الجمعة

1446-11-04

|

2025-5-2

مطاعن الشيعة والمستشرقين في الإمام الزهري


من كتاب الدولة الأموية عوامل الازدهار وتداعيات الانهيار (ج2):

الحلقة: 210

بقلم: د. علي محمد الصلابي

#رمضان 1442 ه/ 18 #إبريل 2021

إن نفراً ممن لم يستطيعوا التخلص من الهوى والتجرد من التعصب المذهبي، حملوا علاقة الزهري بالأمويين على محامل سيئة، وأولوها تأويلات باطلة، وكان في مقدمة هؤلاء: اليعقوبي وابن أبي الحديد والممقاني وغيرهم ممن يرى رأيهم ويذهب مذهبهم، وقد تلقف تلك الأباطيل والأكاذيب والمفتريات بعض المستشرقين؛ أمثال المستشرق اليهودي جولد تسهير المعروف بحقده المرير وتحامله الشديد على الإسلام وأهله، وأضاف إليها من الشبهات ما ظن أن ينال بها من شخصية الإمام الزهري التي نالت الاحترام والتبجيل لدى جمهور المسلمين لما لها من مآثر خالده ومواقف محمودة في خدمة الإسلام والسنة النبوية الشريفة.
وإليك أهم شبهاته مع مناقشتها وتفنيدها بالحجج الدامغة والبراهين الساطعة والأدلة الراسخة:
أ ـ ما أثير حول صلته بالأمويين وذهابه للقصور:
كان من الشبه التي أثارها جولد تسهير حول الإمام الزهري؛ قوله: إنه لم يتجنب الذهاب إلى القصر ويتحرك في حاشية السلطان، ويعني جولد تسهير بالقصر ـ دار الخلافة ـ، وهي كما هو معلوم بيت المسلمين العام، ومقر قيادتهم العليا المسؤولة عن إدارة شؤونهم الدينية والدنيوية وفق التعاليم الإسلامية المستمدة من كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن هنا كان لكل مسلم الحق كل الحق في الذهاب إلى تلك الدار ودخولها متى شاء لرفع حاجة أو دفع ظلم، أو إسداء نصح، أو تبليغ علم، أو توضيح مسألة قد تكون خافية على أولي الأمر ليصححوا بها ما قد يقع منهم من خطأ، أو يظهروا بها ما يترتب عليها من مصلحة للأمة.
وكان السلف من الصحابة والتابعين لا يترددون في الذهاب إلى دار الخلافة لأمر من تلك الأمور، وقد يرون ذلك واجباً أحياناً إذا كان سبباً لتصحيح خطأ أو رفع ظلم أو تحقيق حق وإزالة باطل، ولم يكن الإمام الزهري إلا واحداً ممن قاموا بواجبهم في هذا الميدان حينما قدر الله تعالى له أن يتصل ببني أمية، وقد رأينا ذلك عند اتصاله بعبد الملك وتصحيحه لخطأ وقع فيه الوليد، كما رأيناه يقدم النصح إلى هشام بن عبد الملك، في مسألة من أهم المسائل العامة؛ وهي: إشارته عليه بعزل ولي عهده الوليد بن يزيد لما عرف عنه من اللهو والمجون، وهكذا كانت صلته بالأمويين من بدايتها إلى نهايتها، لكن جولد تسهير أبى إلا أن يعّرض بها ويثير حولها الشبهات من غير أن يقدم لنا دليلاً واحداً يمكن أن يستند إليه في شبهته، بل كل الشواهد والأدلة التي مرّت معنا في سيرته تؤكد أن صلته بهم كانت صلة شريفة الغاية، نزيهة المقصد، لم يترتب عليها ما يخل بأمانته وعدالته وتوثيقه، وأنها كانت حركة مباركة ضمن حركة أفاضل عصره من أهل النصح والتبليغ والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ب ـ قبوله منصب القضاء:
ومن شبه جولد تسهير التي أثارها حول الإمام الزهري؛ هي قوله: وفي عهد يزيد الثاني قبل منصب القضاء، إلى أن قال: وإنهم كانوا يعدون من قبل منصب القضاء غير ثقة.
ويرد عليه بأن القضاء منصب رفيع، وإن المسلمين أجمعوا على مشروعية نصب القضاء والحكم بين الناس، بل قد عدوه من فروض الكفايات؛ لأن الناس لا يستقيم أمرهم بدونه، وكان أول من تولاه في الإسلام هو النبي صلى الله عليه وسلم بتكليف الله تعالى له بذلك في أكثر من آية؛ قال تعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}[النساء: 65]. كما تولى القضاء من بعده الخلفاء الراشدون بأنفسهم، وولاه عمر بن الخطاب غيره، فولى أبا الدرداء قضاء المدينة، وولى شريحاً قضاء البصرة، وأبا موسى الأشعري قضاء الكوفة، كما تولاه بعد الصحابة كثير من أعلام التابعين وأعيانهم كأبي إدريس الخولاني، والحسن البصري، وعبد الملك بن يعلى الليثي، ومسروق، وعمر بن عبد العزيز، وأبي بكر بن حزم، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وسليمان بن حبيب المحاربي، والقاسم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود وغيرهم ممن اتفق الأئمة على تعديلهم وتوثيقهم مع توليهم القضاء وقيامهم به.
وبهذا يتضح لنا: أن القضاء لا يزيل الثقة عن صاحبها، ولا يسقط العدالة عمن عرف بها، بل روي الثناء عليه واعتبار القيام به من موجبات الأجر. ولو أن جولد تسهير أنفق لمعرفة القضاء وأهميته في الإسلام شيئاً من الوقت والجهد اللذين أنفقها في صياغة هذه الشبهة وغيرها من الشبه الباطلة التي استهدف بها الإسلام والسنة النبوية ورجالها، لعلم أن القضاء منصب مشروع وعالٍ في الإسلام، وإنه مما يوجب الأجر ويضاعف الثواب ويقوي الثقة بمن كان يتصف بها من القضاة، وإنه كان لمن تولاه في ذلك الوقت الذي كان يموج بالعلماء الأعلام سمة تشريف ووسام تقدير وتكريم، ولأدرك أن كراهة من كرهه من السلف من التابعين ومن بعدهم كأبي قلابة، وأبي حنيفة، وسفيان الثوري وغيرهم، تعود إلى خوفهم مما جاء فيه من تحذير وتخويف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو تحذير موجه إلى من لم يكن أهلاً لتوليه، أو لم يؤدِّ الحق فيه لا إلى توليه مطلقاً، إذ هو مشروع كما رأينا، بل قد يجب القيام به أحياناً على من تعين عليه، لما فيه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأداء الحقوق إلى مستحقيها والإصلاح بين الناس. قال ابن فرحون: واعلم أن كل ما جاء من الأحاديث التي فيها تخويف ووعيد، فإنما هي من حق قضاة الجور من العلماء، أو الجهال الذين يدخلون أنفسهم في هذا المنصب بغير علم، ففي هذين الصنفين جاء الوعيد.
جـ قبوله جوائز الخلفاء:
ومن الشبه التي تثار أحياناً؛ هي: أن الإمام الزهري كان يقبل جوائز الخلفاء، أو لماذا كان يقبلها؟ وللجواب على هذه الشبهة، أو هذا التساؤل نقول: لقد كان الإمام الزهري طالباً، وانتهى عالماً، وفي كلا الحالتين كان متفرغاً في الأولى لطلب العلم وجمعه، وفي الثانية لتعليمه ونشره، ولم يكن له من المال الموروث أو المكسوب ما يسد حاجته الضرورية، أو يضمن له الاستمرار في الطلب، فكان لابد له والحالة هذه أن يقبل مساعدة الدولة ويأخذ منها ما يسد حاجاته ويعينه على الطلب، وكان أول من قدم له مثل تلك المساعدة: عبد الملك بن مروان؛ حين قرر العودة إلى المدينة بناء على نصيحته له بذلك، لمواصلة طلب العلم وجمع ما كان منه عند الأنصار، وبعد أن جمع ما جمع من علمهم عاد إلى دمشق، وأخذ يتردد إليها بين الحين والآخر، إلى أن أقام فيها، وتفرغ كلياً لتدريس العلم ونشره، فأقبل إليه طلاب العلم من أهل الشام وغيرها، ورحل إليه وهو فيها كثير من أبناء الأمصار الإسلامية الأخرى كما مر، فأصبح بذلك يمثل مركزاً من أهم المراكز العلمية في الشام إن لم يكن أهمها على الإطلاق، فكان لابد من الدولة أن تمد له يد العون والمساعدة، وتقدم له ما يمكنه من الاستمرار في القيام بهذا العمل الجليل، والإنفاق على ضيوفه وتلاميذه وقاصديه الذين كان ينفق عليهم بمنتهى البذل والسخاء، حتى كان يضيق ما في يده أحياناً من الإنفاق عليهم، فيضطر إلى الاستدانة ليصرف عليهم ويقوم بسد حاجاتهم ما أمكن لذلك، فإن أغلب ما أهدي إليه من الخلفاء كان موجهاً لسد الديون التي لحقته بسبب إنفاقه على تلاميذه وضيفانه.
ولم يكن الزهري أول من قبل الجوائز والأعطيات، ولا آخر من قبلها، بل قبلها غيره من السلف من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، فقبلها: زيد بن ثابت من معاوية بن أبي سفيان، كما قبلها عبد الله بن عباس وعبد الله بن الزبير وعبد الله بن جعفر الطيار وعبد الله بن عمر، وعبد الرحمن بن أبي بكر والحسين وغيرهم ممن كانوا يفدون عليه بدمشق، فيكرمهم ويقضي حوائجهم، وكان للحسن بن علي بن أبي طالب على معاوية جائزة في كل عام، وكان يفد إليه، فربما أجازه بأربعمئة ألف درهم وراتبه كل سنة مئة ألف، كما قبلها الكثير من التابعين أيضاً، كالحسن البصري والشعبي وإبراهيم بن يزيد النخعي، وأبان بن عثمان، وأبي سلمة بن عبد الرحمن، وأبي الزناد، وعبد الله بن محمد بن علي بن أبي طالب الذي وفد على سليمان فأجازه وقضى حوائجه وحوائج من معه، وقبلها من بعدهم: مالك بن أنس وسفيان الثوري وأبو يوسف والشافعي وغيرهم. ومن كل ما تقدم يتضح لنا أن أخذ جوائز السلطان مشروع إذا لم يترتب على أخذه لها ما يخل بدينه ومروءته.




يمكنكم تحميل كتاب الدولة الأموية عوامل الازدهار وتداعيات الانهيار
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي:
الجزء الأول:
http://alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC9(1).pdf
الجزء الثاني:
http://alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC139.pdf
كما يمكنكم الاطلاع على كتب ومقالات الدكتور علي محمد الصلابي من خلال الموقع التالي:
http://alsallabi.com


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022