في سيرة صلاح الدين الأيوبي:
شرف الدولة مودود بن التونتكين 501هـ 507هـ/1108م ـ 1113م
الحلقة: العاشرة
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
رمضان 1441 ه/ مايو 2020
يحتل مودود مكانة خاصة في تاريخ الجهاد ضد الصليبيين ، وقد أسهمت في تكوين هذه المكانة عوامل عدة أهمها ـ ولا ريب ـ الفترة المبكرة التي ظهر فيها ، والطابع الإسلامي العميق لشخصيته المتفانية في سبيل أهداف المسلمين الكبرى ، وسياسته الداخلية العادلة السمحة ، وقدرته ـ بناءً على ذلك كله ـ على تزعُّم حركة الجهاد، وإيجاد نوع من التنسيق ـ ربما لأول مرّة ـ بين كافة القوى الإسلامية في ساحات الجهاد ، الأمر الذي لن نجده متبلوراً وناضجاً إلاَّ في عهد الأراتقة ، وزنكي فيما بعد... وأخيراً نجاحه في وضع الصليبيين في موضع الدفاع ، وتحقيقه عدداً من الانتصارات ، جاء أحدها عند مرتفعات طبرية في قلب فلسطين ، بعيداً عن الساحة التي درج عليها الصراع بين ولاة الموصل السابقين وأعدائهم.. ثم جاء مقتله السريع إثر ذلك في جامع دمشق على أيدي الشيعة الباطنية الأعداء الشرسين لحركة الجهاد ، والمقاومة ، والحزن العميق الذي شمل جماهير المسلمين بعيد اغتياله ، والكلمات المخلصة التي قالها قبيل استشهاده جاء ذلك كله؛ لكي يؤكد مكانة مودود الإسلامية كبطل من أبطال الحروب الصليبية ، ورائد من وراد الجهاد الأولين.
أ ـ حملة مودود الأولى ضد الرُّها:
في عام 503هـ/1109م بعد أشهر قليلة من استتاب الأمر له في الموصل ، وبعد أن تلقَّى أمراً من السلطان السلجوقي محمد بن ملكشاه بالتحرك لقتال الصليبيين ، فبدأ مودود بتشكيل تحالف إسلامي ، ضم الأمير إيلغازي الأرتقي أمير ماردين بعساكره من التركمان ، وسقمان القطبي أمير أرمينية المعروف باسم شاه الأرمن وعدد كبير من المتطوعين. وكانت هذه أول مرة يجتمع فيها هذا العدد من الأمراء المسلمين لقتال الصليبيين ، ولهذا تُعُّد هذه الحملة فاتحة عهد جديد من النضال ضد الصليبيين ، ونقطة تحول هامة من التفرق ، والتخاذل إلى التجمع ، والهجوم ، وما إن علم الصليبيون في الرُّها بحشود المسلمين؛ حتى أنقذ بلدوين دي بورج رسولاً إلى بيت المقدس يلتمس النجدة العاجلة من الملك بلدوين ، متجاهلاً الاستعانة بـ «تانكرد» صاحب أنطاكية؛ إذ كان يشك في نواياه ، وباتفاقه مع المسلمين ضد الرُّها. وكان الملك بلدوين انذاك يحاصر مدينة بيروت ، ولم يتحرك إلا بعد أن استولى عليها ، فأسرع بالمسير نحو الشمال ، وصحبه برترام أمير طرابلس ، وانضمَّ إليه قرب سميساط زعماء الأرمن ، وعلى راسهم كوغ باسيل ، فوصل إلى الرُّها في اخر شهر ذي الحجة/أواخر شهر تموز.
وظلَّ الأتابك مودود يحاصر الرُّها مدة شهرين دون أن يتمكَّن من اختراق استحكاماتها ، فلما تراءى له جيش بيت المقدس؛ رفع الحصار عنها ، وتراجع إلى حرَّان وفق خطة عسكرية محكمة ، وانضمَّ إليه طغتكين أتابك دمشق ، وقرَّر الملك بلدوين مطاردة الجيوش الإسلامية ، إلا أنه كان عليه أن يوحِّد كلمة الصليبيين قبل أن يقوم بهذا العمل ، فاستدعى تانكرد صاحب أنطاكية ، ونجح في تحقيق المصالحة بينه وبين أمير الرُّها ، وكان مودود قد أمعن في انسحابه لاستدراج الصليبيين إلى مكان بعيد عن قاعدتهم ، ثم تطويقهم بعد أن ينحرف فجأة إلى الشمال ، لكن عملية المطاردة توقفت فجأة ، وانفرط عقد التحالف الصليبي؛ لأنه تظافرت عدَّة دوافع جعلت الصليبيين يتوقفون عن المطاردة ، ويتراجعون من المنطقة ، لعلَّ من أهمها:
ـ لقد تلقَّى الملك بلدوين تحذيراً مبكراً بخطة مودود ، ففكَّ الحصار عن قلعة شناو التي تقع إلى الشمال الغربي من حرَّان ، كما تلقَّى إنذاراً من بيت المقدس بتحرك فاطمي ضد بيروت ، فقرَّر التخلِّي عن الحملة.
ـ راجت شائعات في الأوساط الصليبية بأنَّ رضوان صاحب حلب يستعد لمهاجمة أنطاكية في ظلِّ غياب أميرها ، فاضطر تانكرد إلى التخلِّي عن الحملة.
ـ وبناء على نصيحة الملك ، بأن لا جدوى من محاولة جماية الجهات الواقعة شرقي نهر الفرات؛ أو عز بلدوين إلى السكان بالجلاء إلى الجهات الواقعة على الضَّفة اليمنى ، واحتفظ بحاميات عسكرية ، في حصني الرُّها ، وسروج الكبيرين ، وبعض القلاع الصغيرة مع تدعيم الإمكانات الدفاعية لها. أما مودود؛ فقد اكتفى بمهاجمة مؤخرة الصَّليبيين العابرين ، وعاد إلى الموصل.
ب ـ حملة مودود الثانية ضد الرُّها:
جاءت الجولة الثانية بعد أقل من سنتين إثر الاستنفار الذي دعا إليه وفد من أهالي حلب ، قدم إلى بغداد للدعوة إلى الجهاد بعدما رأوا من تمادي رضوان في إذعانه للصليبيين ، والهزائم المتتالية التي مُنِيَ بها مسلمو الشام ، والتي سقط على إثرها عدد من المواقع بأيدي الأعداء ، وقد استفز نداء الوفد الحلبي جماهير بغداد ، وفقهاءها ، فقاموا بتظاهرة واسعة ، طالبوا المسؤولين خلالها ـ خلفاء ، وسلاطين ـ بضرورة إعلان الجهاد ، وتسيير الجيوش لوقف الزحف الصليبي. وقد أسرع الخليفة بإعلام السلطان السلجوقي بما جرى ، وطلب منه الاهتمام بالأمر ، والإسراع بالاستجابة لنداءات المسلمين ، فأصدر هذا أوامره على الفور إلى وليه على الموصل الأمير مودود بتشكيل تحالف إسلامي جديد جاعلاً القيادة الاسمية لابنه الملك مسعود.
واجتمع تحت قيادة مودود حاكم الموصل جميعُ حكام الأقاليم في دولة السلاجقة: سقمان القبطي صاحب خلاط ، وتبريز ، وبعض ديار بكر ، وإيلغازي الأرتقي؛ الذي أناب عنه ابنه أياز ، والأميران الكرديان: أحمديل صاحب مراغة ، وأبو الهيجاء صاحب إربل؛ فضلاً عن بعض أمراء فارس بزعامة الأميرين: أيلنكي ، وزنكي ابني بُرسُق أمير همذان. بدأت قوات التحالف عملياتها العسكرية في شهر محرم عام 505هـ شهر تموز عام 1111م بفتح عدة مواقع صليبية شرقي الفرات ، ثم اتجه أفرادها لحصار الرُّها. أثارت الحملة الذعر بين السكان ، لكن في الحقيقة لم تغيِّر الموقف فيها ، فقد أعيت المسلمين بسبب مناعتها ، وصمود أهلها ، عندئذٍ رأى مودود أن يعبر الفرات لمهاجمة تل باشر، فتحوَّلت قوات المسلمين إليها؛ كي يجرُّوا أعداءهم إلى عبور الفرات ، فيتمكنوا منهم إلا أن هذا كان خطأً من قادة المسلمين؛ لأن الصليبيين تمكَّنوا لدى عبورهم الفرات من نقل مقادير كبيرة من الميرة ، والأعتدة ، والأقوات إلى الرُّها ، فقويت من بعد ضعفٍ كاد يوقعها بايدي المسلمين لو استمروا على حصارهم لها. وما لبث جوسلين صاحب تل باشر؛ الذي تعرض لضغط القوات الإسلامية أن تمكن من رشوة القائد الكردي أحمديل الذي كان الجزء الأكبر من قوات المسلمين بمعيته ، فانسحب متراجعاً بالرغم من معارضة سائر الأمراء.
ولم يمض وقتٌ طويل حتى استنجد رضوان بمودود ، واستدعى قواته للقدوم إلى حلب؛ كي يعملوا سوية من هناك ضدَّ المواقع الصليبية ، فغادر مودود تل باشر متجهاً إلى حلب على راس قواته ، وما أن ابتعدوا عن تل باشر حتى خرج إليهم جوسلين ، على رأس قوة من فرسانه ، وتمكَّن من مهاجمة مؤخرتهم ، وقتل ما يقرب من ألف رجل منهم ، وعاد إلى بلده مثقلاً بالغنائم ، ولم تكن دعوة رضوان لمودود صادقةً ، فلم تكد القوات الإسلامية تقترب من حلب؛ حتى أقفل رضوان بوجهها الأبواب ، واتخذ من إجراءات الحيطة لمنع المظاهرات أن أمر باعتقال عدد كبير من أعيان المدينة ، واتخذهم رهائن ، ولم يسع مودود إلا أن يتحرَّك بجيشه جنوباً إلى شيزر بعد أن أغار على عدد من المواقع الصليبية في الشمال ، وفي شيزر اجتمع به طغتكين الذي كان قد توجه إلى بغداد طالباً المساعدة لاستعادة طرابلس ، إلا أنه خاف أن تؤخذ منه دمشق ، فشرع في مهادنة الصليبيين سراً.
وأما تانكرد الذي عسكر أمام شيزر؛ فإنه تراجع إلى أفامية ، وأرسل إلى الملك بلدوين يستنجد به ، فاستجاب له هذا ، وبعث إلى سائر الفرسان في الشرق الصليبي؛ ليلحقوا به ، فانضمَّ إليه عدد كبير منهم ، كما قام تانكرد باستدعاء أتباعه من سائر جهات أنطاكية. وأما مودود فقد تحصَّن خلف أسوار شيزر قبل أن يكتمل حشد الصليبيين؛ الذين بلغ عددهم ستة عشر ألف مقاتل ، كان على رأسهم ملك بيت المقدس ، وأمراء الرُّها ، وإنطاكية ، وطرابلس ، ورفض مودود أن يجرَّه أعداؤه إلى معركة حاسمة. إلا أنَّ الأمور لم تجر على نحو طيب في جيشه؛ إذ إنَّ طغتكين لم يشأ أن يبذل له المساعدة إلاَّ بعد أن تعهد مودود بالمضي في حملته إلى الجنوب لقتال الصليبيين في فلسطين رغم خطورة هذه المحاولة من الناحية العسكرية.
