الثلاثاء

1446-11-15

|

2025-5-13

(اهتمام الشيخ الإبراهيمي بليبيا)

من كتاب كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي(ج3):

الحلقة: 240

بقلم: د. علي محمد الصلابي

جمادى الآخرة ١٤٤٣ه/ يناير ٢٠٢٢م

تحدث الإبراهيمي عن ليبيا في أماكن متعددة من تراثه، منها هذا المقال، الذي تكلم فيه عن موقعها من الجزائر وشعبها فقال:

ليبيا ـ بأجزائها الطبيعية ـ قطعة ثمينة من وطن العروبة الأكبر، ومعقل حصين من معاقل الإسلام الباذخة مكتنفة الشمال والجنوب بجمالين من مياه البحر الأبيض ورمال الصحراء المغبرة، مسورة الشرق والغرب بجمالين من عظمة مصر ومجد تونس فهي رقعة من صنع الله مطرزة الحواشي بما يسحر الألباب، ويفتن النفوس، ويستهوي الأفئدة، ويذكر بالعزة، ويفتق القرائح عن روائع الوصف وبدائع التمثيل، وهي ـ لذلك كله ـ نازلة من نفس كل عربي في مستقر الغيرة والحفاظ، ومن نفس كل مسلم في منزلة الحب والكرامة، وننفرد نحن سكان الشمال الأفريقي بمعنى من معاني التقدير لهذه القطعة العزيزة من وطن العروبة والإسلام، وهو أنها كانت مجرَّ عوالي الفاتحين من أسلافنا، ومجرى سوابقهم إلى هذا الشمال، يحملون إليه التوحيد والحكمة والسلام، فعلى ثراها مرَّ عقبة والمهاجر وحسان، ومن بعدهم موسى وطارق، وإدريس وعبد الرحمن، وفي جنباتها تصاهلت جياد الكماة الصيد من مضر ويمن، وأنها كانت كذلك مجازاً للأبطال من بني هلال الذين غرسوا العروبة بهذا الشمال، وأنها كانت أخت الجزيرة، تلك أنبطت، وهذه أحْرَتْ، وتلك أنبتت، وهذه أرْوَتْ، وتلك قدحت، وهذه أورت، وأنها صارت ـ بعد ذلك ـ بابنا إلى الشرق، يوم كان أبرَّ ببنيه وأحنى عليهم من البحر، لا نلج حظائره القدسية إلا منه، حجاجاً، وتجاراً، ومستبضعي علم.

ـ الرَّحالة وقوافل الحجيج:

إن كل قارأئ مطلع في هذا الوطن الجزائري ليعرف عن ليبيا وقراها وجبالها وأوديتها ودُروبها مثل أو أكثر مما يعرف عن وطنه، لكثرة ما يقرأ عنها في كتب الرحالين المغاربة من أمثال: الفهري، والعبدري، وابن بطوطة، والتيجاني، والعيَّاشي، والورتلاني، وإن كل عامي راوية للشعر الملحون ليحفظ أسماء قراها ووديانها وجبالها، أكثر مما يحفظ من أمثالها في بلاده، لكثرة ما يسمعها في قصائد شعراء الملحون الواصفين لركاب الحج، المعَدّدين لمنازله، احتذاء للبوصيري في «عدة منازل»، ومن أمثال: محمد الشلالي، وابن السنوسي، وابن خلوف، وابن يوسف وغيرهم من الشعراء الشعبيين في المائة الثانية عشرة إلى الان.

وهؤلاء هم الذين انتهت إلينا أخبارهم وأشعارهم عن طريق الحفظ والرواية، وقد كانوا يُرحِّلون ركب الحج من مراكش إلى مكة، ويصفون الجادَّة التي يسلكها وصفاً شعرياً مشوقاً، أحسن مما يصفه الجغرافي المتقصِّي، وأدخل في النفس منه، حتى يخيل إلى السامع أن هذه الموصوفات منه بمرأى العين. وأذكر أنني في سن الصبا كنت سمعت أسماء زوارة، وطرابلس، والجبل، ومصراته، والخمس، وزليطن، وبنغازي ودرسة وأجدابية متناثرة في هذا الشعر، موصوفة، محددة المسافات التي تفصل بينها، قبل أن أقرأها في كتب الرحلات والجغرافيا، وقبل أن أسمعها من أفواه السفار، أو من أفواه أهلها.

علاقة الأخوّة:

ولإخواننا الليبيين ـ أو الطرابلسيين، كما نسميهم ـ علينا حق الدين، وحق اللغة، وحق الجنس، وحق الجوار، وحق الاشتراك في الالام والمحن، وفي الامال المقترحة على الزمن، وهذه كلها أرحام، يجب أن تبلّ ببلالها، وحقوق في ذمة المروءة والوفاء يجب أن تؤدى، وإن من حسن القضاء عند الكرام الأوفياء أن يكون في وقت الحاجة إليه، وإن هؤلاء الإخوان اليوم في طور امتحان عسير معقد، تتخلله الأهواء والمطامع، ويحيط به الكيد والتعنيت من كل جانب، وإن نجاحهم فيه يتوقف على جمع الكلمة، وتسوية الصف، وتوحيد الرأي، ومتانة الإيمان بالحق، والحذر الشديد من الأشراك المنصوبة، والعُصب الدخيلة، والنظر البعيد في العواقب المخبوءة والمكايد الخفية، والاحتفاظ بكلمة الفصل يقولها الواحد فترددها الملايين، وإنهم في حالة انتقال من حال إلى حال، كانوا يواجهون فيه ثلاثة أعداء متشاكسي المصالح، متبايني المطامع، متظاهرين بالتقوى والعدل والنصيحة الرشيدة للمستضعفين، ولكنهم متفقون على الاستغلال لا على الاستقلال، ومن ورائهم ذلك الثعلب القديم ـ وقد قصمت الحرب ظهره ـ جائعاً يتضوَّر، وقابعاً يتحفز، وحانقاً يتلظى، وراجياً يتعلق، وطامعاً يتملق، ينتصر بالمتات، وينتظر الفتات.

ـ جهاد الليبيين:

قاوم هؤلاء الإخوان الكرام الاستعمار الإيطالي، ووقفوا في وجهه وقفة المستميت، لم يثنهم التقتيل والتشريد، حتى إذا استيأسوا، وظنوا أن هذا الجبار العنيد ختم عليهم بالعبودية المؤبَّدة، جاءت الحرب الأخيرة، وعاد الرجاء، ونبض عرق البطولة، وهبَّ المغاوير من سلائل العرب، يثأرون لعمر المختار والشهداء الأبرار، حتى اشتفوا، وأوبقت إيطاليا جرائرها، فأبادها الله، وما كان إخواننا يدرون أنهم يعينون استعماراً على استعمار، أو أنهم سينتقلون من شِدق الأفعى إلى ناب الأفعوان، ولكنهم لم يهنوا ولم يفشلوا في طلب استقلالهم، فصمَّت الاذان عن سماع صوتهم حيناً، ثم تصادمت المطامع، فكان لأصوات الدول الضعيفة في مجلس الأمم مجال في الاذان الصماء ومنفذ إلى القلوب الغلف، فقضى ذلك المجلس باستقلال ليبيا طائعاً كمكره، ولكنه أرجأ الإنجاز إلى أول سنة 1952م.

كنا نعرف أن الاستقلال جنة لا يعبر إليها إلا على جسر من الضحايا، وكنا نعدّ إخواننا الليبيين أو الداخلين إلى هذه الجنة بغير حساب، لأنهم قدَّموا من الضحايا ما لم تقدمه أمة شرقية، ولأنهم جمعوا أسباب الفلاح الأربعة: الصبر والمصابرة والمرابطة والجهاد، ولكن شيطان الاستعمار أبى عليهم ذلك، ووضع في طريقهم برزخاً زمنياً أو جسراً ثانياً غير الضحايا والقرابين والأعمال الصالحة، وهو هذا الأجل المحدد سنة 1952م.

ويقول الاستعمار: إنه وضعه للإعداد والتشويق، ونقول نحن: إنه وضعه للإبعاد والتعويق، ومرحباً بالسنتين إذا كنا نقضيهما في الاستعداد والتأهل وإصلاح الفاسد من أخلاقنا ورجالنا وأعمالنا.

واهاً لهذا الوطن المتردِّد في لهوات الزمان، الذي جنى عليه موقعه من البحر الأبيض ومن الصحراء، فثبتت عليه أعين الطامعين، وازدحمت عليه أقدام الأقوياء، وحامت عليه حوائم الدرهم والدينار، تغرّ وتُغري وإنَّ لها في نفوس ضعفاء الإيمان وفاقدي الضمائر لموقعاً، ومن وراء الدرهم والدينار سماسرة تتخطف، وصَوالجة تتلقَّف، وأبالسة تأمر بالمنكر وتنهى عن المعروف، وتدفع الألقاب قيماً للمالك، ومن أبناء الوطن فريق من أعوان التفريق، وأعواد التحريق، وهذا أصل البلاء، وهنا منبت العلة وهنا ـ فقط فقط ـ جرثومة الطاعون، وهنا العدو الحقيقي فاحذروه.

وحناناً على إخواننا المجاهدين.. كتب عليهم أن يتجرَّعوا ثلاث مرارات في جيل واحد: مرارة الإهمال في العهد التركي، ومرارة الاستعباد في العهد الإيطالي، وهاهم أولاء يتجرَّعون مرارة التنكر من حلفاء دلوهم بغرور، وسجروا بهم التَّنُّور، ثم أخلفوا الوعد ونقضوا العهد.

من بعض حقكم علينا ـ أيها الإخوان ـ أن نسعدكم، ولو بقول معروف، من نصيحة خالصة، ودعاية نافعة، وتذكير منبه، وليسعد النطق إن لم يسعد الحال.

يمكنكم تحميل كتب كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي من موقع د.علي محمَّد الصَّلابي

الجزء الأول: تاريخ الجزائر إلى ما قبل الحرب العالمية الأولى

alsallabi.com/uploads/file/doc/kitab.PDF

الجزء الثاني: كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي وسيرة الزعيم عبد الحميد بن باديس

alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC135.pdf

الجزء الثالث: كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي من الحرب العالمية الثانية إلى الاستقلال وسيرة الإمام محمد البشير الإبراهيمي

alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC136(1).pdf

كما يمكنكم الإطلاع على كتب ومقالات الدكتور علي محمد الصلابي من خلال الموقع التالي:

http://alsallabi.com


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022