيم تأخَّرت رَكَباتُه
واليوم هُمْ حَوْلَ السَّريرِ مُشاتُه
فمتى تجيءُ بفَتْحِهنَّ سُعَاتُه
توقيعُه فيها فأين دَواتُه
فعلام لا تسمو لها راياتُه
هذا الرَّبيع وقد دنا ميقاتُهُ
وإذا أمرت تَجدَّدت نفقاتُه
عَجِّلْ فقد طَمَحَت إليه عُداتُه
حتَّى تفيءَ إلى هُدَاك بُغاتُه
في مُلكه حتَّى تُطيع عُصاتُه
فُرِضَت عليه كالصَّلاة صِلاتُه
هل للملوك مَضَاؤه في مَوقَفٍ
وإذا الملوكُ سَعَوْا وقصَّرَ سَعْيُهُم
كم جاءه التَّوفيق في وقعاته
شُدَّت على أعدائه شَدَّاتُه
رَجَحت وقد نَجَحَتْ به مَسْعَاتُه
مَنْ كان بالتوفيق توقيعاتُه
قال أيضاً:
يا راعياً للدِّين حين تمكَّنَتْ
ما كان ضَرَّك لو أقمت مُراعياً
أضجرت مِنَّا أم أَنِفت فلم تَكُنْ
أرضيت تحت الأرضِ يا مَنْ لم تَزَلْ
فارقت مُلكْاً غيرَ باقٍ مُتْعبِاً
أعزِز على عيني برؤية بهجة الدُّنيا
أبني صلاح الدِّين إنَّ أباكُمُ
لا تقتدوا إلا بسُنَّةِ فَضْلِه
وَرِدُوا موارد عَدْلِهِ وسَماحِهِ
ولئن هوى جَبَلٌ لقد بنيت لنا
وبفضل أفضل وعزِّ عزيزه
الأفضل الملكُ الذي ظَهَرَتْ على الدُّنيا
والدِّين بالملك العزيزِ عِمَادُه
والمَلْك غازي الظَّاهرُ العالي الَّذي
ولنا بسيف الدِّين أظهرُ نصرةٍ
منه الذِّئاب وأَسْلَمَتْهُ رُعاتُه
ديناً تَوَلَّى مُذْ رَحَلْتَ وُلاتُه
ممَّن تُصابُ لشِّدةٍ ضَجَراتُه
فوق السَّماء عَلِيَّةٌ درجاتُه
ووَصلت مُلْكا باقياً راحاتُه
ووجهك لا تُرى بهجاتُه
ما زال يأبى ما الكِرامُ أباتُه
لتطيب مِنْ مهد النَّعيم سِنَاتُه
لِتُرَدَّ عن نهج الشَّمَاتِ شُمَاتُه
ببنيه مِنْ هَضَبَاتِهِ ذُرَوَاتُه
وظهور ظاهر لنا سَرَواتُه
بزهر جلاله جَلَواتُه
عثمانُ حاليةٌ لنا حالاتُه
صَحَّت لإظهار العُلَى مغزاتُه
بالعادل الملك المُطَهَّرِ ذاتُه
وقال أيضاً:
مَنْ للعُلا مَنْ للذُّرى مَنْ للهُدى
طلب البقاء لملكه من اجل
بحرٌ أعاد البَرَّ بحراً بِرُّه
مَنْ كان أهلُ الحَقِّ في أيامه
وفتوحُهُ والقُدسُ مِنْ أبكارِها
ما كنت أستسقي لقبرك وابلاً
يحميه مَنْ للبأس مَنْ للنائل
إذ لم يثق ببقاء مُلك العاجل
وبسيفه فُتِحَتْ بلادُ السَّاحل
وبعزِّه يُرْدُون أهلَ الباطل
أبقت له فضلاً بغير مُسَاجل
ورأيتُ جُوْدَكَ مُخْجِلاً للوابِل
فَسَقاك رِضوانُ الإله لأنَّني
لا أتَّقي سُقيا الغَمَام الهاطِل
لقد تأثر الناس بوفاة صلاح الدين؛ حتى المؤرِّخون الأوروبيُّون ترحَّموا على صلاح الدين ، وأشادوا بعدله ، وبقوَّته ، وتسامحه ، واعتبروه أعظم شخصيةٍ شهدها عصر الحروب الصَّليبية قاطبةً. وأمَّا مكانة صلاح الدين؛ فستظلُّ عظيمةً أبد الدهر؛ إذ يكفى ما قام به في سبيل توحيد صفوف المسلمين ، والدِّفاع عن كيانهم ، ثمَّ مواصلة الجهاد في صورةٍ لا تعرف الملل لطرد الغزاة الدُّخلاء. ولقد كان حبُّه للجهاد ، والشغف به قد استولى على قلبه، وسائر جوانحه استيلاءً عظيماً ، بحيث ما كان له حديث إلا فيه. ولا نظرٌ إلا في الاته ، ولا كان له اهتمامٌ إلا برجاله ، ولا ميلٌ إلا إلى مَنْ يذكره ، ويحثُّ عليه. ولقد هجر في محبة الجهاد في سبيل الله أهلَه ، وأولادَه ، ووطنَه، وسكنَه ، وسائرَ بلاده، وقنع من الدنيا بالسُّكون في ظل خيمةٍ تهبُّ بها الرِّياح ميمنةً ، وميسرةً. ولا شك: أن وفاة صلاح الدين جاءت خسارةً كبرى للجبهة الإسلامية المتَّحدة؛ إذ أنذرت هذه الوفاة بقيام المنازعات بين أبناء البيت الأيوبي ، والذي سنتحدَّث عنه تفصيلاً بإذن الله تعالى في كتابنا الرَّابع من سلسلة موسوعة الحروب الصليبية ، والَّذي عنوانه: «الأيوبيُّون بعد وفاة صلا الدِّين».
يمكنكم تحميل كتاب صلاح الدين الأيوبي وجهوده في القضاء على الدولة الفاطمية وتحرير بيت المقدس
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي
http://www.alsalabi.com/salabibooksOnePage/63
كما يمكنكم تحميل الكتاب باللغة الإنجليزية:
http://www.alsalabi.com/salabibooksOnePage/147
وباللغة التركية SELAHADDİN EYYÛBÎ