من كتاب الدولة الأموية عوامل الازدهار وتداعيات الانهيار (ج2):
حث حسن البصري على الإخلاص وطاعة الله وإصلاح ذات البين والتفكر:
الحلقة: 172
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
رجب 1442 ه/ مارس 2021
ـ الإخلاص:
إن لإخلاص العمل تأثيراً عظيماً في مكارم الأخلاق، فهو يمد قلب صاحبه بقوَّة، تجعله ينهض للمكارم ابتغاء وجه الله، غير منتظر من أحد جزاءً ولا شكوراً، يشرح صدره للحلم والعفو ومعالي الأخلاق امتثالاً لأمر الله، وطلباً لرضاه والفوز بنعيم الآخرة، فهو إن أبغض فبغضه لله وهكذا في شأنه كله، قال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ *لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ *} [الأنعام: 162 ـ163].
فكان الحسن يقول: من تزيَّن للناس بما لا يعلمه الله منه شانه ذلك . وكان يقول: روي عن بعض الصالحين أنه كان يقول: أفضل الزهد إخفاء الزهد . وقيل: وعظ يوماً، فتنفس رجل الصعداء، فقال: يا بن أخي ! ما عساك أردت بما صنعت؟ إن كنت صادقاً فقد شهرت نفسك، وإن كنت كاذباً فقد أهلكتها، ولقد كان الناس يجتهدون في الخفاء وما يسمع لأحدهم صوت، ولقد كان الرجل ممن كان قبلكم يستكمل القران فلا يشعر به جاره، ولقد كان الاخر يتفقه في الدين ولا يطلع عليه صديقه، ولقد قيل لبعضهم: ما أقل التفاتك في صلاتك وأحسن خشوعك؟ فقال: يا بن أخي وما يدريك أين كان قلبي ؟! وكان يقول: نظر رجاء بن حيوة إلى رجل يتناعس بعد الصبح، فقال: انتبه عافاك الله لا يظن ظان أن ذلك عن سهر وصلاة فيحبط عملك .
وقال الحسن: ولقد حُدثت أن رجلاً مر برجل يقرأ: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَانُ وُدًّا*} [مريم: 96]. فقال: والله لأعبدن الله عبادة أُذكَر بها في الدنيا ، فلزم الصلاة واعتكف على الصيام حتى كان لا يفطر ولا يرى إلا مصلياً وذاكراً، وكلما مر على قوم قالوا: ألا ترون هذا المرائي ما أكثر رياءه، فأقبل على نفسه وقال: ثكلتكِ أمك لا أراك تذكري إلا بِشرٍّ ولا أراك أُصِبتِ إلا بفساد نيتكِ وفساد معتقدكِ، وأنك لم تردي الله بعملك، ثم بقي على عمله لم يزد عليه شيئاً إلا أن نيته انقلبت ، فتغير الحال ووضع الله له القبول ـ ولا يمر بقوم إلا قالوا: يرحم الله هذا، ثم يقولون: الآن الآن.
وكان الحسن يقول: أخلصوا لله أعمالكم ، وكان يقول: ابن ادم تلبس لُبسة العابدين، وتفعل أفعال الفاسقين، وتخبت إخبات المريدين، وتنظر نظر المغترين، ويحك! ما هذه خصال المخلصين، إنك تقوم يوم القيامة بين يدي من يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ، وكان يقول: روي أن سعيد بن جبير رأى رجلاً متماوتاً في العبادة، فقال: يا بن أخي ! إن الإسلام حيّ فأحيه ولا تمته أماتك الله ولا أحياك، وكان يقول: من ذم نفسه في الملأ فقد مدحها وبئس ما صنع .
ـ الحث على طاعة الله:
قال تعالى: {يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَأُوْلِي ٱلۡأَمۡرِ مِنكُمۡۖ فَإِن تَنَٰزَعۡتُمۡ فِي شَيۡءٖ فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ إِن كُنتُمۡ تُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِۚ ذَٰلِكَ خَيۡرٞ وَأَحۡسَنُ تَأۡوِيلًا ٥٩} [سورة النساء:59] ، وقال تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ *} [الشورى: 10]. وكان الحسن يقول في قول الله وجل: {وَٱلَّذِينَ يُؤۡتُونَ مَآ ءَاتَواْ } [سورة المؤمنون:60] قال: يعطون أعطوا {وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} قال: يعملون عملوا من أعمال البر وهم يخشون أن لا ينجيهم من عذاب ربهم عز وجل. وعنه أنه قال: إذا نظر إليك الشيطان فراك مداوماً في طاعة الله فبغاك وبغاك ـ أي: طلبك مرة بعد مرة ـ فراك مداوماً وملّك ورفضك، وإذا كنت مرة هكذا ومرة هكذا طمع فيك . وعن الحسن قال: قال هرم بن حيان: ما رأيت مثل النار نام هاربها، ولا مثل الجنة نام طالبها .
ومن القصص التي حدثت للحسن: لما ولي عمر بن هبيرة العراق أرسل إلى الحسن وإلى الشعبي فأمر لهما ببيت، وكانا فيه شهراً ـ أو نحوه ـ ثم إن الخادم غدا ذات يوم فقال: إن الأمير دخل عليكما، فجاء عمر يتوكأ على عصا له، فسلم ثم جلس معظماً لهما، فقال: إن أمير المؤمنين يزيد بن عبد الملك ينفذ كتاباً أعرف أن في إنفاذهِ الهلكة، فإن أطعته عصيت الله، وإن عصيته أطعت الله عز وجل، فهل تريا لي في متابعتي إياه فرجاً؟ فتكلم الشعبي فانحط في حبل ابن هبيرة، فقال: ما تقول أنت يا أبا سعيد ؟ فقال: أيها الأمير، قد قال الشعبي ما قد سمعت، قال: ما تقول أنت يا أبا سعيد؟ فقال: أقول: يا عمر بن هبيرة يوشك أن ينزل بك ملك من ملائكة الله تعالى فظ غليظ لا يعصي الله ما أمره، فيخرجك من سعة قصرك إلى ضيق قبرك، يا عمر بن هبيرة ! إن تتق الله يعصمك من يزيد بن عبد الملك، ولا يعصمك يزيد بن عبد الملك من الله عز وجل، يا عمر بن هبيرة ! لا تأمن أن ينظر الله إليك على أقبح ما تعمل في طاعة يزيد بن عبد الملك، نظر تمقت فيغلق بها باب المغفرة دونك، يا عمر بن هبيرة ! لقد أدركت ناساً من صدر هذه الأمة كانوا والله على الدنيا وهي مقبلة أشد إدباراً من إقبالكم عليها وهي مدبرة، يا عمر بن هبيرة ! إني أخوفك مقاماً خوفكه الله تعالى فقال: {ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ }، يا عمر بن هبيرة ! إن تك مع الله تعالى في طاعته كفاك بائقة يزيد بن عبد الملك، وإن تك مع يزيد بن عبد الملك على معاصي الله وكلك الله إليه.
قال: فبكى عمر وقام بعبرته، فلما كان من الغد أرسل إليهما بإذنهما وجوائزهما، وكثر منه ما للحسن، وكان في جائزته للشعبي بعض الإقتار، فخرج الشعبي إلى المسجد، فقال: يا أيها الناس ! من استطاع منكم أن يؤثر الله تعالى على خلقه فليفعل، فوالذي نفسي بيده ما علم الحسن منه شيئاً فجهلته، ولكن أردت وجد ابن هبيرة، فأقصاني الله منه . وقال الحسن: لا تخالفوا الله عن أمره، فإن خلافاً عن أمره عمران دار قد قضى الله عليها بالخراب. وقال الحسن في قوله عز وجل: قال: المتوجه بقلبه وعمله إلى الله {فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُورًا *} وجل. وكان يقول: رحم الله امرأً كان قوياً فأعمل قوته في طاعة الله، أو كان ضعيفاً فكفَّ عن معاصي الله.
ـ الاعتبار والتفكر:
قال تعالى: {إِنَّ فِي خَلۡقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَٱخۡتِلَٰفِ ٱلَّيۡلِ وَٱلنَّهَارِ لَأٓيَٰتٖ لِّأُوْلِي ٱلۡأَلۡبَٰبِ ١٩٠} [سورة آل عمران:190] وقال تعالى: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ *} [الذاريات: 21] . فالتأمل والتفكر في الكون والنفس وآيات الله المنظورة داعٍ قوي ، لما في هذه الموجدات من عظمة الله الخالق الدالة على قدرة خالقها وعظمته، وما فيها: من الحسن والانتظام والإحكام الذي يحيِّر الألباب، الدال على سعة علم الله، وشمول حكمته، وما فيها من أصناف المنافع والنعم الكثيرة التي لا تعد ولا تحصى، الدالة على سعة رحمة الله، وجوده وبره، وذلك يدعو إلى تعظيم مبدعها وبارئها وشكره واللهج بذكره، وإخلاص الدين له وهذا هو روح الإيمان وسره ، فعبادة التفكر والاعتبار دعا إليهما الحسن البصري وحث الناس عليها، فقال رحمه الله: إن من أفضل العمل الورع والتفكر، وقال: من عرف ربه أحبه، ومن أبصر الدنيا زهد فيها، والمؤمن لا يلهو حتى يغفل، وإذا فكر حزن. وكان يقول: رحم الله امرأً نظر ففكر، وفكر فاعتبر، واعتبر فأبصر وأبصر فصبر، لقد أبصر أقوام ثم لم يصبروا، فذهب الجزع بقلوبهم، فلم يدركوا ما طلبوا ولا رجعوا إلى ما فارقوا، فخسروا الدنيا والآخرة، وذلك هو الخسران المبين، وقال: تفكر ساعة خير من قيام ليلة وكان يقول: الفكرة مراة تريك حسناتك من سيئتك، فمن اعتمد عليها أفلح، ومن أغفلها افتتضح .
يمكنكم تحميل كتاب الدولة الأموية عوامل الازدهار وتداعيات الانهيار
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي:
الجزء الأول:
http://alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC9(1).pdf
الجزء الثاني:
http://alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC139.pdf
كما يمكنكم الاطلاع على كتب ومقالات الدكتور علي محمد الصلابي من خلال الموقع التالي:
http://alsallabi.com