الجمعة

1446-11-04

|

2025-5-2

(انتقاد بعض الناس لقرب الزهري من بني أمية)


من كتاب الدولة الأموية عوامل الازدهار وتداعيات الانهيار (ج2):

الحلقة: 209

بقلم: د. علي محمد الصلابي

رمضان 1442 ه/ إبريل 2021

تعرض الزهري إلى انتقاد بسبب قربـه من بني أمية، فممن انتقده العالم الجليل مكحول الدمشقي، فقد قال عنه: أي رجل هو لولا أنه أفسد نفسه بصحبة الملوك، ومنهم عمرو بن عبيد، فعن عمر بن رديح قال: كنت مع ابن شهاب الزهري نمشي، فرآني عمرو بن عبيد، فلقيني بعد فقال: ما لك ولمنديل الأمراء؟ يعني ابن شهاب.
ويعد الإمام أبو حازم سليمان بن دينار من أشد من انتقد الزهري؛ حيث كتب إليه رسالة مطولة، ومما جاء فيها:.. واعلم أن أدنى ما ارتكبت وأعظم ما احتقبت، أن آنست الظالم وسهلت له طريق الغي بدنوك حين أدنيت، وإجابتك حين دعيت، فما أخلقك أن ينوه باسمك إذاً مع الجرمة، وأن تسأل عما أردت بإغضائك عن ظلم الظلمة، إنك أخذت ما ليس لمن أعطاك، ودنوت ممن لم يرد على أحد حقاً، ولا يرد باطلاً حين أدناك، وأجبت من أراد التدليس بدعائه إياك حين دعاك، جعلوك قطباً تدور رحى باطلهم عليك، وجسراً يعبرون بك إلى بلائهم، وسلماً إلى ضلالتهم، وداعياً إلى غيهم، وسالكاً سبيلهم، يدخلون بك الشك على العلماء، ويقتادون بك قلوب الجهال إليهم، فلم يبلغ أخص وزرائهم، ولا أقوى أعوانهم لهم إلا ما دون ما بلغت من إصلاح فسادهم، واختلاف الخاصة والعامة إليهم، فما أيسر ما عمروا لك، في جنب ما خربوا عليك، وما أقل ما أعطوك في قدر ما أخذوا منك، فانظر لنفسك فإنه لا ينظر لها غيرك.
ويجدر أن نقف وقفة قصيرة مع هذه الانتقادات الموجهة للزهري، فأما عمرو بن عبيد فلا يقبل قدحه لأنه صاحب بدعة اتهمه أهل الجرح والتعديل بالكذب وضعفوه لبدعته؛ حيث يعد من أصحاب الاعتزال، وحيث إن المعتزلة لا يرون شرعية خلافة بني أمية، فتبعاً لذلك لن يرضوا عن من يصاحبهم.
وأما مكحول وأبو حازم فالأمر بينهم وبين الزهري لا يعدو كونه خلافاً محصوراً في أمر قابل للاجتهاد، ولم يتعدَّ الخلاف جوانب أخرى، فقد كان مكحول رغم خلافه هذا مع الزهري يجل الزهري ويقدره، فقال أبو بكر بن أبي مريم: قلت لمكحول: من أعلم الناس؟ قال: ابن شهاب، قلت: ثم من؟ قال: ابن شهاب؛ قلت: ثم من؟ قال: ابن شهاب. وهذا شأن أهل الفقه في التعامل مع مخالفيهم.
وأما ما كان يخشاه أبو حازم وغيره على العلماء من مخالطتهم للخلفاء والأمراء من المجاراة والمداهنة التي تضر العالم في دينه والسلطان في دنياه وأخراه فإنه كان للزهري من قوة الشخصية، والشعور بالمسؤولية وتقديره لفقه المصالح والمفاسد ما جعله بعيداً عن الوقوع في هذا المحذور؛ فقد كان للزهري مواقف تدل على ذلك؛ منها: ما رواه البخاري: أن الزهري قال: قال لي الوليد بن عبد الملك أبلغك أن علياً كان فيمن قذف عائشة؟ قلت: لا، ولكن قد أخبرني رجلان من قومك ـ أبو سلمة بن عبد الرحمن، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث ـ أن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت لهما: كان علي مسلماً في شأنها. وفي تعليق ابن حجر على الحديث نقل رواية عن ابن مردويه عن الزهري قال: كنت عند الوليد بن عبد الملك ليلة من الليالي وهو يقرأ سورة النور مستلقياً، فلما بلغ هذه الآية: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} [ النور: 11]؛ حتى بلغ {وَالَّذي تَوَلّى كِبرَهُ} جلس ثم قال: أبا بكر من تولَّى كبره منهم؟ أليس علي بن أبي طالب؟ قال: فقلت في نفسي: ماذا أقول؟ لئن قلت: لا، خشيت أن ألقى منه شراً، ولئن قلت: نعم، لقد جئت بأمر عظيم، قلت في نفسي: لقد عودني الله على الصدق خيراً، قلت: لا، فضرب بقضيبه على السرير، ثم قال: فمن؟ فمن؟ حتى ردَّد ذلك مراراً، قلت: لكن عبد الله بن أبي.
وعلق ابن حجر قائلاً: وكأن بعض من لا خير فيه من الناصبة تقرب إلى بني أمية بهذه الكذبة فحرفوا قول عائشة إلى غير وجهه، لعلمهم بانحرافهم عن علي، فظنوا صحتها، حتى بيَّن الزهري للوليد أن الحق خلاف ذلك، فجزاه الله خيراً.
كما رويت قصة مشابهة في عهد هشام، تذكر أن سليمان بن يسار دخل على هشام بن عبد الملك، فقال: يا سليمان! من الذي تولى كبره منهم؟ قال: عبدالله بن أبي ابن سلول، قال: كذبت هو علي، قال: أمير المؤمنين أعلم بما يقول، فدخل الزهري، فقال: يا بن شهاب من الذي تولى كبره؟ فقال: هو عبد الله بن أبي، قال هشام: كذبت، هو علي، فقال: أنا أكذب، لا أبا لك، فوالله لو نادى مناد من السماء: إن الله أحل الكذب ما كذبت، حدثني سعيد وعروة وعبيد الله، وعلقمة بن وقاص، عن عائشة: أن الذي تولى كبره عبد الله بن أبي، فقال له هشام: ارحل، فوالله ما كان ينبغي لنا أن نحمل عن مثلك، فقال: ولم؟ أنا اغتصبتك على نفسي أو أنت اغتصبتني على نفسي؟ فخلِّ عني، فقال هشام: لا، ولكنك استدنت ألفي ألف، فقال الزهري: قد علمت وأبوك قبلك، أني ما استدنت هذا المال عليك ولا على أبيك، فقال هشام: نحن هيجنا الشيخ، فأمر هشام فقضى عنه ألف ألف، فأخبر بذلك، فقال: الحمد لله الذي هذا هو من عنده.
والمجال في ذكر مواقف الزهري التي توضح قوته في الحق وعدم مداهنته يطول، وما أحسن ما قاله الذهبي حين قال بعض من لا يعتد به: لم يأخذ عن الزهري، لكونه كان مداخلاً للخلفاء: ولئن فعل ذلك فهو الثبت الحجة، وأين مثل الزهري رحمه الله؟!.




يمكنكم تحميل كتاب الدولة الأموية عوامل الازدهار وتداعيات الانهيار
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي:
الجزء الأول:
http://alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC9(1).pdf
الجزء الثاني:
http://alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC139.pdf
كما يمكنكم الاطلاع على كتب ومقالات الدكتور علي محمد الصلابي من خلال الموقع التالي:
http://alsallabi.com 


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022