الإثنين

1446-12-20

|

2025-6-16

من كتاب إشراقات قرآنية بعنوان: 

سورة التكاثر

الحلقة 142

بقلم: د. سلمان بن فهد العودة

شوال 1442 هــ/مايو 2021
 
* {كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِين}:
لم يذكر جواب: {لَوْ تَعْلَمُونَ}، فإن {لَوْ} أداة شرط، وفي العادة أنه يُذكر جوابُها، كما يقال: لو جاء صالح لأوسعنا له في المجلس، لو شرب الإنسان هذا الماء لرَوِيَ، لو حضر الدرس فلان لأفاد. فـ{لَوْ} لا بد لها من جواب.
والمستقر في أذهاننا أن قوله: {لَتَرَوُنَّ الْجَحِيم} هو الجواب؛ لأن فيها اللام؛ والعادة أن جواب {لَوْ} يكون مصحوبًا باللام، ولو تأملت لوجدت أن التركيب لا يستقيم على هذا المفهوم، وإنما الصواب أن قول الله تعالى:
{لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِين} شرط ليس له جواب، وهو مثل قول الله تعالى: {لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لاَ يَكُفُّونَ عَن وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلاَ عَن ظُهُورِهِمْ} [الأنبياء: 39]، فإنه ليس لها جواب؛ لأن الجواب مفهوم من سياق الشرط.
فالجواب مستبطن في الشرط نفسه، وهو مفهوم ظاهر؛ فإنه لما ألهاكم التكاثر، حتى زرتم المقابر بالطريقة المذمومة، ولما قصَّرتم في الواجبات، ولما ارتكبتم المحرمات، وعصيتم الله تعالى، فسوف تعلمون العاقبة.
وهذا من عظمة ترك الجواب، ولذلك نلاحظ أن في السورة محذوفات كثيرة من أجل لفت الأنظار وتحريك الفكر، وهذا من أقوى صور الإيجاز والبلاغة والتأثير، ومَنْ عنده معرفة باللغة العربية، وحِسٌّ بلاغي، يجد من ذلك أشياء كثيرة تأخذ بلُبِّه وتهزه هزًّا!
وعلم اليقين إشارة إلى أن عندهم معلومات كثيرة مما يظنونه علمًا وليس بعلم، وهذه مشكلة، فهناك ألوان من العلوم مضلة، وقد تَـحْجِب عن الله تعالى، أو تكون غير مطابقة للواقع، أو تكون مما يختلط فيها الحق بالباطل، أو تكون علومًا ظاهرية، كما قال تعالى: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الروم: 7].
حتى من العلوم الشرعية؛ فقد ينشغل الإنسان وينهَمُك في علم المسائل والأحكام والأقوال والمذاهب والترجيح، ويكون العلم في لسانه لم يصل إلى قلبه، والمقصود بالعلم: علم اليقين الذي يلامس القلب؛ فيتحول إلى حقيقة عملية في حياة الإنسان.
والعلم الحقيقي اليقيني يُطلق على ثلاثة أشياء:
1- المحسوس، فأنت ترى أمامك الإناء، وهو محسوس يقينًا، ولا يجادل في هذا إلا أهل الأوهام، ومن اليقين طلوع الشمس وغروبها، والأشياء التي يراها الإنسان بعينه أو يحسها بحواسه.
2- المعقول من مصادر العلم اليقيني، وبعض الناس عنده وحشة من العقل، وكأنه استقر في أذهان البعض أن العقل نقيض للشرع، وهذا خطأ؛ فالله تعالى أحالنا على العقول في القرآن الكريم كثيرًا، فقال: {لِّقَوْمٍ يَعْقِلُون}، {لَّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُون}، {أَفَلاَ تَعْقِلُون}.. بل حتى في أمر الدين والوحي والرسالة، قال:
{قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا } [سبأ: 46]. ولا يحيلنا اللهُ على شيء يحتَمِل الحقَّ والباطلَ والخطأَ والصوابَ.
إن الوهم في العقول يأتي مما يظنه الناس معقولًا وليس بمعقول، مما يكون تلبيسًا أو تدليسًا أو وهمًا أو تضليلًا، وقد يتكلم الناس عنه ويظنونه من المعقولات، ويقول بعضهم: هذا يُدرك بالعقل، وهذا شيء معقول، وهذا مستحيل عقلًا، مع أنه في واقع الأمر ليس كذلك؛ لأنه جعل تصوره الشخصي للأشياء هو معيار العقل.
3- النقل المصدَّق، أو الوحي من القرآن وصحيح السنة المتواتر أو المستفيض.
 * {لَتَرَوُنَّ الْجَحِيم}:
هذا خبر جديد، فقوله: {لَتَرَوُنَّ الْجَحِيم} جملة مستأنفة، وهذه صيغة قَسَم على الأغلب، فاللام لام القسم، وهي مؤكّدة، ومثلها النون في آخر الفعل.
 * {ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِين}:
أقسم تعالى للمخاطبين بأنهم سوف يرون الجحيم، ثم يرونها عين اليقين، والفرق بين «عين اليقين» و«علم اليقين» هو أن «علم اليقين» علم في القلب والصدر، أما «عين اليقين» فشيء محسوس مشاهد؛ ولهذا قال: {لَتَرَوُنَّهَا}.
وفي السورة وجوه من الإنذار:
1- حرف الردع {كَلاَّ}، وقد تكرر في السورة ثلاث مرات، وغالبًا أن أقصى ما ينتهي إليه التهديد هو أن يكون ثلاث مرات، وقد أنذر الله تعالى في هذه السورة ثلاث مرات.
2- كلمة: {ثُمَّ} للدلالة على أن الإنذار الثاني، أبلغ وأقوى من الإنذار الأول.
3- حذف جواب: {لَوْ تَعْلَمُونَ} وهو يفيد الإثارة والتخويف.
4- لام القسم في قوله: {لَتَرَوُنَّ الْجَحِيم}.
5- نون التوكيد في قوله: {لَتَرَوُنَّ الْجَحِيم}.
6- تكرار القسم مرة أخرى في قوله: {ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِين}.
7- التحذير بقوله: {عَيْنَ الْيَقِين} إشارة إلى أن ما تخبرون عنه الآن خبرًا سوف ترونه رؤية، وسيصبح عين اليقين بعد أن كان علم اليقين.
 * {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيم}:
والنَّعيم هو ما ينعم به الإنسان من خارج جسده، كما يقول بعض المفسِّرين؛ فالصحة– مثلًا- لا تسمَّى نَعِيمًا، وإنما النَّعيم هو: المال والجاه والرزق، والمأكل، والمشرب، والملبس، والأشياء المحيطة بالإنسان، أما الأشياء التي في ذات الإنسان، فهي تسمى نعمة.
وهذا ذكره الطاهر ابن عاشور رحمه الله في «التحرير والتنوير»، وهو محتمل، وأغلب المفسرين لا يفرِّقون بين هذا وهذا، فيعدُّون النَّعيم والنِّعمة مترادفين في المعنى، فالناس جميعًا يُسألون عن النَّعيم، سواء كان نعيمًا في ذواتهم من الصحة والعافية والشباب وحسن الهيئة وجمال الصورة، أو كان في خارجهم من الغنى والمال والجاه وغير ذلك.
وهل السؤال خاص بالكفار، أو عام للناس كلهم؟
الصحيح أنه عام للناس كلهم، وقيل: خاص بالكفار؛ لأن السورة خطاب للكافرين.
