الإثنين

1446-12-20

|

2025-6-16

من كتاب إشراقات قرآنية بعنوان: 

سورة العصر

الحلقة 146

بقلم: د. سلمان بن فهد العودة

شوال 1442 هــ / يونيو 2021

* {إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْر}:

أليس بمقدور المسلم اليوم أن يوجِّه همَّه نحو الأمر المثمر الفعَّال، وأن يشتغل في أي خير: دعوة، وإغاثة، وعلم، وفق الشروط التي يراها، وليس لأحد عليه سبيل، ولا يمنع هذا من النصيحة، ولا من النقد باللغة الراقية المناسبة، وفق الضوابط الشرعية، إنما الخطر في الانشقاق الذي دمَّر الطاقات، وقضى على الجهود، واستغرق الأوقات.
ثَمَّ مشكلة أخرى، وهي قضية التجمعات الإسلامية، وهي أفضل من التفرُّق، فالاجتماع والتقارب والتفاهم وحسن التعامل والمودة بين المسلمين أمر مطلوب، والاجتماع على الخير والبر والطاعة والتقوى من الأصول الثابتة.
لكن ينبغي أَلَّا يتحول الاجتماع إلى تعصب لجماعة أو حزب، فنكون قد خرجنا من ورطة إلى أخرى؛ خرجنا من ورطة الفردية والذاتية والأنانية للشخص، ودخلنا في ورطة الأنانية والذاتية والفردية للمجموعة، وعند ما يجتمع الناس على خير يلزمهم تعاهد دائم أَلَّا يكون الولاء الديني فيما بينهم يعني نبذ مَن سواهم، وإنما لُحْمة الولاء لهذه الأمة أشمل وأبقى، وينبغي أن تكون هي الأصل، وإنما هم أشبه بشركة أو جامعة التقت على عمل خاص تتعاون عليه، دون أن تقيم حدودًا أو سدودًا مع الآخرين.
إن كثيرًا من الأعمال الصالحة شُرعت جماعة، كالصلاة، والصوم، والحج، وغيرها.
والعجب ممن يجمعهم كل ذلك من الأصول العلمية والأركان العملية، ثم يتجاهلون الأصل العظيم المحكم الذي هو حسن الخلق، فيهجر بعضهم بعضًا بسبب اختلاف في موقف، أو مسألة علمية أو سياسية، أو تأويل أو لنقل بسبب خطأ صدر من بعضهم بغير قصد أو بقصد.
والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يحِلُّ لمسلمٍ أن يهجُرَ أخاهُ فوقَ ثلاثٍ». فهم يلتقون في المسجد، ورِجْل هذا إلى رِجْل الآخر، فإذا سلَّم لم يلتفت إليه بوجهه، بل يغمض عينيه لئلا يراه، أو لا يبالغ في الالتفات لما يجده في قلبه! فانظر كيف عمل الشيطان في الإغراء بالفرقة والخلاف والتناقض، وأضعف ذلك أثر ما نمارسه من عبادات وأعمال جماعية في نفوسنا، وصار الإنسان يمارس العبادة ويمارس نقيضها في الوقت نفسه!
ذكر أبو بكر بن العربي أن شيخه أبا بكر الطُّرْطُوشي زار المغرب، فصلَّى في مسجد للمالكية، فرفع الطُّرْطُوشي يديه عند الركوع وعند الرفع منه، فرآه رئيس البحر فانزعج من ذلك وأمر بقتله!
قال ابن العربي: فطار قلبي من بين جوانحي، وقلتُ: سبحان الله! هذا الطُّرْطُوشي فقيه الوقت! فقال لي: لماذا يرفع يديه؟ قال ابن العربي: فما زلتُ أبيِّن له أن هذه سنة النبي صلى الله عليه وسلم حتى سكن غضبه.
وأول ما يُوصي الإنسان نفسه، وأصل الوصية تكون للناس، لكن لما قال تعالى: {وَتَوَاصَوْا} دل على أن المقصود التواصي بين العديد من الناس، وهو ترسيخ لقضية الاجتماع على الخير والبر والتقوى.
وعبَّر في الآية بـ«تَوَاصَوْا»؛ لأن فيها معنى الاستمرار، بخلاف «أَوْصَوْا»، فقد يكون مرة ثم ينتهي.