وأما برسق الكردي؛ فأصابه المرض ، وأراد أن يعود إلى بلاده. ومات سقمان القطبي فجأةً ، فانسحبت عساكره صوب الشمال حاملةً جثمانه ، وبادر أحمديل إلى الانسحاب بعساكره محاولاً انتزاع جانب من ممتلكات سقمان ، ولم يعد بوسع مودود القيام بالهجوم نظراً لتناقص قواته يوماً بعد يوم ، كما أنه لم يكن راغباً في أن يقضي الشتاء بعيداً عن الموصل ، فقفل عائداً إليها. كان لتلك البوادر السيئة من قبل بعض الأمراء أثرها المباشر على إمكان تحقيق أيِّ نصرٍ حاسم ضد الصليبيين ، كذلك الذي حقَّقه جكرمش ، وسقمان في معركة البليخ.
وقد أظهرت هذه الأحداث مدى تفكُّك القيادات الإسلامية ، وعدم وحدتها ، في الوقت الذي تجمعت فيه القوى الصليبية في شمالي الشام ، وجنوبه ، وحقَّقت لبلدوين ملك بيت المقدس نوعاً من الزَّعامة على سائر أمراء الصليبين.
كانت سياسة رضوان في إمارة حلب شرّاً كلها ، فقد هادن الإسماعلية ، والصليبيين ، وحالفهم ضد خصومهم من المسلمين؛ إذ انضم إلى صاحب أنطاكية الصليبي ضدَّ صاحب الموصل جاولي عام 501هـ ، وعندما هاجم الأمير مودود صاحب الموصل أنطاكية ، وتل باشر؛ رفضل رضوان مساعدته ، وأغلق مدينة حلب في وجهه ، بل تحالف مع «تنكرد» الصليبي صاحب أنطاكية ضد المجاهدين ، وبقيت أبواب المدينة مغلقة سبع عشرة ليلة في وجه الجيش الإسلامي، ولم يحفظ له الصليبيون هذه المواقف ، فحاصروا حلب عام 504هـ ، واشتدَّ الحصار ، حتى أكل الناس الميتات ، وورق الشجر ، وفرضوا على رضوان مبلغاً من المال ، كان يحمله إليهم سنوياً، وحصل الإسماعلية الباطنية الرافضية على مكانةٍ مرموقة في حلب بفضل تشيع رضوان لأرائهم ، ومساعدته لهم ، ومن ثمَّ صار يستخدمهم في اغتيال خصومه السياسيين، وكان يميل إلى الفاطميين ، فخطب للمستعلي في بلاده ، ولوزيره الأفضل ، ودامت الخطبة لهما عامين في حلب ، وكان ذميم السيرة ، قرَّب الباطنية ، وعمل لهم دار دعوة في حلب ، فكثروا ، وهلك سنة 507هـ ، وصفه المؤرخ أبو المحاسن ، فقال: كان شحيحاً ، بخيلاً ، قبيح السيرة ، ليس في قلبه رحمة للرعية ، وكانت الفرنج تغير ، وتسبي... ولا يخرج إليهم ، خلفه ابنه ألب أرسلان المعروف بالأخرس، فنكب الإسماعلية، وقتل زعيمهم ابا طاهر الصائع، وبقية زعماء تلك الطائفة.
ج ـ حملة مودود الثالثة ضد الرُّها:
ومع أن مودوداً وجد نفسه وحيداً في حركة الجهاد؛ إلا أنه قام في شهر ذي القعدة 505هـ/شهر أيار 1112م، بمجابهة الرُّها فجأةً ، وحاصرها ، لكن المدينة صمدت في وجه الحصار ، فرأى عندئذ أن يترك حولها قوةً عسكريةً، ويهاجم «سروج» في شهر محرم عام 506/شهر تموز عام 1112م بوصفها المعقل الثاني للصليبيين شرقي الفرات. وبهذه الخطة العسكرية يكون مودود قد قسَّم قواته ، وأضعفها متخلياً عن حذره في مواجهة الصليبيين ، وكانت النتيجة أن لحق به جوسلين صاحب «تل باشر» وهزمه ، وقتل عدداً كبيراً من رجاله ، فلم يسعه عند ذلك إلا التراجع نحو الرُّها؛ لكن جوسلين سبقه إليها لمساعدة بلدوين دي بورج في الدفاع عنها ، وفي الوقت الذي كانت تدور فيه هذه الأحداث ، تامر الأرمن في الرُّها ضد بلدوين ، واتصلوا بمودود؛ ليخلِّصهم من حكم الصليبيين ، وجرى الاتفاق على أن يساعدوه في الاستيلاء على قلعة تسيطر على القطاع الشرقي من المدينة، مما يمكِّنه بعد ذلك من الاستيلاء على بقية المدينة بسهولة؛ لكن وصول جوسلين السريع حال دون تنفيذ الاتفاق ، ورُدَّ المسلمون على أعقابهم ، فلم يتمكنوا من انتزاع المدينة من أيدي الصليبيين.
