الجمعة

1446-11-04

|

2025-5-2

من كتاب الدولة الأموية عوامل الازدهار وتداعيات الانهيار (ج2):

(من حياة هشام بن عبد الملك الاجتماعية)

الحلقة: 203

بقلم الدكتور علي محمد الصلابي

شعبان 1442 ه/ إبريل 2021

1 ـ علاقتـه بالرعيـة:
كان هشام يضع الرقباء والعيون من خيار الناس على ولاته وعماله ليتأكد من سيرهم بالعدل، وقضائهم حوائج الخلق، ولا يكتفي بذلك، بل يتعرض للناس بنفسه يسأل عن أحوالهم ويحرضهم على المطالبة بحقوقهم، وكان له موضع بالرصافة أفيح من الأرض يبرز فيه، فتضرب له به السرادقات: فيكون فيه ستين ليلة بارزاً للناس، مباحاً للخلق، لا يفني أيامه تلك إلا برد المظالم والأخذ على يد الظالم من جميع الناس وأطراف البلاد، ويصل إلى مخاطبته في ذلك الموضع راعي السوائم والأمة السوداء فمن دونهما، وقد وكل رجالاً أدباء عقلاء بإدناء الضعفاء والنساء واليتامى منه، ويستقبل وفود الأمصار فيلبي حاجاتهم، ويخرج مع مستشاريه يصنع لهم الطعام بنفسه، فيأكل منه، ويأكل معه الناس، وإن نشبت بينه وبين أحد من أشراف رعيته خصومة لم يجد سبيلاً لقضائها إلا أن يمثل بنفسه أمام القضاء مع خصمه ويلزم أهل بيته بذلك، حتى لو كان خصم أحدهم نصرانياً، ولما استطال مرة على أحد رعيته لم يجد مفراً من إرضائه بكل سبيل، فقد شتم هشام مرة رجلاً من الأشراف، فوبخه ذلك الرجل، وقال: أما تستحيي أن تشتمني وأنت خليفة الله في الأرض؟ فاستحيى منه، وقال: اقتص مني، فقال: إذن أنا سفيه مثلك، قال: فخذ عوضاً من المال، قال: ما كنت لأفعل، قال: فهبها لله، قال: هي لله، ثم لك، فنكس هشام رأسه واستحيى وقال: والله لا أعود إلى مثلها أبداً.
2 ـ مع وفود الأعراب:
في أيام هشام قحطت البادية فقدمت عليه العرب، فهابوا أن يكلموه، وكان فيهم درواس بن حبيب، وهو ابن ست عشرة سنة، له ذؤابة، وعليه شملتان. فوقعت عليه عين هشام فقال لحاجبه: من أراد أن يدخل عليّ فليدخل، فدخل حتى الصبيان، فوثب درواس حتى وقف بين يديه مطرقاً، فقال: يا أمير المؤمنين، إن للكلام طيّاً ونشراً، وإنه لا يعرف ما في طيه إلا بنشره، فإن أذن لي أمير المؤمنين أن أنشره نشرته، فأعجبه كلامه وقال: انشره لله درك. فقال: يا أمير المؤمنين، إنه أصابتنا سنون ثلاث، سنة أذابت الشحم، وسنة أكلت اللحم، وسنة أدقت العظم، وفي أيديكم فضول مال، فإن كانت لله ففرقوها على عباده، وإن كانت لهم، فلا تحبسوها عنهم، وإن كانت لكم فتصدقوا بها عليهم، فإن الله يجزي المتصدقين، فقال هشام: ما ترك لنا الغلام واحدة من الثلاث عذراً، فأمر للبوادي بمئة ألف دينار، وله بمئة ألف درهم، ثم قال له: أما لك حاجة؟ قال: ما لي حاجة في نفسي دون عامة المسلمين.
وكان هشام لا يدخل بيت ماله مالاً حتى يشهد أربعون رجلاً أنه أخذ من حقه. ولقد أعطى لكل ذي حقٍّ حقه، ويقال: إنه جمع من الأموال ما لم يجمعه خليفة قبله.
3 ـ حظي منه عقله لا وجهه:
كان هشام يقرب منه الأذكياء أصحاب الحكمة والعقل الراجح، ذلك أنه لما أتته الخلافة سجد لله شكراً، فلما رفع رأسه وجد الأبرش الكلبي واقفاً فقال: ما لك لم تسجد معي؟ فقال: يا أمير المؤمنين، رأيتك وقد رفعت إلى السماء، وأنا مخلد إلى الأرض. فقال: أرأيتك إن رفعتك معي أتسجد؟ فقال: الآن طاب السجود، فسجد، فأمر له بالإحسان الكثير وأن يكون جليسه طول مدته، وعوتب في شأنه وقيل له: ما تجالس في هذا الأبرش؟ فقال: حظي منه عقله لا وجهه.
4 ـ هشام مع جاريته:
اشترى هشام بن عبد الملك جارية وخلا بها، فقالت له: يا أمير المؤمنين، ما من منزلة أطمع فيها فوق منزلتي إذ صرت للخليفة، ولكن النار ليس لها خطر، إن ابنك فلاناً اشتراني فكنت عنده ـ لا يحل لك مسِّي، قال: فحسن هذا القول منها عنده، وحظيت عنده وتركها وولاها أمرها.
5 ـ إن نعم عدوك قلادة في عنقي لا ينزعها إلا غاسلي:
وجه أبو جعفر المنصور إلى شيخ من أهل الشام كان بطانة هشام بن عبد الملك فسأله عن تدبير هشام في بعض حروبه الخوارج، فوصف له الشيخ ما دبَّر فقال: فعل رحمه الله كذا، وصنع رحمه الله كذا وكذا، فقال له المنصور: قم عليك وعليه لعنة الله، تطأ بساطي وتترحم على عدوي، فقام الرجل وهو يقول وهو مولٍ: إن نعم عدوك لقلادة في عنقي لا ينزعها إلاَّ غاسلي، فقال له المنصور: ارجع يا شيخ، فرجع فقال: أشهد أنك نهيض حر وغراس شريف، عُد إلى حديثك، فعاد الشيخ إلى حديثه، حتى إذا فرغ دعا له بمال فأخذه وقال: والله يا أمير المؤمنين ما بي إليه من حاجة، ولقد مات عني من كنت في ذكره آنفاً، فما أحوجني إلى وقوف بباب أحد، ولولا جلالة عز أمير المؤمنين وإيثار طاعته ما لبست لأحد بعده نعمة، فقال له المنصور: مت إذا شئت لله أبوك، فلو لم يكن لقومك غيرك كنت قد أبقيت لهم مجداً مخلداً..
6 ـ لتلينّ طائعاً أو لتلينّ مكرهاً:
عن إبراهيم بن أبي عَبْلة قال: أراد هشام أن يوليني خراج مصر فأبيت، فغضب حتى اختلج وجهه، وكان في عينيه حول، فنظر إلي نظر منكر، وقال: لتلينَّ طائعاً، أولتلينَّ مكرهاً، فأمسكت عن الكلام حتى سكن غضبه، فقلت: يا أمير المؤمنين أتكلم؟ قال: نعم، قلت: إن الله قال في كتابه العزيز: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا}[الأحزاب: 72]. فوالله أمير المؤمنين ما غضب عليهن إذ أبين، ولا أكرههن إذ كرهن وما أنا بحقيق أن تغضب عليّ إذ أبيت، وتكرهني إذا كرهت، فضحك وأعفاني.
7 ـ كراهية هشام تقبيل اليد:
كان هشام بن عبد الملك يكره تقبيل اليد، حكى العتبي، قال: دخل رجل على هشام بن عبد الملك فقبل يده،
فقال: أفّ! إن العرب ما قبلت الأيدي إلا هلوعاً، ولا فعلته العجم إلا خضوعاً.
8 ـ تشييعه لجنازة طاوس بن كيسان:
لما مات طاوس من كيسان لم يتهيأ إخراج جنازته لكثرة الناس، حتى وجه إليهم أمير مكة بالحرس، وقد حرص هشام بن عبد الملك على تشييع جنازته بنفسه، وكان عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي يضع سرير طاوس على كاهله حتى سقطت قلنسوته عن رأسه ومزق رداؤه من خلفه.
يمكنكم تحميل كتاب الدولة الأموية عوامل الازدهار وتداعيات الانهيار
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي:
الجزء الأول:
http://alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC9(1).pdf
الجزء الثاني:
http://alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC139.pdf
كما يمكنكم الاطلاع على كتب ومقالات الدكتور علي محمد الصلابي من خلال الموقع التالي:
http://alsallabi.com 


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022