الزهري والأمويون
من كتاب الدولة الأموية عوامل الازدهار وتداعيات الانهيار (ج2):
الحلقة: 208
بقلم: د. علي محمد الصلابي
٤ رمضان 1442 ه/ ١٦ أبريل 2021
يعد الزهري من العلماء الذين خالطوا خلفاء بني أمية وصاحبوهم، وكانت له عندهم منزلة رفيعة، يقول عنه الذهبي: كان ـ رحمه الله ـ محتشماً جليلاً بزي الأجناد، له صورة كبيرة في دولة بني أمية. ويذكر أنه كان برتبة أمير.
وقد تحدثت عن بداية اتصال الزهري بعبد الملك بن مروان وأثر قبيصة بن ذؤيب في تقريبه عند عبد الملك، وحيث إن المدة التي قضاها الزهري عند عبد الملك لم تكن طويلة، لذا لم ترد له مشاركات ومواقف ذات أثر في سياسة عبد الملك إلا الشيء اليسير، ومن ذلك طمأنته لعبد الملك في أمر علي بن الحسين، فقد كان عبد الملك قد أمر بعض رجاله بالقدوم إليه بعلي بن الحسين من المدينة، ولكنه أفلت منهم وقدم على عبد الملك، فلما قدم الزهري الشام بعد ذلك قال له عبد الملك: إنه ـ أي: علي ـ قد جاءني في يوم فقده الأعوان، فدخل علي فقال: ما أنا وأنت؟ فقلت: أقم عندي، فقال: لا أحب، ثم خرج، فوالله لقد امتلأ ثوبي منه خيفة. قال الزهري: فقلت: يا أمير المؤمنين ليس علي بن الحسين حيث تظن، إنه مشغول بنفسه، فقال عبد الملك: حبذا شغل مثله، فنعم ما شغل به.
ولا شك أن لمثل هذه النظرة من الزهري تجاه علي بن الحسين وإبدائها لعبد الملك أثر في طمأنة عبد الملك وصرف نظره عن الاشتغال بأمره، وما قد يترتب على ذلك من اتخاذ بعض القرارات التي تقضي بتتبع علي بن الحسين والتضييق عليه.
أ ـ أثر تربية الزهري لأولاد هشام:
وأما أولاد هشام فكان أثر تربية الزهري عليهم كبيراً؛ حيث تولى تربيتهم وتعليمهم مُنذ الصغر على الأخلاق الحسنة ومعالي الأمور. ويقول محمد شراب: كان للزهري تأثير في تربية أولاد هشام، فكانوا نعم الشباب خلقاً وسلوكاً... وكانوا قادة فتوح وجنود دعوة، فتح الله على أيديهم بقاعاً كثيرة، ودخلت بلاد بغزواتهم في دين الإسلام.
وحين نتتبع الغزوات في عهد هشام فسنجد أن لأبنائه النصيب الأوفر في قيادتها، فلا تكاد تمر سنة إلا وأحدهم أو عدد منهم على رأس غازية تغزو. وقد كان لمعاوية بن هشام القدر الأكبر في ذلك، وبالإضافة إلى قيادتهم للغزوات كان هشام يسند إمرة الحج في بعض السنوات إلى أحدهم، ففي سنة تسع عشرة ومئة حج بالناس مسلمة بن هشام، ويزيد بن هشام في سنة ثلاث وعشرين ومئة، وكان الزهري يرافقهم في الحج ويرشدهم ويوجههم إلى ما فيه الخير لأنفسهم وأمتهم، فلما قدم مسلمة المدينة في حجه أشار عليه الزهري أن يصنع إلى أهل المدينة خيراً، وحضه على ذلك، فأقام في المدينة نصف شهر، وقسم الخمس على أهل الديوان، وفعل أموراً حسنة.
ب ـ موقف الزهري من خلع الوليد بن يزيد بن عبد الملك:
من أهم أمور الزهري السياسية في عهد هشام بن عبد الملك موقفه من خلع الوليد بن يزيد بن عبد الملك من ولاية العهد، فقد كان يزيد بن عبد الملك عهد بالخلافة لهشام ومن بعده لولده الوليد، وأخذ العهد بذلك على هشام، فلما آلت الخلافة إلى هشام كان الزهري يرى خلع الوليد بن يزيد، ويحث هشام على ذلك، وعندما أبدى هشام
تخوفه من عدم قبول من في الأجناد لذلك، قال الزهري له: فوجهني حتى أسير في الأجناد جنداً جنداً فأخلعه.
ولعل مما يؤيد صحة خبر موقف الزهري من خلع الوليد أن الأخبار لم تقف عند حد ذكر الموقف فحسب، بل وردت أخبار توضح ما ترتب على هذا الموقف من رد فعل عند الوليد تجاه الزهري، فأورد ابن عساكر: أن الوليد كان يقول للزهري: إن أمكنني الله منك يوماً فستعلم. وكان الزهري يقول: إن الله أعدل من أن يسلط عليَّ سفيهاً، بل لم ينتظر الوليد حتى يلي الخلافة؛ فقد أرسل إلى مال الزهري ببدا وشغب فعقر أشجاره. وصدق الله ظن الزهري حيث توفي ـ رحمه الله ـ قبل أن يلي الوليد الخلافة.
وإذا قلنا بإمكان اتخاذ الزهري لذلك الموقف من الوليد، فيمكننا أن نتلمس السبب الدافع الذي جعله يقف هذا الموقف، وهو أن الزهري لما رأى ميل الوليد للهو والمجون ووقوعه في الفسق وعدم تركه لذلك رغم نهيه عن ذلك، فخشي إن آل إليه أمر الخلافة أن يكون ذلك ضعفاً للأمة وانفتاح باب الفساد في الدين والأخلاق حيث الناس على دين ملوكهم.
وعلى الرغم من أن كثيراً مما نسب إلى الوليد بن يزيد مبالغ فيه وبعضه مكذوب، إلا أن فسقه وميله للهو والمجون أمر مشهور عنه وثابت في أغلب المصادر التي تحدثت عنه، وهذا ما جعل الزهري وغيره يتخوَّفون من مغبة توليه الخلافة، فروي أن مكحولاً ـ رحمه الله ـ كان يقول: اللهم لا تبقني بعد هشام، ولعله قال ذلك بسبب توقعه الفتنة بتولي الوليد، وأما الزهري فرأى أن تسليم الوليد قيادة الأمة أمر فيه خطر وضرر لا بد من دفعه، وهذا منوط بالخليفة الذي تحمل أمانة ولاية أمر الأمة ووجب عليه النصح لها، ومن أعظم النصح أن يستخلف عليها من تبرأ الذمة بتوليته، لذا عندما تخوف هشام من خلع الوليد لأن ذلك نقضاً للعهد الذي أخذه أخوه يزيد عليه، بتولية ابنه من بعده، قال له الزهري: اخلع الوليد، فإن من الوفاء بعهد الله خلعك إياه.
ومما يخفف من خطورة خلع الوليد من ولاية العهد وجود الخليفة على رأس الأمر، فيستطيع وفي يده القوة القضاء على ما قد يترتب على ذلك من مخاطر، أما إذا ترك الأمر حتى يستلم الوليد الخلافة وتنتقل إليه القوة؛ فإن من الصعب عزله، بل سيترتب على ذلك من الأضرار أضعاف ما يترتب على خلعه من ولاية العهد، وهذا ما حدث بالفعل، وهو ما دعا الحافظ ابن كثير حين تحدث عن حياة الوليد أن يقول: فعزم عمه على خلعه من الخلافة ـ
وليته فعل ـ، وقال بلفظ آخر: وليت ذلك تم.
ومما سبق يتضح أن حث الزهري هشاماً على خلع الوليد بن يزيد كان حرصاً منه على مصلحة الأمة، وأداءً لنصيحة إمامه الذي وثق به وقربه، ولم يبال بما قد يترتب على موقفه هذا من أذى متوقع من الوليد؛ إذ الخوف من الله مقدم على الخوف من غيره، ومصلحة الأمة مقدمة على مصلحة النفس.
يمكنكم تحميل كتاب الدولة الأموية عوامل الازدهار وتداعيات الانهيار
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي:
الجزء الأول:
http://alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC9(1).pdf
الجزء الثاني:
http://alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC139.pdf
كما يمكنكم الاطلاع على كتب ومقالات الدكتور علي محمد الصلابي من خلال الموقع التالي:
http://alsallabi.com