د ـ حملة مودود ضدَّ إمارة بيت المقدس: معركة الصنبرة:
ظلَّ مودود متمسكاً بفكرة جهاد الصليبيين ، وهي المهمة التي عهد إليه بها السلطان محمد السلجوقي ، بوصفه ممثله في إقليم الجزيرة ، وبلاد الشام ، فتحرَّك في مطلع عام 507هـ/شهر حزيران عام 1113م على رأس تحالف إسلامي لقتال الصليبيين في بيت المقدس بناءً على استنجاد طغتكين أتابك دمشق به بعد أن تعرَّضت إمارته لهجمات شديدة من صليبيي بيت المقدس؛ الذين نفذوا من وادي التيم إلى البقاع ، ووصلوا إلى بعلبك. انضم: تميرك صاحب سنجار ، وأياز بن إيلغازي أمير ماردين إلى هذا التحالف ، وكان هدف المسلمين منطقة فلسطين. فنجحوا في استدراج الملك بلدوين إلى أراضي دمشق حتى جسر الصنبرة ، الواقع في المجرى الأعلى لنهر الأردن ، وفي الثالث عشر من شهر محرم حدث اللقاء الذي انتهى بانتصار المسلمين ، ونزلت بالصليبيين هزيمةٌ ساحقةٌ ، فارتدَّ ملك بيت المقدس إلى طبرية ، ولم يلبث أن وصل لنجدته «روجر» أمير أنطاكية ، و«بونز» أمير طرابلس ، في حين لم يستطع أمير الرُّها الحضور؛ لأن إمارته كانت بحاجة إلى حماية دائمة، ومضى المسلمون في زحفهم بعد المعركة؛ حتى بلغوا طبرية؛ غير أنهم لم يغامروا بمواجهة التحالف الصليبي ، وبخاصةٍ: أنه دخل فصل الشتاء ، فقرَّروا الإنسحاب إلى دمشق. وكان ذلك أول مرة تتعاون الموصل ، ودمشق في حرب الصليبيين في مملكة بيت المقدس ، وتكمن أهمية الأتابك مودود في أنه أعاد للمسلمين الثقة بأنفسهم ، فتحوَّلوا من الدفاع إلى الهجوم في علاقاتهم مع الصليبيين ، وبلور فكرة الاتحاد بين المسلمين ، وأعطاها بُعداً سياسياً ، وعسكرياً، فاضحى أمراؤهم على استعداد للتعاون المثمر بنوايا صادقة.
