منهج التزكية والسلوك عند التابعين، مدرسة الحسن البصري مثالاً:
من كتاب الدولة الأموية عوامل الازدهار وتداعيات الانهيار (ج2):
الحلقة: 171
د. علي محمد الصلابي
رجب 1442 ه/ مارس 2021
الحسن البصري في عهد عمر بن عبد العزيز والدولة الأموية:
يعتبر الحسن البصري من المعاصرين لعمر بن عبد العزيز، كما أنه كان له تأثير واضح في الحياة الدينية والاجتماعية في عهد الدولة الأموية، والحسن البصري هو أبو سعيد الحسن بن يسار ـ مولى زيد بن ثابت رضي الله عنه ـ من كبار التابعين، وإمام أهل البصرة، وحبر الأمة وقتها، وأمه (خيرة) مولاة أم المؤمنين أم سلمة ـ رضي الله عنها. ولد عام 21 هـ في المدينة في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، ويقال: الحسن أرضعته أم سلمة ـ رضي الله عنها ـ حيث كانت أمه ـ خيرة ـ تخرج لشراء بعض الحاجيات، فيبكي الطفل فتأخذه أم سلمة بين يديها، وتضعه في حجرها، وتلقمه ثديها، فيدر الثدي لبناً، فيرضع الحسن، وبذلك تكون أمه من الرضاعة، وقد كانت فصاحته وعلمه من هذه البركة، ومن البديهي أن يتعرف الطفل الصغير على بيوت أمهات المؤمنين وينهل من معينهن، ويتأدب بأدبهن ويتخلق بأخلاقهن، ومن جهة أخرى يتتلمذ على كبار الصحابة في مسجد رسول الله ﷺ، كأبي موسى الأشعري، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس، وجابر بن عبد الله رضي الله عنهم أجمعين.
وانتقل مع أبويه فيما بعد إلى (البصرة)، وإليها ينسب، فيقال: الحسن البصري، وكان عمره وقتها أربع عشرة سنة، فلزم مسجد البصرة ينهل من معين علمائها وخاصة حلقة حبر الأمة وعالمها عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، وما هو إلا قليل حتى التف الناس حوله، وقصدوه من كل حدب وصوب، وكما قيل فيه كان قوله كفعله، لا يقول ما لا يفعل؛ سريرته كعلانيته، إذا أمر بمعروف كان أعمل الناس به، وإذا نهى عن منكر كان أترك الناس له، مستغنياً عما في أيدي الناس، زاهداً به، والناس محتاجون إليه بما عنده .
1 ـ أسباب تأثيره في قلوب الناس:
جمع الله فيه من الفضائل والمواهب ما استطاع به أن يؤثِّر في قلوب الناس، ويرفع به قيمة الدين وأهل الدين في المجتمع، فقد كان واسع العلم غزير المادة في التفسير والحديث، ولم يكن لأحد في ذلك العصر أن ينشر دعوته ويقوم بالإصلاح، إلا إذا كان متوفراً على هذين العلمين، وقد أدرك الصحابة وعاصر كثيراً منهم، ويظهر من حياته ومواعظه أنه درس هذا العصر دراسة عميقة وأدرك روحه وعرف كيف تطور المجتمع الإسلامي، ومن أين انحرف، وكان واسع الاطلاع، دقيق الملاحظة للحياة ومختلف الطبقات وعوائدها وأخلاقها وعِللها وأدوائها، كطبيب مارس العلاج مدة .
وكان مع ذلك غاية في الفصاحة وحلاوة المنطق والتأثير في مستمعيه، يقول أبو عمرو بن العلاء: ما رأيت أفصح من الحسن البصري، والحجاج بن يوسف، والحسن أفصح منه ، وكان اية في اتساع المعلومات ووفور العلم، قال الربيع بن أنس: اختلفت إلى الحسن عشر سنين، وما من يوم إلا أسمع منه ما لم أسمع قبله. وقال محمد بن سعد: كان الحسن جامعاً عالماً رفيعاً فقيهاً، ثقة مأموناً، عابداً ناسكاً، كثير العلم، فصيحاً، جميلاً وسيماً، وقدم مكة فأجلس على سرير، واجتمع الناس إليه، وقالوا: لم نرَ مثل هذا قط، وقد وصفه ثابت بن قُرة ـ كما نقل عنه أبو حيان التوحيدي. فقال: كان من ذراري النجوم علماً وتقوى، وزهداً وورعاً، وعفة ورقَّة، وفقهاً ومعرفة، يجمع مجلسه ضروباً من الناس، هذا يأخذ عنه الحديث، وهذا يلقفُ منه التأويل ، وهذا يسمع منه الحلال والحرام، وهذا يحكي به الفتيا، وهذا يتعلم الحكم والقضاء، وهذا يسمع الوعظ، وهو في جميع ذلك كالبحر اللَّجلاج تدفقاً، وكالسِّراج الوهاج تألقاً، ولا تُنسَ مواقفه ومشاهده بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، عند الأمراء وأشباه الأمرء، بالكلام الفصل واللفظ الجزل.
وكان فوق ذلك كله ـ وهو سر تأثيره في القلوب، وسحره في النفوس، وخضوع الناس له ـ أنه كان صاحب عاطفة قوية، وروح ملتهبة، وكان من كبار المخلصين، وكان الذي يقوله يخرج من القلب فيدخل في القلب، وكان إذا ذكر الصحابة أو وصف الآخرة، أدمع العيون وحرك القلوب ، قال عنه مطر الوراق: لما ظهر الحسن جاء كأنَّما كان في الآخرة فهو يخبر عمَّا عاين . وقال عوف: ما رأيت رجلاً أعلم بطريق الجنة من الحسن. فقد كان يتذوق الإيمان، ويتكلم عن عاطفة ووجدان، لذلك كانت حلقته في البصرة أوسع الحلقات، وانجذب الناس إليه انجذاب الحديد إلى المغناطيس ـ وذلك شأن أهل القلوب والإخلاص في كل زمان ـ.
وكان من أعظم ما امتاز به هو أنَّ كلامه كان أشبه ما سمع الناس بكلام النبوة، وقال الغزالي في إحياء علوم الدين: ولقد كان الحسن البصريُّ رحمه الله أشبه الناس كلاماً بكلام الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وأقربهم هدياً من الصحابة رضي الله عنهم، اتّفقت الكلمة في حقه على ذلك.
وكانت نتيجة المواهب العظيمة والفضائل الكثيرة، أنه كان صاحب شخصية قوية جذابة حبيبة إلى النفوس، وكان الناس مأخوذين بسحرها، خاضعين لعظمتها، حتى قال ثابت بن قرّة الحكيم الحرّاني: إن الحسن من أفراد الأمة المحمدية التي تتباهى بهم على الأمم الأخرى .
وكان من أعظم أسباب تأثير الحسن البصري في المجتمع، ونفوذه في القلوب والعقول، أنه ضرب على الوتر الحساس، ونزل أعماق المجتمع، ووصف أمراضه، وانتقده انتقاد الحكيم الرفيق، والناصح الشفيق، لقد كان عصره يغُصُّ بالدعاة والوعاظ، ولكنَّ المجتمع لم يتأثر لأحد كتأثره بالحسن، لأنه كان يَمسُّ قلبه وينزل في صميم الحياة، ويعارض التيار، لأنه كان ينعى على الإخلاد إلى الحياة والانهماك في الشهوات، وقد انتشر هذا المرض في الحياة، إنه كان يذكر بالموت ويستحضر الآخرة، والمترفون يتناسون ذلك ويُعلِّلون نفوسهم بالأماني الكاذبة والأحلام اللذيذة، ويتضايقون بذكر ما يكدِّر عليهم الحياة ويُعكِّر صفو عيشهم، فكان دائماً في صراع مع الجاهلية، والجاهلية لا تخضع إلا لمن صارعها، ولا تعترف إلا بوجود الرجل الذي يحاربها، وكان الحسن البصري هو ذاك الرجل، فعظم تأثيره وكثر التائبون والمُقْلعون عن المعاصي والحياة الجاهلية التي كانوا يعيشونها، وانطلقت موجة الإصلاح قوية مؤثرة، لأن الحسن لم يقتصر على مواعظ وخطب كان يُلقيها، بل كان يُعنى بتربية من يتصل به ويجالسه. فكان جامعاً بين الدعوة والإرشاد، وبين التربية العملية والتزكية الخُلقية والروحية، فاهتدى به خلائق لا يحصيهم إلا الله، وذاقوا حلاوة الإيمان وتحلوا بحقيقة الإسلام.
2 ـ ملامح التصوف السني عند الحسن البصري:
يعتبر الحسن البصري من علماء السلوك النادرين، وممن اهتموا بأمراض النفوس وعلاجها، وإحياء القلوب وإمدادها بالإيمان والمعاني الربانية السامية، وكان رحمه الله سليم العقيدة، متقيداً بالكتاب والسنة في تعليمه وتربيته، ولا شك أن الأساس في التصوف السني هو الالتزام بالكتاب والسنة وفق منهج السلف الصالح في العقيدة والعبادة والسلوك والمعاملة، وسنرى ذلك من خلال سيرة الحسن.
ومن الأمور التي اهتم بها الحسن رحمه الله:
أ ـ قسوة القلب وموته وإحياؤه:
قال رجل للحسن: يا أبا سعيد، أشكو إليك قسوة قلبي قال: أدنه من الذكر ، وقال: إن القلوب تموت وتحيا، فإذا ماتت فاحملوها على الفرائض، فإذا هي أحييت فأتبعوه بالتطوع ، إن قسوة القلب ذمها المولى عز وجل قال تعالى: {ثُمَّ قَسَتۡ قُلُوبُكُم مِّنۢ بَعۡدِ ذَٰلِكَ فَهِيَ كَٱلۡحِجَارَةِ أَوۡ أَشَدُّ قَسۡوَةٗۚ} [سورة البقرة:74]، ثم بين وجه كونها أشد قسوة، بقوله: { وَإِنَّ مِنَ ٱلۡحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنۡهُ ٱلۡأَنۡهَٰرُۚ وَإِنَّ مِنۡهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخۡرُجُ مِنۡهُ ٱلۡمَآءُۚ وَإِنَّ مِنۡهَا لَمَا يَهۡبِطُ مِنۡ خَشۡيَةِ ٱللَّهِ } [سورة البقرة:74] . وقال رسول الله ﷺ: «ولا تكثروا الكلام بغير ذكر الله، فإن كثرة الكلام بغير ذكر الله قسوة للقلب، وإن أبعد الناس من الله القلب القاسي» .
وأما أسباب القسوة فكثيرة؛ منها: كثرة الكلام بغير ذكر الله، نقض العهد مع الله {فَبِمَا نَقۡضِهِم مِّيثَٰقَهُمۡ لَعَنَّٰهُمۡ وَجَعَلۡنَا قُلُوبَهُمۡ قَٰسِيَةٗ } [سورة المائدة:13] ، ومنها: كثرة الضحك، ومنها: كثرة الأكل لا سيما من الحرام، ومنها: كثرة الذنوب، وغيرها، وقد ذكر الكثير منها الحسن البصري في كلامه.
وأما مزيلات القسوة فمتعددة منها:
ـ كثرة ذكر الله يتواطأ عليه القلب واللسان:
قال تعالى: {ٱللَّهُ نَزَّلَ أَحۡسَنَ ٱلۡحَدِيثِ كِتَٰبٗا مُّتَشَٰبِهٗا مَّثَانِيَ تَقۡشَعِرُّ مِنۡهُ جُلُودُ ٱلَّذِينَ يَخۡشَوۡنَ رَبَّهُمۡ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمۡ وَقُلُوبُهُمۡ إِلَىٰ ذِكۡرِ ٱللَّهِ } [سورة الزمر:23] ، وقال رسول الله ﷺ: «إن هذه القلوب لتصدأ كما يصدأ الحديد»، قيل: فما جلاؤها يا رسول الله ! قال: «تلاوة كتاب الله وكثرة ذكره» .
وكان الحسن البصري رحمه الله يقول: أيها الناس إني أعظكم ولست بخيركم ولا أصلحكم وإني لكثير الإسراف على نفسي، غير محكم لها، ولا حاملها على الواجب في طاعة ربها، ولو كان المؤمن لا يعظ أخاه إلا بعد إحكام أمر نفسه لعدم الواعظون، وقل المذكرون، ولما وجد من يدعو إلى الله جل ثناؤه، ويرغب في طاعته وينهى عن معصيته، ولكن في اجتماع أهل البصائر ومذاكرة المؤمنين بعضهم بعضاً حياة لقلوب المتقين وإذكار من الغفلة، وأمن من النسيان، فالزموا عافاكم الله مجلس الذكر، فرب كلمة مسموعة، ومحتقر نافع، اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون.
وكان يقول: سبحان من أذاق قلوب العارفين من حلاوة الانقطاع إليه، ولذة الخدمة له، ما علق همهم بذكره وشغل قلوبهم عن غيره، فلا شيء ألذ عندهم من مناجاته، ولا أقر إلى أعينهم من خدمته، ولا أخف على ألسنتهم من ذكره سبحانه وتعالى مما يقول الظالمون علواً كبيراً .
وكان يقول: تفقد الحلاوة في ثلاثة أشياء: في الصلاة والقراءة والذكر، فإن وجدت ذلك فامض وأبشر، وإلا فاعلم أن بابك مغلق فعالج فتحه .
ومن أفضل الذكر العمل بالقران وتلاوته، وكان الحسن البصري يقول: من أحب أن يعلم ما هو فيه، فليعرض عمله على القران، ليتبين الخسران من الرجحان ، وكان يقول: رحم الله عبداً عرض نفسه على كتاب الله، فإن وافق أمره حمد الله وسأله المزيد، وإن خالف استعتب ورجع من قريب ، وكان يقول: أيها الناس ! إن هذا القران شفاء للمؤمنين، وإمام للمتقين فمن اهتدى به هُدي، ومن صرف عنه شقي وابتلي . وكان يقول: قراء القران ثلاثة نفر: قوم اتخذوه بضاعة يطلبون به ما عند الناس، وقوم أجادوا حروفه وضيعوا حدوده استدروا به أموال الولاة واستطالوا به على الناس ـ وقد كثر هذا الجنس من حملة القران ـ فلا كثَّر الله جمعهم ولا أبعد غيرهم، وقوم قرؤوا القران فتدبَّروا اياته وتداووا به. وأما قيام الليل فكان يقول فيه: إذا لم تقدر على قيام الليل ولا صيام
النهار فاعلم أنك محروم، قد كبلتك الخطايا والذنوب. وقال له رجل: يا أبا سعيد: أعياني قيام الليل فما أطيقه؟ فقال: يا بن أخي، استغفر الله وتب إليه، فإنها علامة سوء ، وقال: إن الرجل ليذنب الذنب فيحرم به قيام الليل .
ـ كثرة ذكر الموت:
قال رسول الله ﷺ: «أكثروا ذكر هاذم اللذات» . وقال الحسن البصري: فضح الموت الدنيا، فلم يترك فيها لذي لب فرحاً. وعن صالح بن رسم قال: سمعت الحسن يقول: رحم الله رجلاً لم يغره كثرة ما يرى من كثرة الناس، ابن ادم إنك تموت وحدك وتدخل القبر وحدك، وتبعث وحدك وتحاسب وحدك، ابن ادم وأنت المعنّى وإياك يراد. وقال الحسن: ما أكثر عبد ذكر الموت إلا رأى ذلك في عمله، ولا طال أمل عبد قط إلا أساء العمل .
وقيل: رأى الحسن شيخاً في جنازة فلما فرغ من الدفن، قال له الحسن: يا شيخ، أسألك بربك: أتظن أن هذا الميت يود أن يرد إلى الدنيا فيتزيد من عمله الصالح، ويستغفر الله من ذنوبه السالفة ؟ فقال الشيخ: اللهم نعم، فقال الحسن: فما بالنا لا نكون كهذا الميت، ثم انصرف، وهو يقول: أي موعظة ! ما أنفعها لو كان بالقلوب حياة ! ولكن لا حياة لمن تنادي .
وقال: حقيق على من عرف أن الموت مورده والقيامة موعده، والوقوف بين يدي الجبار مشهده: أن تطول في الدنيا حسرته، وفي العمل الصالح رغبته . وكان يقول: ما رأيت يقيناً لا شك فيه أصبح شكاً لا يقين فيه من يقيننا بالموت وعملنا لغيره . وكان يقول: عباد الله ! إن الله سبحانه لم يجعل لأعمالكم أجلاً دون الموت، فعليكم بالمداومة، فإنه جل ثناؤه يقول: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ *} [الحجر: 99]. وكان يقول: ابن آدم! إنك تموت وحدك، وتحاسب وحدك، ابن ادم، لو أن الناس كلهم أطاعوا الله وعصيت أنت لم تنفعك طاعتهم، ولو عصوا الله وأطعت أنت لم تضرك معصيتهم، ابن ادم: ذنبك ذنبك، فإنما هو لحمك ودمك، فإن سلمت من ذنبك سلم لك لحمك ودمك، وإن تكن الأخرى فإنما هي نار لا تطفأ وجسم لا يبلى، ونفس لا تموت. وكان يقول: لولا ثلاثة ما طأطأ ابن ادم رأسه: الموت والمرض والفقر، وإنه بعد ذلك لوثاب.
وكان الحسن إذا تلا هذه الاية: {فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلاَ يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ *} [لقمان: 33] قال: من قال ذا؟ قال: من خلقها وهو أعلم بها . وقال: إياكم شغل من الدنيا، فإن الدنيا كثيرة الاشتغال، ولا يفتح رجل على نفسه باب شغل، إلا أوشك ذلك الباب أن يفتح عليه عشرة أبواب .
ـ زيارة القبور والتفكر في حال أهلها:
قال رسول الله ﷺ: «زوروا القبور، فإنها تذكِّر الموت» ، وفي رواية: «كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها،
فإنها تذكر الآخرة» ، وكان الحسن البصري كثير الزيارة للقبور، فلما ماتت النوار بنت أعين بن ضبعية المجاشعي امرأة الفرزدق، وكانت قد أوصت أن يصلي عليها الحسن البصري، فشهدها أعيان أهل البصرة مع الحسن، والحسن على بغلته، والفرزدق على بعيره، فسار فقال الحسن للفرزدق: ماذا يقول الناس؟ قال: يقولون: شهد هذه الجنازة اليوم خير الناس ؛ يعنونك، وشر الناس ؛ يعنونني، فقال له: يا أبا فراس، لستُ بخير الناس، ولستَ أنت بشرِّ الناس، ثم قال الحسن: ما أعددت لهذا اليوم؟ قال: شهادة أن لا إله إلا الله منذ ثمانين سنة، فلما أن صلى عليها الحسن مالوا إلى قبرها، فأنشأ الفرزدق يقول:
أخافُ وراءَ القبر إن لمْ يعافِني
إذا جاءني يومَ القيامة قائدٌ
لقد خابَ مِنْ أولادِ دارٍ من مشى
يساقُ إلى نارِ الجحيمِ مُسَـرْبلاً
إذا شربُوا فيها الصديدَ رأيتَهُم
أشدَّ من القبر التهاباً وأضيقا
عنيفٌ وسوّاقٌ يسوقُ الفرزدقا
إلى النارِ مغلولَ القلادةِ أزرقا
سرابيلَ قطـرانٍ لباساً مخرَّقا
يذوبون من حرِّ الصديدِ تمزُّقَا
قال: فبكى الحسن حتى بلّ الثرى، ثم التزم الفرزدق وقال: لقد كنت من أبغض الناس إليَّ، وإنك اليوم من أحب الناس إلي .
وكان الحسن يتعظ بالمقابر ويتدبر في أحوالها، فعن عوانة قال: قال الحسن: قدم علينا بشر بن مروان ـ أخو عبد الملك بن مروان الخليفة ـ أمير المصرين، وأشب الناس، وأقام عندنا أربعين يوماً، ثم طعن في قدميه فمات، وأخرجناه إلى قبره، فلما صرنا إلى الجبان فإذا نحن بأربعة سودان يحملون صاحباً لهم إلى قبره، فوضعنا السرير فصلينا عليه، ووضعوا صاحبهم فصلوا عليه، ثم حملنا بشراً إلى قبره، وحملوا صاحبهم إلى قبره، ودفنا بشراً ودفنوا صاحبهم ثم انصرفوا وانصرفنا، ثم التفت التفاتة فلم أعرف قبر بشر من قبر الحبشي، فلم أر شيئاً قط كان أعجب منه.
وقد ذكر العلماء أموراً أخرى تزيل قسوة القلوب؛ كالإحسان إلى اليتامى والمساكين، والنظر في ديار الهالكين والاعتبار بمنازل الغابرين .
يمكنكم تحميل كتاب الدولة الأموية عوامل الازدهار وتداعيات الانهيار
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي:
الجزء الأول:
http://alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC9(1).pdf
الجزء الثاني:
http://alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC139.pdf
كما يمكنكم الاطلاع على كتب ومقالات الدكتور علي محمد الصلابي من خلال الموقع التالي:
http://alsallabi.com