(إضاءات حول الدعم السوداني للثورة الجزائرية)
من كتاب كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي(ج3):
الحلقة: 347
بقلم: د. علي محمد الصلابي
ربيع الآخر 1444 ه/ أكتوبر 2022م
كان السودان يحتفل دورياً بالذكرى السنوية لثورة نوفمبر على المستوى الشعبي والحكومي، وبهذه المناسبة تتضاعف تعبئة وتحسيس الشعب السوداني بالعمل على تقوية الدعم المعنوي والمادي لإخوانهم بالجزائر، وإدانة الاستعمار الفرنسي بقوة جماهيرياً وحكومياً.
بمناسبة الذكرى السابعة 1961م لثورة نوفمبر ؛ السيد طلعت فريد عضو المجلس الأعلى للثورة السودانية أكد على ديغول أن يعترف باستقلال الجزائر، وإلا فإن الجزائريين سيفرضون إرادتهم ويجبرونه على الخروج من الجزائر مكبلاً بالعار.(1)
ولعبت السودان دوراً فعالاً خاصة مع الدول الإفريقية المجاورة للوقوف بجانب مطالب التحرر الجزائرية، وكان له تأثير إيجابي على أثيوبيا لاتخاذ موقف لصالح القضية الجزائرية في منظمة الأمم المتحدة.
مندوب السودان في الأمم المتحدة أحمد الصياد أكتوبر 1960م ؛ تحدث داعماً للجزائر وخاطب الجمعية العامة قائلاً: الحكومة الجزائرية تتصف بالنضج السياسي وتسلك سياسة سليمة، إن حكومتي تساند طلب الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية بإجراء استفتاء تنظمه وتراقبه الأمم المتحدة.(2)
وأثناء زيارة فرحات عباس «1959» رئيس الحكومة الجزائرية المؤقتة إلى السودان، وجد الوفد الجزائري ترحيباً خاصاً واستعداداً كبيراً لتدعيم حرب التحرير الجزائرية. وخلال هذه الزيارة أكد الرئيس السوداني الجنرال إبراهيم عبود للوفد الجزائري: رغم أننا مادياً فقراء، إلا أننا نقوم بواجبنا فوق استطاعتنا.(3)
وفتح مكتب لجبهة التحرير الوطني الجزائرية رسمياً في العاصمة الخرطوم، ونتج عن ذلك أيضاً عقد عدة ندوات لشرح القضية الجزائرية وسبل دعمها مادياً ومعنوياً، وكان من أهمها الندوة التي عقدها الشيخ أحمد توفيق المدني رئيس الوفد الجزائري، وهذا ما دفع من ناحية أخرى إلى بروز دور الطبقة المثقفة السودانية في نصرة القضية الجزائرية جماهيرياً، حيث قام أساتذة وطلبة جامعة الخرطوم بمظاهرات وتجمعات تناولت التأييد المطلق لقضية الشعب الجزائري.(4)
كما توالت دعوات السلطات السودانية الرسمية لجبهة التحرير الوطني، قصد المزيد من توعية الجماهير السودانية بالقضية الجزائرية، وكللت الزيارات المتكررة للسودان بزيادة ربط العلاقات الأخوية بين الشعبين الشقيقين، وأصبحت السودان من بين الدول العربية التي دافعت باستماتة عن الثورة الجزائرية، وأصبحت لها من الجرأة السياسية ما جعلها فاعلة عربياً، حيث اتخذت الحكومة السودانية قراراً شجاعاً، تمثل في سحب سفيرها من العاصمة الفرنسية باريس جراء السياسة القمعية المسلطة على الشعب الجزائري، وفي الخرطوم وجهت مذكرتي احتجاج شديدتي اللهجة للسفارة الفرنسية، عبّرت فيهما عن استنكارها الكبير للمجازر المرتكبة من طرف الجيش الفرنسي في حق الشعب الجزائري، ومن جهة أخرى طالبت الحكومةَ الفرنسيةَ بوقف تنفيذ أحكام الإعدام المتواصلة ضد الوطنيين الجزائريين، والإسراع في الاعتراف باستقلال الجزائر الكامل.(5)
وأرسلت السودان عن طريق سفيرها بالقاهرة مبلغاً مالياً حسب طاقتها لجبهة التحرير الجزائرية، وفي عام 1961م كان مؤتمر الاتحاد الدولي للنقابات العربية الذي كان يضم نقابة العمال في مصر والعراق وليبيا واليمن والسودان، وكان يضم أكثر من ستة ملايين منخرط من العمال العرب، وفيه تم اتخاذ قرار هام تضمن التدابير الضرورية واللازمة من مقاطعة البضائع الفرنسية إلى جانب وسائل النقل من بواخر وطائرات، وحدثت هذه الجرأة بعد أن كانت هذه النقابات قد قاطعت البواخر الأمريكية، وقد نجحت المقاطعة وجاءت بنتائج إيجابية لصالح الثورة الجزائرية.(6)
وكان التجاوب الشعبي كبيراً جداً. وهذا أحمد توفيق المدني يصف لنا تجمعاً شعبياً كبيراً ألقى فيه كلمة مؤثرة بخصوص ثورة الجزائر حيث قال: كان للاجتماع الشعبي العظيم الذي سمحت لنا السلطة بإقامته في أم درمان أعظم الأثر في نفسي وفي إخواني. وكان الاجتماع ليلاً ووقع في مكان فسيح جداً، يسع نحو خمسة أو ستة الاف من الناس، ورتبوا منصته أحسن ترتيب، ووضعوا على جوانبه مكبرات الصوت بصفة فنية محكمة لا أذكر أنني رأيت مثلها في الشرق، كان المنظر بديعاً حقاً، لقد اختلط سواد البشرة مع سواد الليل، ما كنت أرى من فوق المنصة إلا بحراً من الألبسة البيضاء الفضفاضة التي تتراءى للناظر وكأنها بناء مرصوص يشد بعضه بعضاً وفوقه بحر اخر بعد انفصال قليل، هو بحر العمائم البيضاء الضخمة التي يستعملها إخوتنا من أجل مقاومة اشعة الشمس وحرارتها.
والسوداني مستمع جليل يقدر قيمة الخطيب، فلا يقاطعه بهتاف أو صراخ أو بأناشيد هوجاء كما يقع بمصر وبالعراق خاصة، وتحمست وأسهبت في وصف الام الجزائر مما تقاسيه من بطش وإرهاق، وما يرتكب فيها من مجازر وفظائع لم تشاهد البشرية مثلها، وأكدت حاجة الجزائر إلى العونين المادي والأدبي، وبينما أنا في عنفوان الحماس أضع في الكلام قنابل محرقة، إذ بزوبعة هوجاء صارخة مدوية تنفجر في القاعة فتجرف معها كامل المستمعين، كأنما مسهم تيار كهربائي في ان واحد، وأخذت أستمع رغم إرادتي لصوت هو صوت أمة، صوت جهاد، هو صوت الضمير الحر انطلق من عقاله فجأة في سماء الشعور والإحساس، نادى الناس كافة بأصوات تشبه هزيم الرعد أثناء زوبعة عاتية عاصفة: الجهاد: الجهاد السلاح إلى الجزائر، وقال بعضهم: لا نترك النساء تذبح ونحن رجال قاعدون، وقال اخرون: لنشترك في حرب الجزائر فإن تحررت تحررنا جميعاً.
وهكذا أصبحت الخطابة من القاعة والقوم وقوف، وأصبحت أرى منظراً لم أره طوال حياتي في الكفاح، وأصبحت أرى بين بحر العمائم البيضاء وبين بحر الأردية البيضاء نوراً أحمر بلون الدم إلى أن كاد يفقدهم الشعور، وصعدت الدماء دفعة واحدة إلى الرؤوس، فاحمرت الأحداق حتى باتت وكأنها النار الحامية.(7)
إلى أن قال:.. وأشرت إلى القوم بالسكوت وأعدت الإشارة مراراً إلى أن خفت وطأة الموجة العارمة ما تمكنت من إسماع صوتي بواسطة المكبرات حتى عدت إلى الحديث عن تلك الفظائع والموبقات بمثل لهجتي الأولى، وعقبت على ذلك بقولي:
إن إخوانكم مجاهدي الجزائر الأبية يتمتعون بحمد الله بقوة في البدن، وبكثرة عالية في العدد، ولو استطعنا أن نسلح مليوناً من الرجال، لوقف في الميدان مليون رجل يتقدمون بثغر باسم نحو النصر أو الشهادة. لا يا إخوان، لسنا في حاجة إلى الرجال، نحن في حاجة إلى مال وإلى السلاح، وإلى عمل سياسي خارجي يتوازن مع الكفاح الداخلي ويسانده، هذه هي حاجتنا الأكيدة وهذا هو واجبكم المفروض.(8)
قال: وما كدت أنتهي حتى بادر القوم بتكوين لجنة من أحسن رجالهم الشعبيين من أجل جمع المال، على مقدار ما يستطيع السودان بذله إعانة لإخوانه المجاهدين في سبيل الله. ثم اجتمعنا بعد ذلك بقليل مع رجال اللجنة الشعبية وقررنا أنهم يرسلون لنا بالقاهرة، وبواسطة سفارة السودان، ما يجمعونه من شعب يذوق الجوع والحرمان لكنه يستطيع أن يجوع أكثر، وأن يتبرع بجزء من الضروري من قوته لإخوانه المجاهدين.
يا رجال السودان الأبرار، يا أبطال أفريقيا، يا غطارفة الإسلام، يا أباة الضيم، أسجل لكم على هذه الصفحة كلمة إعجاب وإكبار وإجلال، إن كان ما بين أيديكم قليلاً، فقد حملت قلوبكم الندية كنوز الدنيا وثروة العالم وليس الغنى هو غنى الجيب، إنما الغنى هو غنى القلب والروح، وقد متعكم الله بتلك الثروة الخالدة.(9)
مراجع الحلقة السابعة والأربعون بعد الثلاثمائة:
(1) السياسة العربية والمواقف الدولية 77.
(2) السياسة العربية والمواقف الدولية ص 77.
(3) المصدر نفسه ص 76.
(4) مواقف الدول العربية ص 307.
(5) مواقف الدول العربية ص 308.
(6) المصدر نفسه ص 309.
(7) حياة كفاح (3/281).
(8) المصدر نفسه (3/282).
(9) حياة كفاح (3/283).
يمكنكم تحميل كتب كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي من موقع د.علي محمَّد الصَّلابي
الجزء الأول: تاريخ الجزائر إلى ما قبل الحرب العالمية الأولى
alsallabi.com/uploads/file/doc/kitab.PDF
الجزء الثاني: كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي وسيرة الزعيم عبد الحميد بن باديس
alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC135.pdf
الجزء الثالث: كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي من الحرب العالمية الثانية إلى الاستقلال وسيرة الإمام محمد البشير الإبراهيمي
alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC136(1).pdf
كما يمكنكم الإطلاع على كتب ومقالات الدكتور علي محمد الصلابي من خلال الموقع التالي: