من كتاب إشراقات قرآنية بعنوان:
سورة العصر
الحلقة 144
بقلم: د. سلمان بن فهد العودة
شوال 1442 هــ / يونيو 2021
* {إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْر}:
الإنسان جنس، و«ال» للاستغراق، وقيل: المقصود: جماعة من المشركين، وقيل: أبو جهل، وقيل: أبو لهب.
والصواب أن المقصود جنس الإنسان؛ ولذلك قال تعالى بعدها: {إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا} فدل على أن المقصود الجنس، وليس شخصًا بعينه؛ فإن الشخص لا يُستثنى منه.
الغالب على الناس إذًا هو الخسار؛ ولهذا يقول تعالى: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِين} [يوسف: 103]، ويقول: {وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ } [الأنعام: 116].
وعبَّر بأن الإنسان في خُسر، ولم يقل: «إن الإنسان لخاسر». فحرف الجر «في» يدل على الظرفية، وكأن الخسر وعاء أو ظرف؛ والإنسان مغموس فيه.
أما قولك: «إن الإنسان لخاسر». لا يعدو أن يكون وصفًا مجردًا، والظرفية أدل على المقصود من جهة الإشارة إلى أن الخسارة محيطة بالإنسان من كل وجه؛ كما في قوله تعالى: {بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيـئَتُهُ} [البقرة: 81].
والتنكير في كلمة {خُسْر} يحتمل أن يكون إشارة إلى تنوع الخسارة، بمعنى أن الخاسرين درجات، وهذا واضح من السياق، فإن الله لم يستثن من الـخُسر {إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا}. فمَن نقص شيئًا من الإيمان، والعمل الصالح، والتواصي بالحق، والتواصي بالصبر؛ تكون خسارته جزئية، بخلاف مَن ترك هذه الصفات كلها، فإن خسارته تكون مُطبِقة.
فالتنكير دليل على تنوع الخسر ودرجاته، وأنه ليس بمنزلة واحدة، بل منه خسر تام مطبق، ومنه دون ذلك.
وبعضهم قال: إن التنكير للتهويل، ولتعظيم الخسر، وأن الإنسان خسر كل شيء، وليس كالذين خسروا بعض الشيء، مثل مَن نزلت مراتبهم في الجنة، فما فاتهم شيء عظيم بالقياس إلى ما أدركه السابقون، وإن كانوا بالقياس إلى مَن دونهم على خير كثير.
والتعبير بالخسارة صيغة قرآنية دارجة، يعبِّر الله بها عن أهل النار، مثل قوله: {أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ} [هود: 21].
وعند ما نقول: خسر التاجر. معناه: أنه ضاع عليه رأس المال، أو جزء من رأس المال، ورأس المال بالنسبة للمكلَّف هو الوقت، هو العصر، هو العمر؛ ولذا قال بعض السلف: «تعلَّمتُ معنى هذه الآية من بائع الثلج، كان يصيحُ ويقولُ: ارحموا مَن يذوبُ رأسُ ماله!».
والوقتُ أَنفَسُ ما عُنِيتَ بحفظِه * وأَراهُ أسهلَ ما عليكَ يَضِيعُ
والأخسرون أعظم خُسرًا، كما في قوله: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الأَخْسَرُون} [النمل: 5]، وكيف يكونون أكثر خسارة؟
يكون ذلك باستئصال رأس المال كله، والوقت الذي يضيع بغير خير خسارة؛ لأنه كان ممكنًا أن يُملأ بطاعة، والوقت الذي يضيع عليك بمعصية أكثر خسارة؛ لأنه محسوب، وكان جديرًا أن يُعمر بطاعة أو بمباح لا إثم فيه، فهو خسارة مركَّبة مضاعفة.
سلسلة كتب:
إشراقات قرآنية (4 أجزاء)
للدكتور سلمان العودة
متوفرة الآن على موقع الدكتور علي محمَّد الصَّلابي: