(عملية المجهر: التفاصيل والأهداف والنتائج)
من كتاب كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي(ج3):
الحلقة: 287
بقلم: د.علي محمد الصلابي
شوال 1443 ه/ مايو 2022م
تعد هذه العملية من أضخم العمليات العسكرية التي شنها الجيش الفرنسي ضد الثورة الجزائرية في منطقة القبائل بقسميها الكبرى والصغرى، على شكل مثلث زواياه الثلاثة خليج بجاية شرقاً، دلس غرباً، والبويرة وبني منصور جنوباً، ودامت قرابة ثمانية شهور من 22 جويلية 1959م إلى مارس 1960م، وجند فيها خمسة وسبعون ألف جندي من الأسلحة الثلاثة، البرية والجوية والبحرية، ومن اللفيف الأجنبي، وأربعة الاف سيارة عسكرية، وألفي دبابة مصفحة، ومئات من الطائرات المختلفة الأشكال والأحجام، وعشرات من البواخر والبوارج الحربية الراسية والمتنقلة بين دلس وبجاية.
وقبل أن يشرع الجنرال شال في هذه العملية العسكرية الضخمة ؛ مهد لها بشن عملية الشرارة على جبال الحضنة وحوضها الغربي التابع للولاية الأولى، كتعمية للثوار والمجاهدين بالولاية الثالثة حتى يبقوا في أماكنهم، ويلحق بهم كذلك ثوار ومجاهدو منطقة الحضنة ليطبق عليهم جميعاً هناك.
ففي أول يوم من شهر جويلية 1959م شنت القوات الفرنسية عمليات عسكرية واسعة على برج بوعريريج، والمسيلة، وبوسعادة، وحاصرتها بالطائرات والمصفحات وأنزلت الجنود في الربى وقمم الجبال والوهاد، ووضعت مراكز للتفتيش والمراقبة في كل مكان خاصة في الضلعة بين تيكستار وعين تاغروط والحمادية وبئر حمادي بين رأس الوادي وقلالة صالح بمزيتة.
وأخذت الطائرات المروحية والحوامات من هذه المراكز تنقل الجنود إلى الربى وقمم الجبال، وتنقل إليهم الأغذية والمؤون والذخائر الحربية، وتنقل المساجين إلى هناك لتسخيرهم في الأعمال الشاقة وتقديمهم إلى الموت والمخاطر قبل الجنود الفرنسيين.(1)
وقد شملت عملية الشرارة هذه المنطقة المحصورة ما بين خط السكة الحديدية شمالاً وطريق بريكة والمسيلة وأولاد سلطان. وأحكم الحصار على السكان براً وجواً، ومكن الجنود من الات حديثة متطورة للاستكشاف والاستعلام، فاستعملوا الكلاب المدربة وشددوا على تفتيش القرى والمشاتي ومنعوا الناس من التنقل إلا برخص، ووضعت مراكز للمراقبة والتفتيش على كل طرق المنطقة، وسخرت عشرات من الطائرات للمراقبة والحراسة ليلاً ونهاراً، والقنبلة والتدمير، ودامت هذه العملية شهراً كاملاً من أول الشهر إلى يوم 28 منه وتم خلالها:
1 ـ إلقاء القبض على بعض المجاهدين والمسبلين.
2 ـ وحرق عدد من المراكز والمشاتي التي كان يتردد عليها المجاهدون.
3 ـ قتل عدد كبير من المجاهدين والمسبلين وحرق عدد من الغابات وإهلاك عدد من الحيونات كذلك.
وبعد ذلك انتقلت القوات الفرنسية إلى الولاية الثالثة لتنفيذ عملية المجهر الضخمة والتي هي لب مشروع شال برمّته.
أ ـ الشروع في تنفيذ عملية المجهر:
قاد هذه العلمية الجنرال شال بنفسه واتخذ قمة ثافيجوت بجبل أزرو نطهور «جبل الظهر» في شلاطة مقر القيادة، نظراً لموقعها الاستراتيجي الممتاز، المشرف على كل من القبائل الكبرى غرباً والصغرى شرقاً وحوض الصومام وخاصة جرجرة وثامغوط وأكفادو والبيبان وانطلقت يوم22 جويلية 1959م.(2)
وتعاون مع شال الجنرال دولبير قائد ناحية سطيف والبرج وبوني، وشنوا عمليات عسكرية ضخمة على المناطق المذكورة، وركزوا جنود الرماة على قمم الجبال والربى والهضاب، ونصبوا المدافع البعيدة المدى إلى جانبهم، وتم حصار الطرقات الكبيرة والمسالك الهامة بأكثر من أربعة الاف سيارة ودبابة مصفحة، لمنع المجاهدين من الخروج والانسحاب إلى الأماكن الامنة، وقامت عشرات من فرق وكتائب المشاة بمحاصرة كل المدن والقرى لمنع أي اتصال بين جنود جيش التحرير والسكان المدنيين، وتفتيش كل المنازل والمشاتي والمغارات والمسارب بحثاً عن المجاهدين.
وزحفت القوات الاستعمارية على المنطقة واكتسحتها شبراً بشبر، وقرية بقرية، بجبالها وشعابها، ودمرت القرى وهتكت الأعراض والحرمات، وقتلت الناس بالجملة، واعتقلت بالجملة كذلك. وتمركز جنود البحرية على كل الربوات والقمم والهضاب والشعاب، وكلفوا بالحراسة والمراقبة الشديدة والمتواصلة ليلاً ونهاراً، وأعطيت لهم الأوامر بقتل كل من يشاهَد متحركاً حتى الحيونات الأليفة التي هي دليل على وجود الحياة البشرية، وأعطي لكل جندي مجهر ليراقب به ويحرس ويكتشف، واستعملت حتى الأضواء الكاشفة ليلاً حتى يتعذر على المجاهدين الظهور والانتقال من مكان إلى اخر.
ب ـ الجنرال ديغول يزور المنطقة خلال العملية ويعلن عن سلم الشجعان:
وخلال إنجاز عملية المجهر هذه، زار الجنرال ديغول مدينة برج بوعريريج وذهب إلى قرية زمورة في قلب جبال البيبان يوم 28 جويلية 1959م وخطب هناك، ووجه نداءه المعروف بسلم الأبطال الشجعان للثوار، طالباً منهم تسليم أسلحتهم، ورفع العلم الأبيض، والاتجاه إلى أقرب مركز عسكري لهم، وقد استهدف الجنرال ديغول من زيارته لزمورة وتوجيه ندائه هذا ثلاثة أمور هامة في نظره طبعاً:
1 ـ إقناع العالم بأنه اقتحم جبال البيبان رغم كونها منطقة محرمة، وهذا يعني أن الثورة ضعفت، وأن جنود جيش التحرير على وشك الانتهاء والاختفاء بالقتل والموت جوعاً وبالاستسلام.
2 ـ اقترابه من مراكز الثورة الحساسة، وإسماع صوته للثوار بصفة مباشرة، حتى يستسلموا ويسلموا أسلحتهم وفق شعاره سلم الأبطال الشجعان.
3 ـ تشجيع الخونة وأعداء الثورة من القوم والحركة والأعوان والأذناب الاخرين وطمأنتهم على مستقبلهم، وعلى قوة فرنسا وقدرتها على حمايتهم.
أما الجنرال شال فقد وجه نداء إلى المجاهدين خيّرهم فيه بين واحد من ثلاثة أمور:
1 ـ الاستسلام قبل فوات الأوان لمن أراد.
2 ـ أو الموت الجماعي المؤكد لهم.
3 ـ واعتبار من تبقى منهم مجانين، لأنهم لا يقدرون على مواجهة القوات الفرنسية.
ج ـ أهداف عملية المجهر:
لقد استهدف الجنرال شال من وراء هذه العملية الضخمة تحقيق الأمور التالية:
1 ـ اقتحام الولاية الثالثة وحصارها وعزلها تماماً عن كل الولايات الأخرى.
2 ـ اقتحام مقر قيادة الولاية الثالثة بأكفادو بونعمان.
3 ـ كشف مخابئهم وملاجئهم ومقراتهم وأماكن تواجدهم.
4 ـ تكثيف المراقبة العسكرية على كل مناطق الولاية لشل حركة ونشاط المجاهدين، وإرهاب السكان وعزلهم عنهم، وإيقاف مساعداتهم لهم.
5 ـ فرض حصار غذائي واقتصادي على كل السكان لتحطيم معنوياتهم وإرغامهم على التخلي عن الثوار وعدم تقديم أي عون أو مساعدة.
6 ـ إرضاء المتطرفين من العسكريين والمدنيين في الجزائر وفرنسا معاً، وإعطاء الدليل لهم على أن الجيش الفرنسي قادر على الأخذ بزمام المبادرة وإنقاذ الموقف.(3)
د ـ الأساليب المتبعة في العملية:
وقد طبقت القوات الفرنسية خلال هذه العملية أساليب جهنمية وتفننت فيها، ومن ضمنها:
1 ـ تمشيط الولاية كلها تمشيطاً كاملاً وبكيفية حقودة وقاسية على مدى ثمانية أشهر، واتخذت ذلك نموذجاً لباقي العمليات التالية.
2 ـ تم حرق الغابات والحقول والبساتين وإتلاف كل المزروعات والمحاصيل في إطار أسلوب الأرض المحروقة، وتغوير ينابيع المياه كذلك.
3 ـ تم جمع السكان كلهم في مراكز احتشاد خاصة وضعت تحت الرقابة العسكرية المشددة لفصلهم عن الثوار المجاهدين بصفة نهائية وكاملة.
4 ـ منع أي اتصال بين السكان في المراكز، وتحديد تحركاتهم وتنقلاتهم إلا برخص خاصة من الإدارة العسكرية الفرنسية.
5 ـ تم تكثيف عمليات التفتيش والاستنطاق والتعذيب والاعتقال والإبعاد بصورة متواصلة في إطار سياسة الإرهاب والتخويف والزجر.
6 ـ نظمت كتائب وفرق عسكرية متنقلة اعتمدت نظام وتكتيك جيش التحرير الوطني في السير والتنقل والحركة، وذلك لمضايقة جنود جيش التحرير في الجبال والغابات، استعمل فيها خاصة جنود الحركة والقوم.
هـ خطط جيش التحرير في مواجهة عملية المجهر:
إن عملية المجهر هذه ضخمة وخطيرة تسببت في مقتل واستشهاد حوالي ثمانية الاف مجاهد، ولكن جيش التحرير واجهها بصبر وشجاعة، واتخذ عدداً من الإجراءات من ضمنها:
1 ـ السير فرادى أو في أفواج صغيرة جداً ومنع تجمع المجاهدين في مكان واحد وبأعداد كبيرة.
2 ـ تجنب المواجهة مع العدو في المعارك والاعتماد على نصب الكمائن وتكثيفها.
3 ـ نصب الألغام والمتفجرات في الطرق والجسور التي تمر عليها القوات العسكرية الفرنسية لنسفها وعرقلة نشاط تلك القوات.
4 ـ الاعتماد على عنصر النساء في التموين والاتصال والعلاج ونقل الأخبار وذلك لضعف الشبهة فيهن، وقدرتهن على تلك الأعمال بعد أن دمج كل المسبلين في جيش التحرير.
5 ـ استغلال المزارع والقرى الواقعة بالسهول التي تخلت عنها القوات الفرنسية مؤقتاً وذلك لجلب المؤن منها، ونقلها إلى المخابأئ المعدة لذلك في المراكز الجبلية فور انسحاب القوات الفرنسية منها، وبذلك كان يتم يومياً تبادل المواقع بين جنود جيش التحرير وقوات الاحتلال، التي لم تشعر بذلك ولم تتفطن، وبالطبع كان يتم ذلك بواسطة الأعوان المجندين لصالح الثورة.
و ـ أسباب فشل عملية المجهر:
إن عملية المجهر رغم العدد الضخم الذي جند فيها من الجنود والأسلحة، ورغم الأساليب المتطورة التي طبقت خلالها ؛ إلا أنها انتهت إلى الفشل الذريع الذي لم يستطع الفرنسيون إخفاءه، ومرد ذلك يعود إلى عدد من الأسباب والعوامل، منها:
1 ـ انهيار معنويات الجنود الفرنسيين خاصة الضباط والإطارات منها بسبب طول أمدها.
2 ـ عدم جدوى مخطط شال العسكري رغم كل الإمكانيات التي حشدت فيه، وذلك لكونه بني على معلومات خاطئة بالنسبة للثورة وموقف الشعب منها.
3 ـ كانت معظم القوات الفرنسية التي استعملت فيها منهكة في العمليات السابقة بجنوب وهران والونشريس والحضنة وجبال عمور وأولاد نايل، ولم يكن بمقدورها أن تبذل جهوداً أخرى أكثر في هذه العملية.
4 ـ كان جيش التحرير مدرباً مسبقاً على مواجهة مثل هذه العمليات العسكرية الضخمة منذ بداية الثورة، ولم تكن هذه العملية شيئاً جديداً ومفاجئاً له، والشيء الجديد فقط هو كثرة العدد وطول المدة.
5 ـ كان جيش التحرير يتوفر على أجهزة استعلامات قوية ومحكمة سمحت له بالاطلاع على خطط العدو وباستمرار وعلى نواياه ومشاريعه وتحركاته، وكل ذلك مكّنه من المواجهة المطلوبة والتكيّف مع الأوضاع الجديدة بالكيفيات المناسبة والملائمة في الميدان.
6 ـ لم يكن الجيش الفرنسي يتوقع أن يجد أمامه فراغاً رهيباً في الميدان، حيث اختفت عناصر جيش التحرير والمسبلين، وفشل في القضاء النهائي عليها كما كان يأمل، وفاته زمام المبادرة والمفاجأة رغم ضخامة القوات والمعدات التي جندها للعملية.
7 ـ وقد أثبتت عملية المجهر هذه مدى ارتباط الشعب الجزائري بالثورة وتمسكه بالجهاد والمقاومة، وتفانيه في دعم المجاهدين والمسبلين مادياً وبشرياً وروحياً بشكل لا نظير له، يعتبر إحدى معجزات هذه الثورة المباركة. وأثبتت كذلك مدى حرص الشعب على ضرورة استرجاع حريته وانتزاع استقلاله الوطني، وطرد الغزاة المعتدين مهما تكن التضحيات التي سيقدمها.(4)
مراجع الحلقة السابعة والثمانون بعد المائتين:
)) يحيى بوعزيز، الثورة في الولاية الثالثة التاريخية ص 182.
2)) المصدر السابق، 183.
3)) المصدر السابق ص 184، 185.
4)) المصدر السابق ص 189.
يمكنكم تحميل كتب كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي من موقع د.علي محمَّد الصَّلابي
الجزء الأول: تاريخ الجزائر إلى ما قبل الحرب العالمية الأولى
alsallabi.com/uploads/file/doc/kitab.PDF
الجزء الثاني: كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي وسيرة الزعيم عبد الحميد بن باديس
alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC135.pdf
الجزء الثالث: كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي من الحرب العالمية الثانية إلى الاستقلال وسيرة الإمام محمد البشير الإبراهيمي
alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC136(1).pdf
كما يمكنكم الإطلاع على كتب ومقالات الدكتور علي محمد الصلابي من خلال الموقع التالي: