الجمعة

1446-11-04

|

2025-5-2

سياسة يزيد بن عبد الملك الإدارية
(من كتاب الدولة الأموية عوامل الازدهار وتداعيات الانهيار (ج2))
الحلقة: 198
بقلم: الدكتور محمد علي الصلابي
شعبان 1442 ه/ أبريل 2021
تولى يزيد بن عبد الملك أمر المسلمين بعد الخليفة عمر بن عبد العزيز، فسار بسيرته برهة من الزمن، ثم ترك نهجه واتخذ نهجاً آخر تابع فيه كثيراً من سياسات أسلافه من بني أمية الإدارية والمالية، وخالف عمر بن عبد العزيز في بعض تجديداته وإصلاحاته، وخاصة في المجال المالي، ويرى بعض المؤرخين كابن الأثير بأن يزيد عمد إلى كل ما صنعه عمر بن عبد العزيز مما لم يوافق هواه، فرده، ولم يخف شناعة عاجلة ولا إثماً عاجلاً.
وعلق عماد الدين خليل على عهد يزيد بن عبد الملك فقال: سنجد يزيد لم يعمد إلى رد كل ما صنعه عمر، مما لم يوافق هواه، وإنما إلى بعضه فحسب، وبرر مقولة ابن الأثير وغيره ممن حذا حذوه، بأن قولهم جاء نتيجة خيبة الأمل التي أصيبوا بها من جراء ما آلت إليه التجربة الكبيرة التي نفذها عمر بن عبد العزيز من انتكاس، وواضح أن الذي قاد إلى الانتكاس حقاً لم يكن هدم الخليفة يزيد لبعض جوانب سياسة عمر، بل فقدان الرؤية وضياع الاستراتيجية.
والصحيح أن يزيد راح ضحية قول ابن الأثير برده كل ما صنعه عمر، وما أورده اليعقوبي من عزله جميع عمال عمر، كما أن مجيئه عقب خلافة عمر جعله متوارياً في خلالها لا يرى، وأن رؤي في صورة الخليفة اللاهي المنغمس في الملذات قد شغله عشقه لجاريتيه حبابة وسلامة عن مباشرة أمور الدولة وشؤون الحكم، وذلك كما صورته كثير من المصادر التي تناولت سيرته الذاتية، في شيء من المبالغة والتهويل.
وبتفحص الروايات عن شخصية يزيد وسياسته يتبين أن الاختلاف بين شخصيتي يزيد وسلفه عمر هو الذي كان وراء الاختلاف بين سياسة الرجلين، فقد غلب على عمر الوازع الديني، فاتسمت سياسته بالروح الإسلامية، مما دفعه إلى تطبيق السياسة الإسلامية على نظم الحكم، كما فاقه عمر من حيث القدرة والكفاءة الإدارية، والحضور الدائم والانصراف إلى العمل وتحمل المسؤولية، والحق أن يزيد لم يدع الأمور تجري بلا ضابط أو لغيره، فلم يكن بالبعيد عن إدارة دفة الحكم، فسنجده وراء الكثير من الأحداث يعالجها ويوجهها ويخطط لها، لكنه لم يعط كل جهده ووقته واهتمامه لشؤون دولته كما كان يفعل سلفه عمر، ومع ذلك فقد حرص على بقاء دولته مهابة مصونة في الداخل والخارج، ونجح في ذلك بإخماد كل الحركات الداخلية التي حدثت في زمنه، وصد القوى الخارجية الطامعة في حدود دولته، وإن كان قد اتخذ في سبيل تحقيق ذلك سياسات تخالف نهج سلفه عمر.
قال ابن تغري بردي: غير أنه لما ولي يزيد الخلافة بعد عمر بن عبد العزيز غيَّر غالبَ ما كان قرره عمر. وقال: ثم عزل جماعة من العمال. فلم يقل غيَّر كلَّ ما قرره عمر أو عزل جميع عماله، ويبدو جلياً أن الخليفة يزيد لم يكن يملك الرؤية البعيدة، ولم يعمل وفق استراتيجية مرسومة.
كما يظهر أنه لم يحط بظروف دولته بعد حركة الفتوح الكبرى التي تمت في عهد أسلافه، وأهمية استيعاب الدولة للمتغيرات التي تعيشها من جراء دخول أجناس ومذاهب مختلفة متباينة، كان على الدولة صهرها في جسم الأمة ونشر الدين الإسلامي بينها، وهذا ما لمسه عمر وسعى إليه، إلا أن الخليفة يزيد لم يدرك ذلك، فعاد إلى سياسة من
سبق عمر من خلفاء بني أمية، وذلك عن طريق العودة إلى تنشيط حركة الفتوح، وضرب المعارضة بكل قوة، وإهمال الإصلاح الداخلي، وعدم الاهتمام بصهر القوى الجديدة في أمة الإسلام، وتطبيق الأحكام الإسلامية عليهم، وللحق أن سياسة يزيد لم تكمن وراء الوهن الذي أصاب دولة بني أمية، لكنه بعدم إدراكه ما تحتاجه الدولة في تلك المرحلة من إصلاح، وما تعيشه من متغيرات، استمر في سياسة أسلافه قبل عمر، وأدار ظهره للكثير مما صنعه عمر، فاستمر الوهن في عهده، وجرت بعض سياساته بالدولة نحو هاوية الانهيار، وإن كان هذا الوهن والتدهور لم يظهر جلياً في زمنه، بل استطاع الإبقاء على حدود دولته مصونة، وكيانها موحداً مهاباً، فظل ينخر في جسم الدولة متوارياً، حتى ظهر ذلك متأخراً فيما بعد.
1 ـ أهم صفات يزيد الإدارية:
أ ـ الحزم: فقد تجلى حزمه في تعامله مع بعض الحركات الداخلية ومواجهة الخطر الخارجي، كجديته وحزمه في إخماد حركة ابن المهلب، ومواجهة خطر الترك والصغد فيما وراء النهر، والخزر في أرمينية.
ب ـ المرونة: وأما المرونة واللين فلاحظناها في تعامله مع حركة عقفان الحروري، عندما لجأ للطريق السلمي في إخمادها، فكان موفقاً، وكذلك ملاينته لأهل الكوفة إبان حركة ابن المهلب حتى يضمن لزومهم الحياد وعدم انضمامهم لخصمه.
جـ الواقعية: فلعلها تتجلى في إقرار تصرف البربر عندما قتلوا أميرهم يزيد بن أبي مسلم وولوا عليهم غيره، وقصة هذا الحديث: في سنة اثنتين ومئة: قتل يزيد بن أبي مسلم بإفريقية وهو والٍ عليها، وكان سبب ذلك أنه عزم أن يسير بهم بسيرة الحجاج ابن يوسف في أهل الإسلام الذين سكنوا الأمصار، ممن كان أصله من السواد من أهل الذمة فأسلم بالعراق؛ من ردهم إلى قراهم ورساتيقهم، ووضع الجزية على رقابهم على نحو ما كانت تؤخذ منهم وهم على كفرهم، فلما عزم على ذلك تآمروا في أمره، فأجمع رأيهم ـ فيما ذكر ـ على قتله، فقتلوه، وولوا على أنفسهم الذي كان عليهم قبل يزيد بن أبي مسلم، وهو محمد بن يزيد مولى الأنصار، وكان في جيش يزيد بن أبي مسلم، وكتبوا إلى يزيد بن عبد الملك: إنا لم نخلع أيدينا من الطاعة، ولكن يزيد بن أبي مسلم. سامنا ما لا يرضي الله والمسلمين، فقتلناه، وأعدنا عاملك، فكتب إليهم يزيد بن عبد الملك: إني لم أرضَ ما صنع يزيد بن أبي مسلم، وأقر محمد بن يزيد على إفريقية. وبهذا الفعل من يزيد جنب الدولة كثيراً من المشاكل، ووفر عليها كثيراً من الجهد والمال.
2 ـ سياسته في إدارة الولايات:
اتبع يزيد النهج الأموي في إطلاق يد العامل، وجعل ولايته عامة، بل إنه عاد إلى ضم الولايات إلى بعض، فجمع العراقين لمسلمة بن عبد الملك، ثم لعمر بن هبيرة، وفوض لهما أمر المشرق كله، كما جمع لعبد الواحد النصري المدينة ومكة والطائف. وأعاد الأندلس تابعة إلى ولاية إفريقية، إلا أنه لم يطبق السياسة الأموية في الفصل بين السلطة الإدارية والمالية إلا في مصر والمدينة، فقد أعاد أسامة بن زيد على خراج مصر.
أما بقية الأقاليم فقد جمع لولاتها السلطات الإدارية والمالية، فلم نعثر على نص يدل على ذلك، بل إننا نجد نصوصاً تدل على استعمال الأمراء والقضاة، وعمال الخراج والصدقات والدواوين بشكل عام، ونوابهم على المناطق التابعة لهم، من قبلهم، فأصبحت الولاية وكأنها نيابة عامة عن الخليفة، يستمد الأمير فيها سلطاته من سلطة الخليفة، ومع ذلك فقد كان يتدخل إذا ما لزم الأمر، واقتضت الحاجة والمصلحة؛ من ذلك أمره ابن هبيرة عامله على المشرق استعمال الحرشي على خراسان.
ومن سمات سياسته الإدارية إتاحة الفرصة للموالي في إدارة الدولة، وشغل بعض الأعمال الكبيرة، وقد سار يزيد على نهج عمر في استعمال الموالي في وظيفة القضاء، فقد أمر على قضاء مصر عبد الله بن يزيد بن خذامر الصنعاني مولى سبأ، كما يبدو أن يزيد بن عبد الملك تابع الخليفة عمر بن عبد العزيز في منع أهل الذمة من العمل في دواوين الدولة، إذ لم نلمس ما يُشير إلى عملهم فيها.
3 ـ أشهر ولاة يزيد بن عبد الملك:
كان العامل على المدينة عبد الرحمن بن الضحاك، وعلى مكة عبد العزيز بن عبد الله بن خالد بن أسيد، وعلى الكوفة محمد بن عمرو ذو الشامة، وعلى قضائها القاسم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود، وعلى البصرة عبد الملك بن بشر بن مروان، وعلى خراسان سعيد بن عبد العزيز الحرشي، وعلى مصر أسامة بن زيد.
يمكنكم تحميل كتاب الدولة الأموية عوامل الازدهار وتداعيات الانهيار
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي:
الجزء الأول:
الجزء الثاني:
كما يمكنكم الاطلاع على كتب ومقالات الدكتور علي محمد الصلابي من خلال الموقع التالي:


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022