الجمعة

1446-11-04

|

2025-5-2

دور الفقهاء في تعيين عماد الدين زنكي على الموصل

الحلقة: 12

بقلم: د. علي محمد الصلابي

محرم 1444 ه/ أغسطس 2022م

عندما توفي أمير الموصل عز الدين البرسقي عام 521 هـ 1127 م تولى أمرها أخ صغير له تحت وصاية مملوك تركي يدعى جاولي، أدركَ الفقهاء أن ضعف الموصل لا بد وأن يؤثر على حلب وبلاد الشام في هذه المرحلة الحاسمة في تاريخ الصراع؛ إذ إن ذلكَ الفراغ السياسي، وعدم وجود قيادة عسكرية قوية في الموصل لا بد وأن يلقي انعكاساً على الصراع الصليبي الإسلامي ،(1) ولذلكَ قامت عائلة الشهرزوري المعروفة بالعلم والصلاح بدور كبير في تنصيب عماد الدين زنكي في الموصل لكونه قائداً عسكرياً قوياً.

وقام جاولي بإرسال القاضي بهاء الدين بن القاسم الشهرزوري، ونائب عز الدين البرسقي صلاح الدين محمد الياغيسياني إلى بغداد، التي كان بها السلطان محمود السلجوقي، وتركا الولاية في الموصل لأخ عز الدين الصغير حتى يظل يسيطر باسمه على الحكم فيها بصفة الوصاية عليه، إلا أن القاضي ورفيقه أدركا ذلكَ الهدف وأنهما ليس في نيتهما تحقيق هدف جاولي، لاعتقادهما بعدم كفاءته لذلكَ في الظرف الصعب؛ حيث كانا على معرفة بطباعه، و تصرفاته التي لا يرضيان عنها، ويبدو في الوقت نفسهِ: أنهما كانا على علاقة متينة بعماد الدين زنكي؛ حيث خططا معاً ليتمكنا من إقناع ذلكَ السلطان لتولية الموصل وحلب، حرصاً منهما على عدم ضياع البلاد الإسلامية ـ وخاصةً الموصل ـ في أيدي الصليبيين (2)، وبوصول القاضي ورفيقه إلى بغداد اتصل صلاح الدين محمد بأحد أقربائه في بغداد نصر الدين جقروا حيث كان بينهما مصاهرة ،(3) واجتمعوا به، وقرروا أن جاولي لا يصلح لحفظ البلاد لأنه كان سيأى السيرة،(4) وأخذ القاضي الشهرزوري على عاتقه حمل الأمانة، وقول الحق، فاجتمع هو وصلاح الدين الياغيسياني بوزير السلطان السلجوقي ،(5) وقالا له: قد علمت أنت والسلطان السلجوقي أن ديار الجزيرة والشام قد تمكن الفرنج منها، وقويت شوكتهم بها، واستولوا على أكثرها، وقد أصبحت ولايتهم من حدود ماردين إلى عريش مصر ما عدا البلاد الباقية بيد المسلمين.(6)

ويتضح من خلال حديث القاضي بهاء الدين الشهرزوري مبلغ تخوفه من سيطرة الصليبيين على أراضي الإسلام، وخشيته من اتساع الرتق باستيلائهم على المزيد منها، وحاجة البلاد إلى الرجل المناسب لوقف التوسع الصليبي، والتصدي له. فاستطرد قائلاً: «ولا بد للبلاد من رجل شهم شجاع ذي رأي، وتجربة يذب عنها ويحمي حوزتها»(7) ومن عمق إحساسه بالمسؤولية أمام الله والعباد نراه يقول: «وقد أنهينا الحال إليك لئلا يجري خلل، أو وهن على الإسلام والمسلمين، فنحصل نحن بالإثم من الله واللوم من السلطان».(8 وهذا يعطينا درساً مهماً في دور الفقيه الذي وضع مصلحة الأمة فوق كل اعتبار، ولم يتأثر بترغيب، ولا ترهيب من حاكم الموصل الذي أرسله للسلطان السلجوقي، كما أن في اختيار كمال الدين الشهرزوري لعماد الدين زنكي تزكية له من بين بقية الأمراء في ذلكَ العهد. وقام وزير السلطان شرف الدين أنوشروان بن خالد بتوصيل مطلبهما، وحال بلاد الشام إلى السلطان محمود. وبواسطة ذلكَ الوزير اقتنع السلطان برأيهما وحالهما. وتحقق هدفهما عندما استشارهما فيمن يفضلون لولاية الموصل، ويبدو: أنَّ القاضي الشهرزوري، ورفيقه أشارا عليه بمجموعة من القادة المسلمين من بينهم عماد الدين زنكي حتى لا يشك في أمرهما، وإصرارهما عليه، إلا أنه اختار عماد الدين بإيعاز من وزيره أنوشروان، وعينه والياً على الموصل،(9) وهنا يظهر دور العالم القاضي بهاء الدين بن القاسم الشهرزوري في اختيار القائد الأفضل لقيادة القوى الإسلامية نحو مواجهة الغزو الصليبي، حتى كانَ لهذا الاختيار أثره في إرساء حجر الجهاد في المشرق الإسلامي؛ حيث تمكن خلاله من غرس نواة الوحدة مع حلب عندما أخذها، ورحب به أهلها عام 521 هـ/1127 م، لأن موقع حلب الاستراتيجي بين بلاد الشام، ومناطق أعالي الفرات هو الذي جعلها في قلب الأحداث آنذاك؛ حتى إن ذلكَ الأمير ـ عماد الدين ـ قد أدركَ أهمية ذلكَ الموقع بالنسبة لبلاد الشام، والموصل، والجزيرة الفراتية، وتمنى لو أخذها المسلمون قبل أن يدخلها الصليبيون: (10)

إن هذا العدو قد طمعَ في البلاد، وإن أخذ حلب؛ لم يبق بالشام إسلام، فالمسلمون أولى من الكفار بها.(11)

1 ـ مكانة القاضي بهاء الدين الشهرزوري عند عماد الدين: واعترافاً من عماد الدين زنكي بما بذله القاضي بهاء الدين الشهرزوري في تعيينه، ورداً لجميله نحوه عينه قاضي قضاة بلاده جميعها، وما يفتحه من البلاد، وكذلكَ زادهُ أملاكاً، وإقطاعاً، واحتراماً، وكان يثقُ به وبارئهِ، لذلكَ كانت منزلتهُ عظيمةً عنده، وكان عماد الدين يستشيره في معظم الأمور الهامة في دولته؛ حتى صرح ابن الأثير بذلكَ قائلاً: «وكان لا يصدر إلا عن رأيه».(12) إن احترام العلماء، وتقدير ارائهم، واستشارتهم، من عوامل وأسباب نجاح القادة السياسيين، والعسكريين.

2 ـ أتابكيَّة الموصل: مال السلطان السلجوقي إلى تولية عماد الدين زنكي إمارة الموصل لما علم من شهامته، وتمكنهِ من إنجاز المهام التي أنيطت به من قبل، وأمره بالحضور، وبعد مناقشات قصيرة اقتنعَ السلطان بجدارة زنكي في القيام بأعباء المنصب الجديد، ومن ثم أصدر منشوراً بتوليتهِ الموصل، والجزيرة وما يفتتحهُ من بلاد الشام، وسلَّمهُ ولديه: ألب أرسلان، والخفاجي ليكون أتابكاً لهما (أي: أباً مربياً) وفقاً للتقاليد السلجوقية السائدة آنذاك، ومنذُ ذلكَ الوقت سمي زنكي أتابكاً، وأصبح كلٌّ من ولدي السلطان محمود تحت إشرافه المباشر. وفي الثالث من رمضان عام 521 هـ وصل بغداد الأمير مجاهد الدين بهروز قادماً من بلاد فارس، ليتولى شحنكية العراق، فغادر زنكي ورجاله عاصمة العراق نحو الموصل لتسلم مهام منصبهِ الجديد ،(13) وتعتبر أتابكيَّة الموصل نواةً للدولة الزنكية.(14)

مراجع الحلقة الثانية عشر:

( ) موقف فقهاء الشام وقضاتها من الغزو الصليبي ص 84.

(2) الكامل في التاريخ نقلاً عن موقف فقهاء الشام وقضاتها ص 84.

(3) المصدر نفسه ص 84.

(4) دور الفقهاء والعلماء المسلمين في الشرق الأدنى ص 106.

(5) المصدر نفسه ص 106.

(6) الكامل في التاريخ نقلاً عن دور الفقهاء والعلماء المسلمين في الشرق الأدنى ص 107.

(7) الكامل في التاريخ نقلاً عن دور الفقهاء ص 107.

(8 الكامل في التاريخ (8/659).

(9) المصدر نفسه (8/659).

(0 ) الكامل في التاريخ نقلاً عن موقف فقهاء الشام ص 86.

(1 ) المصدر نفسه ص 86.

(2 ) الكامل في التاريخ نقلاً عن دور الفقهاء والعلماء ص 108.

(3 ) المنتظم (10/5) عماد الدين زنكي ص 45.

(4 ) الحياة العلمية في العهد الزنكي ص 27.

يمكنكم تحميل كتاب عصر الدولة الزنكية ونجاح المشروع الإسلامي بقيادة نور الدين الشهيد في مقاومة التغلغل الباطني والغزو الصليبي

من الموقع الرسمي للدكتور علي الصَّلابي

alsallabi.com/uploads/file/doc/106969.pdf


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022