العلماء في عهد هشام بن عبد الملك
من كتاب الدولة الأموية عوامل الازدهار وتداعيات الانهيار (ج2):
الحلقة: 205
بقلم: د. علي محمد الصلابي
رمضان 1442 ه/ إبريل 2021
عندما تولى هشام بن عبد الملك حاول تقريب بعض العلماء والاستفادة منهم، ولكن إلى حد ما، ومن أشهر هؤلاء: العالم الجليل محمد بن مسلـم الزهري، والإمام الأوزاعي وأبو الزناد وغيرهم، وكان تأثير هؤلاء العلماء في اتخاذ القرار في بعض الجوانب، وبطريق غير مباشر من خلال تأثير قربهم من الخليفـة وأسرته ـ لا سيما الزهري ـ على سلوك هشام وسيرته، وسيأتي الحديث عن ذلك عند ترجمة الإمام الزهري بإذن الله تعالى.
ولعل الذي حدَّ من تأثير العلماء في توجيه القرار في عهد هشام ـ مقارنة بتأثيرهم في عهد عمر بن عبد العزيز ـ هو محاولة هشام أن يمسك العصا من الوسط، فحاول أن يسير وسطاً بين سياسة عمر بن عبد العزيز الإسلامية الخالصة وسياسة الملك، ووسطاً بين عصبية القبائل القيسية واليمانية، وهذا ما دعا الذهبي حين وصف سياسته أن يقول فيه:... فيه ظلم مع عدل.
وكان العلماء ينصحون هشاماً ويتحدثون معه، وإليك بعض هذه المواقف:
1 ـ عطاء بن أبي رباح ينصح هشاماً:
دخل عطاء بن أبي رباح مجلس هشام بن عبد الملك وعنده أشراف الناس يتحدثون، فسكتوا، فقال له هشام: ما حاجتك يا أبا محمد؟ قال: يا أمير المؤمنين أهل الحرمين أهل الله، وجيران رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيهم أعطياتهم وأرزاقهم لسنة. ثم قال: هل من حاجة غيرها يا أبا محمد؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، أهل الحجاز وأهل نجد أصل العرب وقيادة الإسلام ترد فيهم فضول صدقاتهم. قال: نعم، اكتب يا غلام بأن ترد فيهم فضول صدقاتهم. هل من حاجة غيرها يا أبا محمد؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين: أهل الثغور يرمون من وراء بيضتكم، ويقاتلون عدوكم قد أجريتم لهم أرزاقاً تدرها عليهم، فإنهم إن يهلكوا غزيتم، قال: نعم، اكتب أرزاقهم إليهم يا غلام. هل من حاجة غيرها يا أبا محمد؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين أهل ذمتكم لا تجيب صغارهم وتتعتع كبارهم، ولا يكلفون ما لا يطيقون، فإنما تجبونه معونة لكم على عدوكم، قال: نعم، اكتب يا غلام بأن لا يحملوا ما لا يطيقون. هل من حاجة غيرها؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، اتق الله في نفسك. وجاء في رواية: اتق الله في نفسك، فإنك وحدك،
وتموت وحدك، وتحشر وحدك، وتحاسب وحدك، لا والله ما معك ممن ترى أحد.
2 ـ خالد بن صفوان مع هشام:
روي أن خالد بن صفوان بن الأهتم قدم على هشام بن عبد الملك وقد خرج متبدياً بأهله وقرابته وحشمه وخدمه، وذلك في وقت الربيع حيث أخذت الأرض زخرفها، وازَّينت بألوان النبات، وتعطر الجو بروائح الزهور الزكية، وضرب له معسكر فرش بأفخر الفرش، وأخذ الناس فيه مجالسهم، فأخذ خالد بن صفوان ينظر هنا وهناك، فنظر إليه هشام نظر المستنطق له، فقال خالد: أتم الله عليك يا أمير المؤمنين نعمة سوغكها لشكره، وجعل ما قلدك من هذا الأمر رشداً، وعاقبة ما تؤول إليه حمداً، أخلصه لك بالتقى، وكثره لديك بالنماء، لا كدر عليك منه ما صفى، ولا خالط سروره الردى، فقد أصبحت للمسلمين ثقةً وملجأ؛ إليك يفزعون في مظالمهم، وإليك يلجؤون في أمورهم، وما أجد يا أمير المؤمنين ـ جعلني الله فداك ـ شيئاً هو أبلغ في قضاء حقك وتوقير مجلسك، من أن أذكرك نعمة الله عندك، فأنبهك إلى شكرها، وما أجد لذلك شيئاً هو أبلغ من حديث من تقدم قبلك من الملوك، فإن أذن أمير المؤمنين أخبرته.
وكان هشام متكئاً فاستوى قاعداً فقال: هات يا بن الأهتم، فذكر ابن الأهتم قصة أحد الملوك الذين خرجوا إلى البرية في عام يشبه عام خروج هشام حيث الربيع، فقال لجلسائه: هل رأيتم مثلما أنا فيه؟ وعنده رجل من بقايا حملة الحجة والمضي على أدب الحق ومناهجه، فقال له: أيها الملك! إنك سألت عن أمر أفتأدب في الجواب؟ قال: نعم، قال: أرأيت ما أعجبت به؟ أهو شيء لم تزل فيه أم هو شيء صار إليك ميراثاً من غيرك، وهو زائل عنك وصائر إلى غيرك كما صار إليك؟ قال الملك: فكذلك هو، قال: أفلا أراك إنما أعجبت بشيء يسير تكون فيه قليلاً، وتغيب عنه طويلاً، وتكون غداً بحسابه مرتهناً؟ قال: ويحك! فأين المهرب؟ وأين المطلب؟ قال: إما أن تقيم في ملكك فتعمل بطاعة ربك على ما ساءك أو سرك، وإما أن تضع تاجك وتضع أطمارك وتلبس أمساحك وتعبد ربك حتى يأتيك أجلك.
وتذكر القصة أن الملك اختار الطريق الثاني، فترك الملك وانقطع مع هذا الناصح للعبادة بقية حياته، وقد تأثر هشام حتى إنه أمر بمعسكره فنقض، وعاد ومن معه إلى قصره، فاجتمع من كان مع هشام على خالد بن صفوان فقالوا له:ما أردت بأمير المؤمنين؟! نغصت عليه لذاته، وأفسدت عليه باديته، فقال لهم: إليكم عني! فإني عاهدت الله عز وجل ألا أخلو بملك إلا ذكرته الله عز وجل.
3 ـ سالم بن عبد الله بن عمر مع هشام بن عبد الملك:
دخل هشام الكعبة، فإذا هو بسالم بن عبد الله، فقال: سَلْني حاجة، قال: إنّي أستحيي من الله أن أسأل في بيته غيره، فلمّا خرجا قال: الآن فسلني حاجة. فقال له سالم: من حوائج الدنيا أم من حوائج الآخرة؟ فقال: من حوائج الدنيا، قال: والله ما سألت الدنيا من يملكها؛ فكيف أسألها من لا يملكها؟!.
يمكنكم تحميل كتاب الدولة الأموية عوامل الازدهار وتداعيات الانهيار
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي:
الجزء الأول:
http://alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC9(1).pdf
الجزء الثاني:
http://alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC139.pdf
كما يمكنكم الاطلاع على كتب ومقالات الدكتور علي محمد الصلابي من خلال الموقع التالي:
http://alsallabi.com