(وفاة الإمام محمد البشير الإبراهيمي)
من كتاب كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي(ج3):
الحلقة: 395
بقلم: د.علي محمد الصلابي
شعبان 1444ه/ فبراير 2023م
في أوائل شهر ماي، تدهورت حالة الشيخ محمد البشير الإبراهيمي الصحية، فجأة، ووافته المنية ببيته يوم ماي 1965م، وأذيع خبر وفاة الإمام عبر أمواج الأثير، وانتشر بسرعة البرق في أرجاء الجزائر، وتوافدات الحشود إلى بيته، وكان من بينهم العقيد هواري بومدين وزير الدفاع، وألقى النظرة الأخيرة على الجثمان الطاهر، فقرأ الفاتحة وخاطب الحاضرين، قائلاً: إن رحيل الشيخ البشير الإبراهيمي لا يعد خسارة لأسرته وحدها، فبرحيله تفقد الجزائر، بل والعالم الإسلامي قاطبة، رجلاً كرَّس حياته كلها من أجل عزة الجزائر والإسلام، تغمد الله الفقيد برحمته الواسعة.
ونقلت مراسم الدفن مباشرة في التلفزة، وقطعت الإذاعة الجزائرية ـ الليلة التي سبقت ـ البرنامج المعتاد، وبثت ايات بينات من القران الكريم حداداً على فقدان العالم الرباني والمجاهد الكبير، وأظهرت يومية «الشعب» الرسمية تغطية عن حياة الراحل، ونشرت في عددها الصادر بتاريخ 22 ماي مقالاً بعنوان «الشعب في جنازة الإمام»، مشيرة إلى ذلك التلاحم بين الشعب وأفكار الراحل.
انطلقت الجنازة من الجامع الكبير الذي كان يؤمه الشيخ أحمد سحنون يومئذ، واتجه المشيعون مشياً على الأقدام، نحو مقبرة سيدي أمحمد الكائنة بحي بلكور، وكان هناك ما لا يقل عن مائتي ألف من المواطنين، حسب تقدير الإذاعة الوطنية نفسها، أبوا إلا أن يسيروا في الموكب الجنائزي تعبيراً عما كانوا يكنونه للشيخ من احترام ومحبة، واستغرقت المسيرة زهاء ساعتين لقطع مسافة بضعة كيلومترات.
حضر رفاق بومدين من بينهم: الشريف بلقاسم وزير الإرشاد الوطني، وأحمد مدغري وزير الداخلية، وعبد العزيز بوتفليقة، وسفراء الجزائر المعتمدين في الخارج ممن كان بالجزائر، وحضر الدفن عليه القوم وكبارهم وكان أحمد بن بلة خارج العاصمة.
وكتب فرحات عباس من أدرار فيما بعد: بلغني نبأ وفاة الفقيد الشيخ البشير الإبراهيمي.. إنها شخصية كبيرة ترحل عنا.
إن الشيخ البشير رفيق سجن، بعد حوادث ماي 1945م بالسجن العسكري لقسنطينة، وكان أيضاً أبي الروحي.
وقرأ خطبة التأبين الشيخ محمد خير الدين، أحد الأعضاء السابقين في أول مكتب إداري لجمعية العلماء، القليلين ممن بقوا على قيد الحياة، هو الذي قرأ خطبة التأبين، وتأثر الناس عندما قام أمير شعراء الجزائر محمد العيد ال خليفة يلقي قصيدته التأبينية ذات المستوى الأدبي الرفيع والشحنة العاطفية الكبيرة، لقد أبكى جميع الحاضرين، ولم يستطع هو ذاته التحكم في دموعه وراح يجهش بالبكاء عندما قال:
فسلاماً ولا اقول وداعاً
أبت النفس أن تراك عديما
عشت فوق الثرى عظيماً
فأحرى بك أن تسكن السماء عظيما(1)
ـ لقد قال الشيخ العربي التبسي عن الإبراهيمي: إن الإبراهيمي فلتة من فلتات الزمان، وإن العظمة أصل في طبعه، والعظمة الحقيقية في رأيي تكمن في القلب، والحقيقة أن الإبراهيمي كان عظيماً بعقله ووجدانه، بقلبه ولسانه، فكل من تقلب في أعطافه نال من ألطافه، فالقريب والرفيق والسائل والمحروم والمريد والتلميذ ؛ يجد فيه الأب الشفيق والأخ الصديق، الذي لا يبخل بجهده وجاهه وماله ـ وإن قلّ ـ لتفريج الكروب وتهوين الخطوب، وما تقربتَ منه إلا ملك قلبك بحلمه وغمر نفسك بكرمه، قبل أن يشغل عقلك بعلمه ويسحر لبَّك بقلمه، وكانت الخصال البارزة فيه: الإيثار والحلم والوفاء(2).
ـ وقال الأستاذ أحمد توفيق المدني ـ رحمه الله ـ عندما تبوأ كرسيه في مجمع اللغة العربية بالقاهرة: فتقدم الإبراهيمي الأمين يحمل الراية باليمين، لا يأبه للمكائد ولا للسجون، ولا يبالي بالمنافي في الفيافي، بل دخل المعمعة بقلب أسد وفكر أسدّ، ووضع في ميزان القوى المتشاكسة يومئذ تلك الصفات التي أودعها الله فيه:
ـ علماً غزيراً فيَّاضاً متعدد النواحي، عميق الجذور.
ـ واطلاعاً واسعاً عريضاً، يُخيل إليك أن معلومات الدنيا قد جمعت عنده.
ـ وحافظة نادرة عزَّ نظيرها.
ـ وذاكرة مرنة طيِّعة جعلت صاحبها أشبه ما يكون بالعقل «الأليكتروني».
كدائرة معارف جامعة سهلة التناول من علوم الدين التي بلغ فيها مرتبة الاجتهاد بحق، إلى علوم الدنيا مهما تباينت واختلفت، إلى شتى أنواع الأدبين القديم والحديث بين منظوم ومنثور، إلى تاريخ الرجال والأمم والدول، إلى أفكار الفلاسفة والحكماء من كل عصر ومصر، إلى بدائع الملح والطرائف والنكت، كل ذلك انسجم مع ذكاء وقاد، ونظرات نافذة، تخترق أعماق النفوس وأعماق الأشياء.
وفصاحة في اللسان، وروعة في البيان، وإلمام شامل بلغة العرب لا تخفى عليه منها خافية، وملكة في التعبير مدهشة، جعلته يستطيع معالجة أي موضوع ارتجالاً على البديهة، إما نثراً أو نظماً.
ودراية كاملة بجميع ما في الوطن الجزائري يحدثك حديث العليم الخبير، عن أصول سكانه وقبائله وأنسابه ولهجاته، وعادات كل ناحية منه، وأخلاقها، وتقاليدها وأساطيرها الشعبية وأمثالها، وإمكاناتها الاقتصادية، وثرواتها الطبيعية.
ـ كل ذلك قد توِّج بإيمان صادق، وعزيمة لا تلين، وذهن جبَّار منظَّم، يخطط عن وعي، وينفِّذ عن حكمة، وقوة دائبة على العمل، لا تعرف الكلل والملل.
هذا هو البطل الذي اندفعنا تحت قيادته الموفقة الملهمة نخوض معركة الحياة التي أعادت لشعبنا بعد كفاح طويل لسانه الفصيح، ودينه الصحيح، وقوميته الواعية الهادفة(3).
كان الإبراهيمي ـ طيب الله ثراه ـ يدرك في أعماقه أن الاستقلال اتٍ لا محالة متى هانت التضحيات في سبيله، وكان يدرك أن هذا الاستقلال لن يكون سوى مرحلة في صراعنا الحضاري ضد قوى الاستعمار في مختلف أشكاله، أي أن أبناء الجزائر مطالبون بالإبقاء على الجذوة الروحية حية في صدورهم، لأنها تعطي لحياتهم معنى، وتجعل لوجودهم عنواناً، وكان يحلم بذلك المجتمع الذي يضمن لأبنائه العفاف والكفاف، ويجمع بين الأصالة والمعاصرة، ويعتز بمقوماته الشخصية الوطنية وأخذ سبيل العلم على مدارج الرقي والتقدم(4).
ـ رحم الله شهداء الجزائر وعلماءها وقادتها وأبطالها ومن ناصرهم وازرهم وحمل رسالتهم المقدسة في تحرير الشعوب.
ـ رحم الله كل من رفض الدنيئة في دينه وعرضه وكرامته وحقوقه وإنسانيته، فقاوم الاحتلال الفرنسي جيلاً بعد جيل، وتصدى لكل ألوان الظلم بكافة أشكاله وأنواعه وصوره البشعة.
ـ رحم الله قوافل الشهداء، وتقبل الله الأثمان الغالية من مهج وجوع وخوف ومال قدموها في سبيل الله عز وجل.
ـ رحم الله أولئك الأحرار الذين سطَّروا ملحمة الجهاد الغالية والكفاح المرير، وعلَّموا الشعوب المتعطشة للحرية بأن إرادة الشعوب تنتصر على إرادة الطغاة، لأن ذلك من سنن الله:
{فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلاً }.
مراجع الحلقة الخامسة والتسعون بعد الثلاثمائة:
(1) مذكرات جزائري، أحمد طالب الإبراهيمي (1/188).
(2) اثار الإمام محمد البشير (1/17).
(3) المصدر نفسه (1/17).
(4) المصدر نفسه.
يمكنكم تحميل كتب كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي من موقع د.علي محمَّد الصَّلابي
الجزء الأول: تاريخ الجزائر إلى ما قبل الحرب العالمية الأولى
الجزء الثاني: كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي وسيرة الزعيم عبد الحميد بن باديس
الجزء الثالث: كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي من الحرب العالمية الثانية إلى الاستقلال وسيرة الإمام محمد البشير الإبراهيمي
كما يمكنكم الإطلاع على كتب ومقالات الدكتور علي محمد الصلابي من خلال الموقع التالي: