(في علاقة الجهاد بالثورة ... أفكار وملاحظات)
من كتاب كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي(ج3):
الحلقة: 256
بقلم: د. علي محمد الصلابي
الجهاد في الإسلام من الفروض الكفائية عند جمهور أهل العلم من السلف والخلف، ومعنى هذا أنه إذا قام به من يكفي في دفع غائلة الأعداء ونصر الإسلام سقط عن الباقين، ولا يكونون اثمين، وإن لم يقم به من يكفي أثمت الأمة كلها، ولا يرتفع الإثم إلا بخروج من فيهم الكفاية، والدليل على هذا قول الله تعالى: َ{وَمَا كَانَ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةٗۚ فَلَوۡلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرۡقَةٖ مِّنۡهُمۡ طَآئِفَةٞ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي ٱلدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوۡمَهُمۡ إِذَا رَجَعُوٓاْ إِلَيۡهِمۡ لَعَلَّهُمۡ يَحۡذَرُونَ ١٢٢} [سورة التوبة:122] .
ولكنه ينبغي أن نعرف، وأن يعرف الناس جميعاً أن القتال في الإسلام لا يكون حتى يسبقه إعلان وتخيير بين قبول الإسلام، أو أداء الجزية، أو القتال، ويسبقه نبذ العهد إن كان هناك عهد، والأحكام النهائية تجعل العهد لأهل الذمة الذين يقبلون مسالمة الإسلام وأداء الجزية.
ويكون الجهاد في الإسلام واجباً وفرض عين في الحالات الاتية:
ـ إذا التقى الجيشان وتقابل الصفان فإنه يتعيّن الجهاد على من حضر، وحرم عليه الفرار، إلا أن يكون ذلك لمكيدة أو خدعة حربية، أو لأخذ مكان أفضل وأحسن، أو للانحياز إلى فئة أخرى من الجيش، حيث قال الله تعالى: {يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا لَقِيتُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ زَحۡفٗا فَلَا تُوَلُّوهُمُ ٱلۡأَدۡبَارَ ١٥ وَمَن يُوَلِّهِمۡ يَوۡمَئِذٖ دُبُرَهُۥٓ إِلَّا مُتَحَرِّفٗا لِّقِتَالٍ أَوۡ مُتَحَيِّزًا إِلَىٰ فِئَةٖ فَقَدۡ بَآءَ بِغَضَبٖ مِّنَ ٱللَّهِ وَمَأۡوَىٰهُ جَهَنَّمُۖ وَبِئۡسَ ٱلۡمَصِيرُ ١٦} [سورة الأنفال:16.
ـ إذا هاجم الكفار بلداً من بلاد الإسلام أو نزلوا فيه تعيّن على أهله قتالهم ودفعهم بما استطاعوا لقوله تعالى: َ{يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ قَٰتِلُواْ ٱلَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ ٱلۡكُفَّارِ وَلۡيَجِدُواْ فِيكُمۡ غِلۡظَةٗۚ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلۡمُتَّقِينَ ١٢٣} [سورة التوبة:123] .
ووجب على إخوانهم المسلمين «كما أسلفنا» في كل قطر وبلد ؛ أن يخفوا إليهم بالعون والمساعدة أداء لحق الأخوة الإسلامية، وإذا كان هذا واجب المسلمين إزاء إخوانهم في الدين، فكيف بهم إذا كان هذا الاعتداء الصليبي قد وقع على المسلم المعني هو ذاته، مثلما هو واقع في الجزائر، كما يتبين من الشواهد التالية:
ـ لقد أعلن الملك شارل العاشر يوم 12 ماي 1830م عقد ندوة دولية حول مصير الأرض الجزائرية بعد احتلالها. وقد أراد أن يبين من خلال هذا الإعلان أن الحملة الحربية ضد الجزائر شُنت لصالح أوروبا كلها ولصالح المسيحية، وكانت الحكومة الفرنسية قد استغلت قضية حجز سفينتين تابعتين للفاتيكان قبل، وهما تحملان العلم الفرنسي، وذلك لتجنيد الرأي العام المسيحي لصالح احتلال الجزائر، مما أعطاها طابعاً صليبياً في نظرهم وفي نظرنا أيضاً، كما ذكر «أندري نوزبار» في كتابه «الجزائر: المسيحيون في الحرب».
ـ لقد قال «لوي فيو» إثر سفره إلى الجزائر سنة 1841م، بأن الأيام الأخيرة للإسلام دنت.. ولن يكون إله للجزائر بعد 20 سنة إلا المسيح، وأن الجزائر أصبحت مُلكيـة فرنسيـة وهي الان غير إسلامية، وكذلك سيكون عما قريب مصير كل من تونس والمغرب.
والخلاصة هنا: أن القتال مشروع لغاية وهي منع الفتنة والاضطهاد في الدين، ورفع أساليب الضغط والإكراه المادي والأدبي عن الناس، وتأمين الحرية للدعوة والدعاة ليؤمن من امن بحريته ويكفر من كفر باختياره إذ َ {لَآ إِكۡرَاهَ فِي ٱلدِّينِۖ قَد تَّبَيَّنَ ٱلرُّشۡدُ مِنَ ٱلۡغَيِّۚ } [سورة البقرة:256] .
قال تعالى: َ{قُلۡ يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ قَدۡ جَآءَكُمُ ٱلۡحَقُّ مِن رَّبِّكُمۡۖ فَمَنِ ٱهۡتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهۡتَدِي لِنَفۡسِهِۦۖ } [سورة يونس:108] .
وقد رجّح المحققون من العلماء أن كل ايات الجهاد ليس فيها شيء منسوخ، ولكنها على الاختلاف في الأحوال، فعلى المسلمين في كل زمان ومكان أن يأخذوا بها بحسب ما هم فيه من الضعف والقوة، فإذا كانوا في حالة ضعف جاهدوا بحسب حالهم، وإذا عجزوا عن ذلك اكتفوا بالدعوة باللسان، وإذا قووا بعض القوة قاتلوا من بدأهم من قرب منهم، وكفوا عمن كف عنهم، قال ابن تيمية: أما قتال الدفع فهو أشد أنواع دفع الصائل عن الحرمة والدين، فواجب إجماعاً، فالعدو الصائل الذي يفسد الدين والدنيا لا شيء أوجب بعد الإيمان من دفعه، فلايشترط له شرط، بل يدفع بحسب الإمكان.
ويجمع على أن يكون الجهاد مؤدياً إلى مصلحة راجحة، وأن لا يترتب عليه مفسدة أعظم، وذلك لأن الجهاد بجميع صوره إنما شرع لما فيه من تحقيق المصالح، ودفع المفاسد عن الإسلام والمسلمين أفراداً وجماعات، فلا يزال مشروعاً إذا عُلم باليقين أو غلب على الظن تحقيقه لهذه المقاصد الشرعية، فإذا تيقن أو ظن أنه يترتب على القيام به من المفاسد ما هو أعظم من المصالح ؛ لم يكن حينئذ مشروعاً ولا جهاداً مأموراً به.
وعن هذا التأصيل الجهادي الإسلامي للثورة الجزائرية، يقول الشيخ البشير الإبراهيمي في تصريح له في إذاعة صوت العرب من القاهرة تحت عنوان:
ـ الجزائر المجاهدة:
يقول الإمام الإبراهيمي: «لو قسمت حظوظ الجهاد بين الأمم لحازت الجزائر قصبات السبق، ونطلق الجهاد على معناه الواسع الذي يقتضيه اشتقاقه من الجهد. ولنبدأ بمعناه الخاص، وهو جهاد العدو الأجنبي المغير على الوطن، وقد وضع الله الجزائر في موضع يدعو إلى الجهاد، وعلى وضع يدعو إلى الجهاد.. إلى أن يقول: لم تخلُ العصور الإسلامية من الجهاد بالنفس في الجزائر، لأن الجارَين المتقابلين على ضفتي البحر الأبيض أصبح كل واحد منهما بالمرصاد لصاحبه، وانتقل لبّ الصراع بينهما من ميدان إلى ميدان..
فبعد أن كان صراعاً على العيش، أو التوسّع في العيش، أو صراعاً على الزيت والقمح «وهما المادتان اللتان جلبتا الروماني على إفريقيا الشمالية»، صار صراعاً على الدين، زاد من شدته أن العرب بدينهم خلفوا الرومان على حضارتهم في إفريقيا، ثم لمسوهم من جبل طارق تلك اللمسة المؤلمة التي تطيروا بها وطاروا فزعاً، وظنوا أنها القاضية على روما وديانتها وحضارتها وشرائعها. وهذا الميدان الذي انتقل إليه الصراع أعمق أثراً في النفوس، ويزيد في عمقه أن حامليه العرب قوم لا تلين لهم قناة ولا يصطلى بنارهم».
ثم يضيف قوله: «فكانت الثغور الجزائرية المشهورة والمهجورة التي يتطرق منها العدو عامرة دائماً وأبداً بالمرابطين، وهم قوم نذروا أنفسهم لله ولحماية دينه يبتغون فضلاً من الله ورضواناً، ولا يرزؤون الحكومات شيئاً من سلاح ولا زاد، وإنما يتسلحون ويتزودون من أموالهم ليجمعوا بين الحسنيين: الجهاد بالمال، والجهاد بالنفس.. وسلسلة الرباط لم تنقطع إلا بعد استقرار الأمر لفرنسا، وإنما كانت تشتد وتخف تبعاً لما يبدو على الضفة الأخرى من نشاط وخمود. وكانت على أشدها في المائة التاسعة والعاشرة والحادية عشرة في الوقت الذي عادت فيه الكرّة للإسبان على المسلمين في الأندلس، واغتنمها الإسبان فرصة لاحتلال ثغور البحر المتوسط الإفريقية، ومعظمها في جزائر اليوم.
لقد احتلت فرنسا الجزائر سنة 1830م تنفيذاً لخطة مرسومة تقتضي إعادة شمال إفريقيا لاتينياً كما كان قبل الإسلام، وإذا كان قديماً على يد الرومان، وكان اليوم على يد الفرنسيين، فإنما ذلك توارث بين ابن العم وابن عمه، والخطة تقتضي احتلال الجزائر اليوم، واحتلال جناحيها يوم مجيء الوقت، ومعاونة من يريد احتلال جزء اخر من التراث الإسلامي».
وعن هذا التأصيل الشرعي لجهاد الجزائر يقول في أحد أحاديثه أيضاً بإذاعة صوت العرب من القاهرة:
«إن الجزائر قد أعربت عن نفسها بالأعمال الخالدة التي قامت بها ثورتها وثائروها، وإنما أحيت من شرائع الجهاد، وسجلت من مواقف البطولة والشجاعة، ووقوف العدد القليل من أبنائها بما يملكون من سلاح يدوي قليل ـ لا يغني فتيلاً في مجرى العادة ـ في وجه عدو يفوقه أضعافاً مضاعفة في العدد والعدة والنظام والتدريب، تسانده جميع الأسلحة العصرية الفتاكة من طائرات ودبابات ومدافع ثقيلة وقادة، باشروا الحروب الاستعمارية وقادوها في ميادين مختلفة بالمشرق والمغرب وتمرنوا على أساليبها، يستمدون لوازم الحرب من سلاح وعتاد ومال من بلدهم، فلا يردّ لهم طلب ولا يتأخر إمداد.. ثم يقول في الحديث ذاته:
أعربت الجزائر عن نفسها بهذا كله، فحققت الجهاد بالنفس وهو أحد نوعي الجهاد، وهو النوع الذي عُلمت أخباره واشتهرت في العالم، ورفعت اسم الجزائر إلى السماء، وأصبح ذكرها مقروناً بالإعجاب والإكبار، وذكر بنيها مقروناً بالمدح والثناء، وأصبحت بطولتهم وشجاعتهم وصبرهم واستماتتهم في سبيل حرية بلادهم مضرب الأمثال وحديث الركبان.
وأما النوع الثاني من الدعائم التي تقوم عليها الثورة، وهو الجهاد بالمال، فقد قامت الجزائر وحدها بما تتطلبه الثورة من مال، ولم تدخر عزيزاً على أبنائها الثائرين المباشرين للجهاد، وإذا كانت فرنسا تنفق على جيشها في الجزائر المبالغ الطائلة، (فيقول المقلّون: إنها تنفق يومياً ملياراً من الفرنكات، ويقول المكثرون: إنها تنفق ملياراً ونصفاً في اليوم الواحد، مما أثقل ميزانيتها وأوقف ماليتها على حافة الإفلاس، لولا إعانة أمريكا التي عرفنا عنها أنها حاضنة الاستعمار وممرضته) ؛ فإن الجزائر المسكينة تنفق على ثورتها كل ما تملك من مال وسلاح وكسوة وطعام وهي صامدة في ذلك محتسبة» .
يمكنكم تحميل كتب كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي من موقع د.علي محمَّد الصَّلابي
الجزء الأول: تاريخ الجزائر إلى ما قبل الحرب العالمية الأولى
alsallabi.com/uploads/file/doc/kitab.PDF
الجزء الثاني: كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي وسيرة الزعيم عبد الحميد بن باديس
alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC135.pdf
الجزء الثالث: كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي من الحرب العالمية الثانية إلى الاستقلال وسيرة الإمام محمد البشير الإبراهيمي
alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC136(1).pdf
كما يمكنكم الإطلاع على كتب ومقالات الدكتور علي محمد الصلابي من خلال الموقع التالي: