شجاعة عماد الدين زنكي (رحمه الله)
الحلقة: 13
اقتباس من كتاب عصر الدولة الزنكية ونجاح المشروع الإسلامي بقيادة نور الدين الشهيد في مقاومة التغلغل الباطني والغزو الصليبي
بقلم: د.علي محمد الصلابي
محرم 1444 ه/ أغسطس 2022م
ورث عماد الدين الشجاعة عن أبيه الذي تقدم في جيش ملكشاه، وقد مرَّ معنا شيءٌ من سيرته وقوله لتتش المنتصر وهو الأسير بين يديه: لو ظفرت بك لقتلتك، ويلقى نتيجة جرأته، فيقتله تتش صبراً،(1) وقد تقدم عماد الدين عند أمراء الموصل بشجاعته، وظهرت شجاعته في القتال في زمن مبكر، فقد سار مع مودود في غزوته ضدَّ الإفرنج، وخرج إفرنج طبرية للدفاع عنها، فحمل عليهم، وانهزم الإفرنج من أمامه، وطعن بباب سور طبرية طعنة أثرت فيهِ وكان أصحابهُ قد تأخروا عنه، لما قرب من الأسوار ومع ذلكَ قاتل متراجعاً، فعجب الناسُ من شجاعتهِ ونجاته.(2)
وقال أبو شامة في شجاعته: «وأما شجاعتهُ وإقدامهُ فإليهِ النِّهايةُ فيهما، وبه كانت تضرب الأمثال، ويكفي في معرفة ذلكَ جملةً: أن ولايته أحدق بها الأعداء والمنازعون من كل جانب: الخليفة المسترشد، والسلطان مسعود، وأصحاب أرمينية وأعمالها، وبيت سُكمان، وركن الدولة داود صاحب صحن كيفا، وابن عمه صاحب ماردين، ثم الفرنج، ثم صاحب دمشق، و كان ينتصف منهم، ويغزو كُلاًّ منهم في عقر دارهِ، ويفتح بلادهم، ما عدا السلطان مسعود فإنه كان لا يباشر قصده، بل كان يحمل أصحاب الأطراف على الخروج عليه، فإذا فعلوا عاد السلطان محتاجاً إليه، وطلب منه أن يجمعهم على طاعته، فيصير كالحاكم على الجميع، وكلٌّ يداريه، ويخضع له، ويطلب منهُ ما تستقر القواعد على يديه» (3)وحمل على قلعة عقر الحميدية في جبال الموصل، وأهلها أكراد، وهي على جبال عالية، فوصلت طعنتهُ إلى سورها، وفي حصار الرُّها، جمع أمراءهُ عنده، ومد السماط، وقال: لا يأكلْ معي على مائدتي هذه إلا من يطعن معي غداً في باب الرُّها، فلم يتقدم إليهِ غير أمير واحد، وصبي واحد لا يعرفه، لما يعرفون من إقدامه وشجاعته وأن أحداً لا يقدرُ على مساواته في الحرب. فقال الأمير لذلكَ الصبي: ما أنت وهذا المقام، فقال عماد الدين: دعه، فإني أرى واللهِ وجهاً لا يتخلف عني ،(4) وكان يقدر الشجعان، وكان لا يضطرب أمام أي خطر.(5)
كان عماد الدين ذا هيبةٍ شديدة في نفوس أصحابهِ، لا يجرؤون على الجلوس بين يديه، واشترك معه في الحروب أجناس مختلفة، ويحتاج ضبطها لكثير من الدراية والمهارة والهيئة، فاستطاع بشخصيتهِ القوية فرض النظام على جميع جندهِ، وكان ذا هيبة وسطوة، وكان إذا مشى يسير العسكر خلفه في صفين، كأنهم الخيط خوفاً أن يدوس أحدهم الزرع، ولا يجسر أحد أن يدوس عرقاً منه، ولا يمشي فرسه فيه، ولا يجسر أن يأخذ من فلاح تبناً إلا بثمنه، أو بخطٍّ من الديوان إلى رئيس القرية، وإن تعدَّى أحدٌ؛ صلبه (6)وهيبتهُ كانت في نفوس قادته، قال علي كوجك نائبه بالموصل: «لما فتحنا الرُّها مع الشهيد، وقع بيدي من النهب جارية رائعة أعجبني حسنها، ومال قلبي إليها، فلم يكن بأسرع من أن أمر الشهيد بردِّ السبي، والمال المنهوب، وكان مهيباً مخيفاً فرددتها وقلبي معلق بها».(7) وخرج يوماً من باب السر في قلعة الجزيرة خطوة، وملاَّح له نائم، فأيقظهُ بعض الجنادرية من مماليك السلطان، فحين رأى الشهيد سقط على الأرض، فحركه فوجده ميتاً.(
وركب يوماً فعثرت دابتهُ، وكاد يسقط عنها، فاستدعى أميراً وكان معه، فقال لهُ كلاماً لم يفهمه، ولم يتجاسر على أن يستفهمه منه، فعاد إلى بيته، وودع أهله عازماً على الهرب، فقالت لهُ زوجته: ما ذنبكَ، وما حملك على الهرب؟ فذكر لها الحال، فقالت له: إنَّ نصير الدين له بك عناية، فاذكر له قصتكَ، وافعل ما يأمركَ به. فقال: أخاف أن يمنعني من الهرب، وأهلك. فلم تزل بهِ زوجته تراجعهُ، وتقوي عزمه إلى أن عرف نصير الدين حاله، فضحكَ منهُ، وقال له: خذ هذه الصرة ـ الدنانير ـ واحملها إليه، فهي التي أراد. فقال: اللهُ اللهُ في دمي ونفسي، فقال: لا بأس عليك، فإنه ما أراد غير هذه الصرة، فحملها إليهِ فحين راه قال: أمعكَ شيء؟ قال: نعم، فأمرهُ أن يتصدقَ به، فلما فرغ من الصدقة قصد نصير الدين، وشكره، وقال: من أين علمتَ: أنه أراد الصُّرَّة؟ فقال: إنه يتصدق بمثل هذا القدر كل يوم، يرسل إليَّ يأخذه من الليل، وفي يومنا هذا لم يأخذه، ثم بلغني: أنَّ دابته عثرت بهِ؛ حتى كاد يسقط إلى الأرض، فأرسلكَ إليَّ، فعلمتُ: أنهُ ذكر الصدقة.(9)
واجتمعَ حوله العرب، والترك، والتركمان، والأكرادُ، والبدو، وكان يجتهد أن تضبط أمور هذه الجموع بحكمة القائد الماهر، ويضبطهم في أحرج الأوقات، فعندما اقتحم جندهُ الرُّها، وكادوا يأتون على ما فيها، كف أيديهم، وحافظ على البلد؛ لأن تخريب مثله لا يجوز في السياسة كما قال.(10) وخاف خصومه قصد ولايته لعلمهم: أنهم لا ينالون منها عرضاً.(11)
وبلغَ من خوف الفرنجة منه: أنه رفع الحصار عن قلعة البيرة لقتل نائبه في الموصل، فسلَّمها أهلها إلى حسام الدين تمرتاش خوفاً من عودة الشهيد إليهم، (12)وكان يخشاه سلاطين السلاجقة، ولا يقدرون على قصد بلاده، فيقول ابن الأثير: «أرادَ السلطان مسعود زنكي إثارة الأطراف عليه، ومنع السلطان مسعود قصده، لحصانة بلاده، وكثرة عساكره وأمواله»(13) والخليفة المسترشد نفسه حاصر الموصل فلم ينل منها شيئاً مدة ثلاثة شهور.(14)
مراجع الحلقة الثالثة عشر:
( ) مفرج الكروب (1/26).
(2) أخبار الروضتين نقلاً عن الحروب الصليبية والأسرة الزنكية ص 160.
(3) كتاب الروضتين (1/160).
(4) مفرج الكروب (1/93).
(5) الحروب الصليبية والأسرة الزنكية ص 159.
(6) تاريخ حلب 283، الحروب الصليبية ص 159.
(7) الحروب الصليبية والأسرة الزنكية نقلاً عن تاريخ حلب ص 159.
( مفرج الكروب (1/105).
(9) مفرج الكروب (1/105).
(0 ) الحروب الصليبية والأسرة والزنكية ص 159.
(1 ) الباهر ص 25.
(2 ) كتاب الروضتين نقلاً عن الحروب الصليبية والأسرة الزنكية ص 160.
(3 ) الباهر والكامل في التاريخ نقلاً عن الحروب الصليبية ص 160.
(4 ) مفرج الكروب نقلاً عن الحروب الصليبية ص 160.
يمكنكم تحميل كتاب عصر الدولة الزنكية ونجاح المشروع الإسلامي بقيادة نور الدين الشهيد في مقاومة التغلغل الباطني والغزو الصليبي
من الموقع الرسمي للدكتور علي الصَّلابي