هـ مقتل مودود:
سيَّر مودود، وحليفه رسولاً إلى السُّلطان السلجوقي في أصفهان يبشرانه بما تمَّ على أيديهما من فتح ، وبعثوا مع الرسول ما غنموه ، وعدداً من أسرى الفرنج ، ورؤوسهم إلا أن بُعد المسلمين عن بلادهم ، وانقطاع الإمداد ، والتموين عنهم ، واشتداد البرد عليهم؛ اضطرهم إلى وقف عملياتهم في المنطقة ، والعودة إلى دمشق في الحادي والعشرين من ربيع الأول على أمل الرُّجوع ثانية لقتال الصليبيين عند حلول الربيع ، وبعد أن يتلقَّى مودود جواب السلطان على رسالته ، والتعليمات التي سيصدرها لهذا الصددودخل جامع دمشق يوم الجمعة في ربيع الأول؛ ليصلِّي فيه، وطغتكين، فلما فرغوا من الصلاة ، وخرج إلى صحن الجامع ويده في يد طغتكين ، وثب عليه باطنيٌّ ، فضربه ، فجرحه أربع جراحات ، وقتل الباطني ، وأخذ رأسه ، فلم يعرفه أحد ، فأحرق ، وكان مودود صائماً ، فحمل إلى دار طغتكين ، واجتهد به ليفطر ، فلم يفعل ، وقال: لا لقيت الله إلا صائماً ، فمات من يومه ، رحمه الله! وتأثر المسلمون لمصرع بطل من كبار أبطال الجهاد ، واشتهر بإخلاصه ، وتفانيه ، وجرأته ، وحزنوا حزناً عميقاً لاختفائه السريع بعد الانتصار العظيم الذي حققه مع حليفه في قلب البلاد الصليبية ، وقد عبرت جماهير دمشق عن حزنها ، وغضبها ، حيث شهدت المدينة اضطراباً لم تشهد له مثيلاً منذ فترات بعيدة ، ولم يهدئ من روع الناس سوى أملهم بنجاة القائد من الجراح التي أثخنته؛ لكنهم ما أن سمعوا نبأ استشهاده بعد ساعات قلائل ، حتى عادوا ـ ثانية ـ إلى ما كانوا عليه.
وكتب ملك الفرنج في بيت المقدس كتاباً إلى طغتكين جاء فيه: إن أمَّةً قتلت عميدها يوم عيدها في بيت معبودها لحقيق على الله أن يبيدها!! غير أنَّ ملك الفرنج ، وغيره من أمراء الصليبيين تجاهلوا ، أو تعمدوا التجاهل آنذاك: أنَّ ما هو أكثر عوناً لهم ، وأشَّد خطراً على كلِّ محاولة إسلامية لقتالهم ليست هي الأمة التي ظنوا أنها قتلت عميدها في بيت معبودها. فقد عرفنا موقف هذه الأمة من مقتل بطلها المجاهد ، إنما هي تلك الفرقة الباطنية الرافضية الحاقدة ـ التي قامت على مذهب جديد ، شديد الميل إلى التدمير ، كان قد أنشأه في بلاد فارس شخصٌ يدعى الحسن بن الصباح ، وقد تحدَّثنا عنه ، وقد دعمته الدولة الفاطمية الرافضية الباطنية ، ولم تكن كراهية الحشاشين هؤلاء للمسيحيين تزيد على بغضهم للمسلمين السنِّيين، وما نشاهده اليوم خير دليلٍ على ذلك.
و ـ ما ترتب على حملات بطل الإسلام مودود من نتائج:
وعلى الرغم من الإخفاق الذي حلَّ بحملات بطل الإسلام مودود؛ إلا أنها تمخَّضت عن عددٍ من النتائج المهمَّة في مسار تاريخ حركة الجهاد الإسلامي ضدَّ الصليبيين ، ويمكن إجمالها في الاتي:
ـ إن إمارة مودود ـ على قصر مدتها ـ تعدُّ نقطة تحول في تاريه الصراع الإسلامي ـ الصليبي خلال تلك المرحلة المبكرة ، فقد صارت فكرة الجهاد حقيقةً واقعةً ، ووجدت فارسها المخلص الذي حمل لواءها ما يقرب من نصف المدَّة التي تولى فيها أمر إمارة الموصل.
ـ يمكن اعتبار مودود مقدِّمةً لحملات عماد الدين زنكي مع عدم إغفال الفارق الزمني في صورة الثلاثة عقود الفاصلة بين إنجاز كلِّ منهما والتي أدت إلى سقوط إمارة الرُّها الصليبية عام 1144م/539هـ حيث إن مودود وجه حملاته الأولى إلى الرُّها ، وتل باشر ، وعمل على إرهاق أهلها على نحوٍ نَصِفُه بأنَّه المقدمة الأولى لجهود زنكي ضدَّها ، على اعتبار: أنَّ قافلة الجهاد متصلةٌ قائداً من بعد قائد.
ـ كشفت حملات مودود عن الضعف الذي كانت عليه القوى الإسلامية في بلاد الشام ، والجزيرة ، وعدم إخلاص بعضها لقضية الجهاد ضدَّ الغزاة الصليبيين.
وعلى الرغم من الدور الرائد الذي قام به مودود؛ إلا أننا نجد البعض يرى: أنَّ عماد الدين زنكي هو الذ ي وضع أساس حركة الجهاد ضدَّ الصليبيين ، وفي هذا إجحاف بدور تلك القيادة السَّلجوقية! وواقع الأمر: أنَّ المؤرخين الذين أرَّخوا لتلك المرحلة من تاريخ الصراع الإسلامي الصليبي انبهروا بحجم الإنجاز الكبير الذي قام به عماد الدين زنكي من حيث إسقاط أوَّل إمارة صليبية أقيمت في المنطقة ، فتصوَّروا: أنَّ المراحل السابقة عليه ليست ذات قيمة كبيرة؛ على الرغم من أنها كانت الممهدة الحقيقية لإنجاز عام 1144م/539هـ ولا نغفل أيضاً: أنَّ الدعاية السياسية الناجحة ، والفعالة التي قدمها المؤرخ العراقي الفذ ابن الأثير من خلال كتابه الباهر لمؤسس البيت الزنكي قد جعلت المؤرخين يتأثرون بها بصورة ، أو بأخرى على نحوٍ جعل سابقي عماد الدين زنكي في مثل ذلك الموقف؛ من حيث تقويم دورهم التاريخي ، ويكفي مودود فخراً: أنَّه نجح في ضرب الوجود الصليبي في الجليل ، وهي منطقة لم تصل إليها فعاليات المسلمين منذ قرابة عقدين من الزمان ، ويكفيه: أنه ألحق الهزيمة بمؤسس مملكة بيت المقدس الصليبي.
ونستطيع أن نصل إلى رؤية محدَّدةٍ من خلال: أنَّ قادة الجهاد الإسلامي كلٌّ يكمِّل الاخر ، ولا خصومة بينهم، وما قام به مودود أفاد ـ فيما بعد ـ القائد العظيم صلاح الدين الأيوبي ، ولذا فبالإمكان القول: اليوم الصنبرة ، وغداً حطين؛ وهذا ما أثبته السياق العام لتاريخ تلك المنطقة في القرن السادس الهجري ، الثاني عشر الميلادي. وعلى أية حال عند مقارنة جهد مودود بسابقيه في صورة كربوغا ، وجكرمش ، وجاولي سقاوة؛ سيتضح لنا أنها أدوار متدرجة ، ومتصارعة ، فكربوغا انحصر أمره في نجدة إنطاكية ، وجكرمش زاد الأمر من خلال تحالفه مع سقمان بن أرتق على نحوٍ أدَّى إلى الانتصار في معركة حرَّان 498هـ/1104م ، أما مودود؛ فإنَّ دوره أكثر تعاظماً على نحوٍ أدَّى إلى هزيمة الصليبيين في معركة الصنبرة عام 507هـ/1113م ، وهو أمرٌ يثبت لنا: أنه خلال نحو تسعة أعوام فقط تمَّ الحاق هزيمتين كبيرتين بالصليبيين؛ غير أنَّ العقبة القائمة تمثلت في عدم الإفادة من كلٍّ من الانتصارين في اجتياح مناطق الأعداء ، وتحقيق انتصار سريع خاطف ، يصعب على الصليبيين تعويض خسائرهم من جرَّائه؛ غير أن بقايا ظاهرة التشرذم السياسي ، والتباغض بين القيادات الإسلامية كان عائقاً دون تحقيق ذلك.
يمكنكم تحميل كتاب صلاح الدين الأيوبي وجهوده في القضاء على الدولة الفاطمية وتحرير بيت المقدس
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي:
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/66.pdf