وقد جاء في حديث ضعيف، أن أبا بكر رضي الله عنه خرج لم يخرجه إِلَّا الجوعُ، وأن عمرَ رضي الله عنه خرج لم يخرجه إِلَّا الجوعُ، وأن النبيَّ صلى الله عليه وسلم خرج عليهما، وأنهما أخبراه أنه لم يخرجهما إلا الجوعُ، فقال: انطلقوا بنا إلى منزل رجل من الأنصار، يُقالُ له: أبو الهيثم بن التَّيِّهان، فإذا هو ليس في المنزل، ذهب يستسقي، قال: فرحَّبت المرأةُ برسول الله صلى الله عليه وسلم وبصاحبيه، وبسطتْ لهم شيئًا فجلسوا عليه، فسألها النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «أين انطلقَ أبو الهيثم؟». قالت: ذهب يستعذبُ لنا. فلم يلبث أن جاء بقربة فيها ماءٌ فعلَّقها، وأراد أن يذبحَ لهم شاةً، فكأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كره ذاك لهم، قال: فذبحَ لهم عَناقًا، ثم انطلقَ فجاء بكبائسَ من النخل، فأكلوا من ذلك اللَّحم والبُسر والرُّطَب، وشربوا من الماء، فقال أحدهما- إما أبو بكر وإما عمر-: هذا من النَّعيم الذي نُسأل عنه. فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «المؤمنُ لا يُثَرَّبُ على شيء أصابه في الدنيا، إنما يُثرَّبُ على الكافرين».
وأصل القصة في «صحيح مسلم»، وفيها: «خرج رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم أو ليلة، فإذا هو بأبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فقال: «ما أخرجكُما من بيوتِكُما هذه السَّاعةَ؟». قالا: الجوعُ يا رسولَ الله. قال: «وأنا والذي نفسي بيدِه، لأخرجَني الذي أخرجَكما، قوموا». فقاموا معه، فأتى رجلًا من الأنصار، فإذا هو ليس في بيته، فلما رأته المرأةُ قالت: مرحبًا وأهلًا. فقال لها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «أين فلانٌ؟». قالت: ذهبَ يستعذبُ لنا من الماء. إذ جاء الأنصاريُّ، فنظرَ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبيه، ثم قال: الحمدُ لله، ما أحدٌ اليومَ أكرمَ أضيافًا مني! قال: فانطلقَ فجاءهم بعِذْقٍ فيه بُسرٌ وتمرٌ ورُطَبٌ. فقال: كلوا من هذه. وأخذ المُدْيَةَ، فقال له النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «إياك والحَلوبَ». يعني: إذا كنتَ ولا بد ستذبح، فلا تذبح الحَلوبَ، فذبحَ لهم، فأكلوا من الشاة ومن ذلك العِذْق وشربُوا، فلما أن شبعوا ورَوُوا قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما: «والذي نفسي بيدِه، لتُسألُنَّ عن هذا النَّعيمِ يومَ القيامة، أخرجَكُم من بيوتِكم الجوعُ، ثم لم ترجعوا حتى أصابَكُم هذا النَّعيمُ».
وهذا الرجل قيل: هو: أبو الهيثم بن التَّيِّهان رضي الله عنه، وقيل: أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه.
يُسأل الكفار إذًا سؤال توبيخ وتقريع وتقرير على عدم شكرهم لله عز وجل، وعقوبة لهم على سوء استخدامهم وتصرفهم في تلك النعم، وعدم شكرهم لمسديها وموليها.
ويُسأل المؤمنون سؤال تشريف وتكريم ورفعة لهم عند الله تعالى يوم القيامة.
ولعل مَن قال: إن السؤال خاص بالكافرين، أراد سؤال التوبيخ والتقريع، ولا مانع أن يُسأل المؤمن عن مدى شكره لنعمة الله تعالى؛ ولهذا جاء في الحديث الصحيح: «إن اللهَ ليرضى عن العبدِ أن يأكلَ الأَكْلةَ فيحمدَه عليها، أو يشربَ الشَّربةَ فيحمدَه عليها».


سلسلة كتب:
إشراقات قرآنية (4 أجزاء)
للدكتور سلمان العودة
متوفرة الآن على موقع الدكتور علي محمَّد الصَّلابي: 
http://alsallabi.com/books/7


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022