كذلك التواصي فيه معنى التفاعل بين الطرفين، فأنا أوصيك وأنت توصيني، فلا تجد في الإسلام فئة فقط هي التي توصي الناس، والبقية يكون دورهم مجرد الاستماع، وإنما كل مسلم يوصي أخاه بالحق، فهي عملية تبادلية بين جميع المؤمنين، وقد قيل: لا أحد أقل من أن يفيد، ولا أحد أكبر من أن يستفيد، فلا يقال: هذا العالم جاوز القنطرة، فلا ينصح. ولا أحد يقول: هذا حقير لا يوجد عنده شيء.
وهذا يشمل التواصي، ويشمل التواصي بالتواصي، فعند ما نقول: يا إخوان، علينا أن يُوصي بعضُنا بعضًا، فنحن نوصي بعضنا بالوصية، تقول: أوصيك أن توصي الآخرين بالصبر، والنبيُّ صلى الله عليه وسلم يقول: «استَوصُوا بالنساءِ خيرًا». يعني: ليُوصي بعضُكم بعضًا بالنساء خيرًا.
والحق يُعرف بأدلة الشريعة، وهي مسألة مهمة، وهي: أن علينا أن نتواصى بالحق الذي هو الشرع، فإذا كانت القضية مجرد اجتهادات وآراء فلا يشملها الأمر؛ لأن الرأي يخطئ ويصيب، ولا حظر أن يتناقش المختلفون ويتحاوروا حول الرأي الأصوب والأَسَدِّ؛ لكن دون تعصب أو توهُّم أن الرأي دين لا يسع أحدًا مخالفته.
{وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْر} والصبر من الحق، وهو رأس الفضائل؛ ولذلك قال عليٌّ رضي الله عنه: «الصبرُ مَطِيَّةٌ لا تَكْبُو».
ولو تأملت وصايا الله تعالى لعباده بالصبر لوجدت شيئًا كثيرًا مذهِلًا، والحقيقة أنه لا دين ولا دنيا إلا بالصبر، حتى قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «وجدنا خيرَ عيشنا بالصبر».
فالإيمان يحتاج إلى صبر، بل الإيمان نصفه الصبر.
ومثله العمل الصالح، وقد يستقيم المرء شهرًا أو سنة، لكن إذا لم يكن عنده صبر، فإنه ينقطع.
وهكذا التواصي بالحق، قد نتواصى بالحق مرة أو مرتين، لكن إذا لم يكن عندنا صبر، فإننا نتوقف أو نمل.
والإنسان قد يصبر سنة أو سنتين، لكن إذا لم يكن عنده صبر على الصبر فإنه ينقطع.
والصبر يكون في الصحبة بين الزوجين، أو في التجارة، أو في طلب العلم، أو في الدعوة، أو في الجهاد؛ لأنه ما من عمل إلا والإنسان يقوم به مع غيره، والإنسان محتاج فيه إلى غيره.
ولا يمكن أن توجد صحبة بين اثنين إلا بصبر وتسامح؛ ولما ذهب موسى مع الخضر عليهما السلام قال له: {إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا}، وهما اثنان، وهذا نبيٌّ وهذا نبيٌّ، قال: {وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا} [الكهف: 67- 68].
إن الذين يذهبون إلى طلب العلم كثير، والذين يتعبَّدون الله كثير، والذين يتجهون إلى الخير كثير، ولكن الذين يصلون إلى الغاية، ويقطعون المشوار إلى نهايته قليل!
وقد كانوا إذا عُدُّوا قليلًا * فَقدْ صارُوا أَقلَّ مِنَ القليلِ
وهؤلاء هم الصابرون، نسأل الله تعالى أن يجعلنا منهم بمنه وكرمه!!

سلسلة كتب:
إشراقات قرآنية (4 أجزاء)
للدكتور سلمان العودة
متوفرة الآن على موقع الدكتور علي محمَّد الصَّلابي: 
http://alsallabi.com/books/7


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022