من كتاب الدولة الأموية عوامل الازدهار وتداعيات الانهيار (ج2):
(من أسباب نجاح مشروع عمر بن عبد العزيز الإصلاحي)
الحلقة: 194
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
شعبان 1442 ه/ أبريل 2021
كانت هناك عوامل متعددة ساهمت في نجاح مشروعه الإصلاحي؛ منها:
1 ـ صفاته الشخصية؛ من العلم والورع والخشية والزهد والتواضع والحلم والصفح والعفو والحزم والعدل، مع قدرات إدارية كبيرة في فن التخطيط والتنظيم والقيادة والتوجيه ومعرفة الناس.
2 ـ امتلاكه لرؤية إصلاحية تجديدية واضحة المعالم، هدفها الرجوع بالدولة والأمة لمنهج الخلافة الراشدة على منهاج النبوة.
3 ـ التفاف الأمة حول هذا المشروع عندما لمست صدق المشرف عليه وإخلاصه.
4 ـ وجود كوكبة من العلماء الربانيين في عهده كانوا مؤهلين لقيادة الدولة والأمة، فلما جاءت الفرصة بوصول عمر بن عبد العزيز للحكم وأتاح لهم المجال؛ أبدعوا وأثبتوا جدارتهم فيما أسند لهم من مهام كبرى، وهذا درس مهم في أهمية تكامل العلم الشرعي، والأمانة والتقوى مع القدرات القيادية في شخصية العلماء الربانيين، فذلك يساعدهم على تحكيم شرع الله من خلال مناصب الدولة وقيادة الجماهير والتفاهم حول المشروع الإسلامي الكبير.
5 ـ الحرص على تحكيم الشرع في كل صغيرة وكبيرة، على مستوى الدولة والأمة، فيأتي بذلك التوفيق الرباني، قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ}[الأعراف: 96]
ـ أثر الالتزام بأحكام القرآن والسنة الشريفة على دولة عمر بن عبد العزيز رحمه الله:
إن التأمل في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وفي حياة الأمم والشعوب؛ تعطي العبد معرفة أصيلة بأثر سنن الله في الأنفس والكون والآفاق، وأوضح مكان لسنن الله وقوانينه كتاب الله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}[النساء:26 ].
وسنن الله تتضح بالدراسة فيما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمطالعة في سنته صلى الله عليه وسلم، فقد كان يقتنص الفرص والأحداث ليدل أصحابه على شيء من السنن، ومن ذلك أن ناقته صلى الله عليه وسلم (العضباء) كانت لا تسبق، فحدث مرة أن سبقها أعرابي على قعود له، فشق ذلك على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لهم صلى الله عليه وسلم كاشفاً عن سنة من سنن الله: «حق على الله أن لا يرتفع شيء من الدنيا إلا وضعه». وقد أرشدنا كتاب الله إلى تتبع آثار السنن في الأمكنة بالسعي والسير، وفي الأزمنة من التاريخ والسير؛ قال تعالى:{الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ * هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ}[آل عمران: 137 ـ 138]، وأرشدنا القرآن الكريم إلى معرفة السنن بالنظر والتفكر؛ قال تعالى: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيات وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لاَ يُؤْمِنُونَ * فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ}[يونس: 101 ـ 102].
من خصائص السنن الإلهية:
1 ـ أنها قدر سابق:
قال تعالى: {مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا} [الأحزاب: 38] أي: أن حكم الله تعالى وأمره الذي يقدره كائن لا محالة وواقع لا حيد عنه، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن.
2 ـ أنها لا تتحول ولا تتبدل:
قال تعالى: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلاَّ قَلِيلاً * مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً * سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً}[الأحزاب: 60 ـ 62].
وقال تعالى: {وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الأَدْبَارَ ثُمَّ لاَ يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا * سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً}[الفتح: 22 ـ 23].
3 ـ أنها ماضية لا تتوقف:
قال تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ}[الأنفال:38]
4 ـ أنها لا تخالف ولا تنفع مخالفتها:
قال تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ * فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ * فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ}[غافر:82 ـ 85].
5 ـ أنها لا ينتفع بها المعاندون، ولكن يتَّعظ بها المتقون:
قال تعالى: {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ * هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ}[آل عمران: 137 ـ 138].
6 ـ أنها تسري على البر والفاجر:
فالمؤمنون ـ والأنبياء أعلاهم قدراً ـ تسري عليهم سنن الله، ولله سنن جارية تتعلق بالآثار المترتبة على من امتثل شرع الله أو أعرض عنه.
وللحكم بما أنزل الله آثار دنيوية وأخرى أخروية:
أما الآثار الدنيوية التي ظهرت في دولة عمر بن عبد العزيز فهي:
1 ـ الاستخلاف والتمكين:
حيث نجد أن عمر بن عبد العزيز ـ رحمه الله ـ مكن الله له في الأرض تمكيناً عظيماً بسبب حرصه على إقامة شرع الله تعالى في نفسه وأهله ومن حوله، وقومه وأمته، وأخلص لله في مشروعه الإصلاحي الراشدي، فأيده الله عز وجل وشد أزره، فقد أخذ بشروط التمكين وعمل بها؛ فتحقق له وعد الله، قال تعالى:. وهذه سنة ربانية نافذة {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا}[النور: 55] تتبدل في الشعوب والأمم التي تسعى جاهدة وجادة لإقامة شرع الله.
2 ـ الأمن والاستقرار:
كانت الثورات في العهد الأموي على أشدها ضد النظام السائد، وخصوصاً من الخوارج، إلا أنَّ عمر بن عبد العزيز استطاع بالحوار والنقاش أن يقنع الكثير منهم، ولقد تميز عهده بالأمن والاستقرار بسبب عدله في الحكم ورفعه للمظالم، واحترامه الكبير لكل شرائح المجتمع، وحرصه على تطبيق الشريعة في كافة شؤون الحياة؛ قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ }[الأنعام:82 ].
3 ـ النصر والفتح المبين:
إن عمر بن عبد العزيز حرص على نصرة دين الله بكل ما يملك، وتحققت فيه سنة الله في نصرته لمن ينصره، لأن الله ضمن لمن استقام على شرعه أن ينصره على أعدائه بعزته وقوته، قال تعالى: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [الحج: 40 ـ 41]؛ فقد وعد الله من ينصره؛ هو نصر كتابه ودينه ورسوله، لا نصر من يحكم بغير ما أنزل الله ولا يتكلم بما لا يعلم. كما نرى في حياتنا المعاصرة.
4 ـ العز والشرف:
إن الشرف الكبير والعز العظيم الذي سطر في كتب التاريخ عن أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز بسبب تمسكه بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وإن من يعتز بالانتساب لكتاب الله الذي به تشرف الأمة ويعلو ذكرها وضع رجله على الطريق الصحيح، وأصاب سنة الله الجارية في إعزاز وتشريف من يتمسك بكتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ قال تعالى: {لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ}[الأنبياء: 10]، قال ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ في تفسيره هذه الآية: فيه شرفكم. فهذه الأمة لا تستمد الشرف والعزة إلا من استمساكها بأحكام الإسلام.
5 ـ بركة العيش ورغد الحياة في عهده:
قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}[الأعراف:96].
إن إقامة شرع الله تعالى وتطبيق أحكامه يجلب للأمة بركات مادية ومعنوية، فمن حقق الإيمان والتقوى يكرمه الله بهذا العطاء الرباني الكبير. والبركات التي يعد الله بها الذين يؤمنون ويتقون في توكيد ويقين، ألوان شتى، لا يفصلها النص ولا يحددها، وإيماء النص القرآني يصور الفيض الهابط من كل مكان، النابع من كل مكان بلا تحديد ولا تفصيل ولا بيان؛ فهي البركات بكل أنواعها وألوانها، وبكل صورها وأشكالها، وما يعهده الناس وما يتخيلونه، وما لم يتهيأ لهم في واقع الخيال.
ولقد لامس الناس وشاهدوا هذه البركات في عهد عمر بن عبد العزيز؛ سواء كانت مادية أو معنوية، وفوجئ الناس أن بركة العيش ورغد الحياة قد عم جميع الناس، ومالية الدولة قويت، واطمأن الناس في كل رقعة من رقع خلافة الدولة الأموية الواسعة، حتى عز وجود من يستحق الزكاة ويقبلها، وأصبحت هذه مشكلة للأغنياء وأصحاب الأموال تطلب حلاً سريعاً، قال يحيى بن سعيد: بعثني عمر بن عبد العزيز على صدقات إفريقية فاقتضيتها، وطلبت فقراء نعطيها لهم فلم نجد بها فقيراً، ولم نجد من يأخذها مني، قد أغنى عمر بن عبد العزيز الناس، فاشتريت بها رقاباً، فأعتقتهم وولاؤهم للمسلمين.
وقال رجل من ولد زيد بن الخطاب: إنما ولي عمر بن عبد العزيز سنتين ونصف، فذلك ثلاثون شهراً، فما مات حتى جعل الرجل يأتينا بالمال العظيم، فيقول: اجعلوا هذا حيث ترون في الفقراء، فما يبرح بماله يتذكر من يضعه فيهم فما يجده فيرجع بماله، قد أغنى عمر بن عبد العزيز الناس. فهذه الفوائد العامة من بركات الحكومة الإسلامية التي تطبق شرع الله تعالى.
6 ـ انتشار الفضائل وانزواء الرذائل:
بين الشريعة وبين الخلق أوثق الرباط وأمتن العرى، كيف لا، والرسالة من غاياتها العظمى: تزكية الأخلاق وتربية الفضائل؛ قال تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آياتهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ}[آل عمران: 164]. فمعنى يزكيهم: أي يأمرهم، وينهاهم عن المنكر لتزكو نفوسهم وتطهر من الدنس والخبث الذي كانوا متلبسين به حال شركهم وجاهليتهم.
ولقد اهتم عمر بن عبد العزيز بنشر الفضائل، وحارب الرذائل وتحركت معه مدرسة الوعظ والإرشاد والتزكية والتربية، والتي كان من روادها الحسن البصري، وأيوب السختياني، ومالك بن دينار وغيرهم، وقد حققت هذه المدرسة نتائج باهرة في نشر الفضائل وانزواء الرذائل.
وقد حدث في عهد عمر بن عبد العزيز تجديد كبير في توجه الأمة والمجتمع الإسلامي والتطور في الأذواق والأخلاق والميول والرغبات في هذه المدة القصيرة؛ فقد حدَّث الطبري في تاريخه: كان الوليد صاحب بناء واتخاذ المصانع والضياع، وكان الناس يلتقون في زمانه فإنما يسأل بعضهم بعضاً عن البناء والمصانع، فولي سليمان فكان صاحب نكاح وطعام، فكان الناس يسأل بعضهم بعضاً عن التزويج والجواري، فلما ولي عمر بن عبد العزيز كانوا يلتقون فيقول الرجل للرجل: ما وراءك الليلة؟ وكم تحفظ من القرآن؟ ومتى تختم؟ ومتى ختمت؟ وما تصوم من الشهر؟
7 ـ الهداية والتثبيت:
جاء عن عمر بن عبد العزيز في خطابه الذي أرسل ليقرأ على الحجاج في موسم الحج:... ولولا أن أشغلكم عن مناسككم لرسمت لكم أموراً من الحق أحياها الله لكم، وأموراً من الباطل أماتها الله عنكم، وكان الله هو المتوحد بذلك؛ فلا تحمدوا غيره، فإنه لو وكلني إلى نفسي كنت كغيري والسلام عليكم.
ولا شك أن عمر بن عبد العزيز حرص على تحكيم شرع الله في دولته وبذلك منحه الله نعمة عظيمة؛ ألا وهي الهداية والتثبيت على الحق، قال تعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65]. ثم قال سبحانه وتعالى بعدها: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا * وَإِذًا لآَتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا * وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا}[النساء: 66 ـ 68]، والأمر الذي وعظوا به ووعدوا الخير لأجله: هو تحكيم الشريعة والانقياد للرسول صلى الله عليه وسلم، فلو أنهم امتثلوا لما أمروا لثبت الله أقدامهم على الحق فلا يضطربون في دينهم، ولآتاهم الهداية التي لا عوج فيها بحيث توصلهم إلى الأجر العظيم.
إن الهداية والثبات على الأمر، هبة يهبها الله لمن تمخض قلبه لأمره، وانقادت جوارحه لحكمه.
إن خلافة عمر بن عبد العزيز حجة تاريخية على من لا يزال يردد ترديد الببغاء للكلمات والأصوات القائلة: إن الدولة التي تقوم على الأحكام الإسلامية والشريعة عرضة للمشاكل والأزمات، وعرضة للانهيار في كل ساعة، وأنها ليست إلا حلماً من الأحلام، ولا يزال التاريخ يتحدى هؤلاء ويقول لهم: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}[البقرة: 111]
ومما أدهشني في دراستي التاريخية تواصل الأجيال الإسلامية فيما بينها عبر حلقات متماسكة تؤثر بعضها في بعض؛ فالسلطان نور الدين زنكي، المتوفى (568 هـ) كتب له الشيخ العلامة أبو حفص معين الدين عمر بن محمد بن خضر الإربلي سيرة عمر بن عبد العزيز لكي يسير نور الدين على منهاجها، ولقد آتت معالم الإصلاح والتجديد الراشدي في عهد عمر بن عبد العزيز ثمارها في الدولة الزنكية عندما وجدت العالم الكبير الذي رسم ملامح المشروع الإصلاحي وهو الشيخ أبو حفص معين الدين، واقتنع القائد العسكري والزعيم السياسي بسلامة المنهج وهو نور الدين زنكي، فقد قال أبو حفص في مقدمة كتابه ـ عن عمر بن عبد العزيز وتقديمه ذلك الكتاب لنور الدين:
«... علماً منه أن الاقتداء عن سلف الفضلاء والعقلاء يكمل الأجر ويبقي الذكر، واتباع سنن المهديين الراشدين يصلح السريرة ويحسن السيرة، وأن الله سبحانه وتعالى أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بالاقتداء بسلفه من الأنبياء؛ فقال عز من قائل: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ}[الأنعام: 90 ]، وقال تعالى: {وَكُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ}[هود: 120 ].
فلذلك اشتد حرصه ـ أدام الله سعادته ـ على جمع السير الصالحة والآثار الواضحة، فحينئذ رأيت حقاً عليّ بذل الوسع في مساعدته واستنفاذ القوة في معاضدته بحكم صدق الولاء وأكيد الإخاء، فصرفت وجه همتي إلى جمع سيرة السعيد الرشيد عمر بن عبد العزيز ـ رضي الله عنه ـ، والتجأت إلى الله الكريم جل اسمه أن يحسن معونتي ويُيسِّر ما صرفت إليه عزيمتي، فحين شرح الله صدري لذلك، ولاحت أمارات المعونة، بادرت إلى جمع هذه السيرة برسم خزانته المعمورة، معاونة على البر والتقوى».
لقد قدم هذا الشيخ الجليل منهاجاً علمياً لنور الدين زنكي من خلال سيرة عمر بن عبد العزيز، فبنى دولة العقيدة. وحكم الشريعة، وأقام العدل ورفع الضرائب والمكوس عن الأمة، وعمل على إحياء السنة وقمع البدعة، وعمق هوية الأمة، وفجر روح الجهاد فيها ونشر العلم، وساهم في تحقيق الازدهار والرخاء، وكان نسيج وحده في زهده وورعه وعبادته وصدقه وإخلاصه، ومن أراد التوسع فليراجع الجهاد والتجديد في القرن السادس الهجري، عهد نور الدين وصلاح الدين، لمحمد حامد الناصر.
إن آثار تحكيم شرع الله في الشعوب التي نفذت أوامر الله ونواهيه ظاهرة بينة لدارس التاريخ، وإن تلك الآثار الطيبة التي أصابت دولة عمر بن عبد العزيز، ودولة نور الدين زنكي ودولة يوسف بن تاشفين ودولة محمد الفاتح؛ لهي سنن من سنن الله الجارية والماضية والتي لا تتبدل ولا تتغير، فأي قيادة مسلمة تسعى لهذا المطلب الجليل والعمل العظيم مخلصة لله في قصدها، مستوعبة لسنن الله في الأرض؛ فإنها تصل إليه ولو بعد حين، وترى آثار ذلك التحكيم على أفرادها ومجتمعاتها ودولها وحكامها.
إن الغرض من الأبحاث التاريخية الإسلامية الاستفادة الجادة من أولئك الذين سبقونا بالإيمان في جهادهم وعلمهم وتربيتهم، وسعيهم الدؤوب لتحكيم شرع الله، وأخذهم بسنن الله وفقهه، ومراعاة التدرج والمرحلية والارتقاء بالشعوب نحو الكمالات الإسلامية المنشودة، إن التوفيقات الربانية العظيمة في تاريخ أمتنا يجريها الله تعالى على يدي من أخلص لربه ودينه، وأقام شرعه وقصد رضاه وجعله فوق كل اعتبار.
يمكنكم تحميل كتاب الدولة الأموية عوامل الازدهار وتداعيات الانهيار
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي:
الجزء الأول:
http://alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC9(1).pdf
الجزء الثاني:
http://alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC139.pdf
كما يمكنكم الاطلاع على كتب ومقالات الدكتور علي محمد الصلابي من خلال الموقع التالي:
http://alsallabi.com