الإعداد الرباني للصحابة في منهج النبي (صلى الله عليه وسلم) ..
من كتاب (فقه النصر والتمكين) للدكتور علي محمد الصلابي
الحلقة: الرابعة والأربعون
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
هذه المنهجية التي رسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم في إعداد الأفراد إعدادا ربانيا على زعماء وقادة الحركات الإسلامية أن يسيروا على نفس المنهج الذي سار عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم, والذي في حقيقته تفسير للقرآن الكريم، وإن الآيات الكريمة السابقة من سورة الكهف تصف لنا الشخصية الربانية في عدة صفات منها:
أ- الصبر:
في قوله تعالى: " وَاصْبِرْ نَفْسَكَ".
إن كلمة الصبر تتردد في القرآن الكريم وفي أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم ويوصى الناس بعضهم بعضا وتبلغ أهميتها أن تصير صفة من أربع للفئة الناجية من الخسران.
قال تعالى: " وَالْعَصْرِ` إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ ` إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ" [العصر: 1-3] فحكم المولى عز وجل على جميع الناس بالخسران إلا من أتى بهذه الأمور الأربعة.
1- الإيمان بالله.
2- العمل الصالح.
3- التواصي بالحق.
4- التواصي بالصبر.
لأن نجاة الإنسان لا تكون إلا إذا أكمل الإنسان نفسه بالإيمان والعمل الصالح وكمل غيره بالنصح والإرشاد، فيكون قد جمع بين حق الله، وحق العباد، والتواصي بالصبر ضرورة لأن القيام على الإيمان والعمل الصالح، وحراسة الحق والعدل من أعسر ما يواجه الفرد والجماعة، ولابد من الصبر على جهاد النفس، وجهاد الغير، والصبر على الأذى والمشقة، والصبر على تبجح الباطل، والصبر على طول الطريق وبطء المراحل، وانطماس المعالم وبعد النهاية (1).
إن كلمة الصبر قصيرة سهلة لا تجاوز ثلاثة حروف, يستطيع كل إنسان أن ينطقها، وأن يوصي بها، ولكن معاناتها أمر آخر, والصبر في حقيقته أنواع منها، صبر عن المعاصي وهو واجب على كل مؤمن فضلا عن الدعاة، وصبر على الطاعات، وهو واجب كل مؤمن فضلا عن الدعاة وإن كان عليهم أن يستزيدوا من الطاعات، لأن الإيمان يزيد بالطاعات وينقص بالمعاصي.
وصبر على البلاء، وهو وإن كان واجبا على المؤمن، إلا أنه بالنسبة للداعية أوجب لما يترتب على الدعوة من تعرض للبلاء.
ب- كثرة الدعاء والإلحاح على الله:
وهذا يظهر في قوله تعالى: " يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ" [الأنعام: 52], فالدعاء باب عظيم، فإذا فتح للعبد تتابعت عليه الخيرات، وانهالت عليه البركات، فلابد من تربية الأفراد الذين يعدون لحمل الرسالة وأداء الأمانة على حسن الصلة بالله وكثرة الدعاء، لأن ذلك من أعظم وأقوى عوامل النصر, قال تعالى: " وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ" [البقرة: 186].
" وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ" [غافر: 60]. " إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ" [الأنفال: 9].
وقد أمر الله بالذكر والدعاء عند لقاء العدو, قال تعالى: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ" [الأنفال: 45].
لأنه سبحانه النصير, فنعم المولى ونعم النصير، قال تعالى: " وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ" [آل عمران: 126], ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو ربه في معاركه ويستغيث به، فينصره ويمده بجنوده، ومن ذلك أنه نظر صلى الله عليه وسلم يوم بدر إلى المشركين وهم ألف وأصحابه ثلاثمائة وتسعة عشر رجلا, فاستقبل صلى الله عليه وسلم القبلة ورفع يديه واستغاث بالله، وما زال يطلب المدد من الله وحده مادا يديه حتى سقط رداؤه عن منكبيه، فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فألقاه على منكبيه، ثم التزمه من ورائه وقال: يا نبي الله كفاك مناشدتك ربك, فإنه سينجز لك ما وعدك، فأنزل الله عز وجل: " إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ" [الأنفال: 9] فأمده الله بالملائكة (2).. وهكذا كان يدعو الله في جميع معاركه ومن ذلك قوله: «اللهم منزل الكتاب، سريع الحساب، مجري السحاب، هازم الأحزاب، اللهم اهزمهم وزلزلهم وانصرنا عليهم» وكان يقول عند لقاء العدو «اللهم أنت عضدي، وأنت نصيري، بك أجول، وبك أصول، وبل أقاتل» (3).
ج- الإخلاص:
ويظهر في قوله تعالى: " يُرِيدُونَ وَجْهَهُ" [الكهف: 28] ولابد عند إعداد الأفراد إعدادا ربانيا أن يتربى المسلم على أن تكون أقواله وأعماله وجهاده كلها لوجه الله وابتغاء مرضاته وحسن مثوبته، من غير نظر إلى مغنم أو جاه أو لقب أو تقدم أو تأخر, وحتى يصبح جنديا من أجل العقيدة والمنهج الرباني ولسان حاله قوله تعالى: " قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ` لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ" [الأنعام: 162].
إن الإخلاص ركن من أركان قبول العمل، ومعلوم أن العمل عند الله تعالى لا يقبل إلا بالإخلاص وتصحيح النية وبموافقة السنة والشرع.
وبالإخلاص تتحقق صحة الباطن، وقد جاء فيه قوله صلى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنيات» (4) فهذا هو ميزان الباطن، وأما في موافقة السنة، فقد قال صلى الله عليه وسلم: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» (5).
وقد جمع الله الأمرين في أكثر من آية, قال تعالى: " وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى" [لقمان: 22]، فإسلام الوجه لله، إخلاص القصد والعمل له، والإحسان فيه، ومتابعة الرسول صلى الله عليه وسلم وسنته.
د- الثبات:
ويظهر في قوله تعالى: " وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا" [الكهف: 28]. وهذا الثبات المذكور فرع عن ثبات أعم ينبغي أن يتسم به الداعية الرباني، قال تعالى: " مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً" [الأحزاب: 23].
ففي الآية الكريمة ثلاثة صفات، إيمان ورجولة وصدق, ترتب عليها أن منهم " مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً".
وعلى ذلك يتضح أن الثبات يحتاج إلى ثلاثة عناصر: إيمان، ورجولة، وصدق. إيمان يبعث على التمسك بالقيم الرفيعة والتثبت بها، وباعث على التضحية بالنفس ليبقي المبدأ الرفيع، ورجولة محركة للنفس نحو هذا الهدف، غير مهتمة بالصغائر والصغار، وإنما دائما دافعة نحو الهدف الأسمى والمبدأ الرفيع. وصدق يحول دون التحول أو التغير أو التبديل، ومن ثم يورث هذا كله، الثبات الذي لا يتلون معه الإنسان وإن رأى شعاع السيف على رقبته أو رأى حبل المشنقة ينتظره أو رأى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها.
ولا شك أن اللبنات التي تعد لحمل أعباء الجهاد تحتاج إلى الثبات الذي يعين على تحقيق الأهداف السامية والغايات الجميلة والقيم الرفيعة (6).
هـ- تربية الأفراد على الإيمان بالقضاء والقدر:
إن استيعاب حقيقة القضاء والقدر والإيمان بها كما جاءت في القرآن والسنة تجعل أفراد المسلمين ينطلقون في هذه الحياة انطلاقة هادفة نحو المقاصد النبيلة.
وقد جاءت الأدلة من القرآن الكريم توضح قضية القدر, قال تعالى: " وَكَانَ أَمْرُ اللهِ قَدَرًا مَّقْدُورًا" [الأحزاب: 38], وقال تعالى: " إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ" [القمر: 49], وقال تعالى: " وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا" [الفرقان: 2]. وأما أدلة السنة، فقد قال صلى الله عليه وسلم: «وتؤمن بالقدر خيره وشره» (7).
وروى مسلم في الصحيح عن طاوس قال: «أدركت ناسا من أصحاب رسول الله × يقولون: كل شيء بقدر، قال: وسمعت عبد الله بن عمر يقول: «كل شيء بقدر حتى العجز والكيس أو الكيس والعجز» (8).
وقال صلى الله عليه وسلم: «وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كذا كان كذا وكذا, ولكن قل قدر الله وما شاء فعل» (9).
---------------------------------------
مراجع الحلقة الرابعة والأربعون:
(1) انظر: الظلال (6/3968).
(2) مسلم (3/1383) كتاب الجهاد والسير، باب الإمداد بالملائكة (3/1383) رقم 1763.
(3) صحيح أبي داود (2/499) كتاب الجهاد، باب: ما يدعي عند اللقاء (2/499) رقم 2291.
(4) صحيح أبي داود (2/286).
(5) البخاري (5/172)، كتاب آيات القرآن، باب: إن الناس قد جمعوا (5/203).
(6) دعوة الله بين التكوين والتمكين، د. علي جريشة، ص91، 92.
(7) مسلم, كتاب الإيمان، باب ما جاء في القدر (1/38) رقم 8.
(8) مسلم, كتاب القدر، باب كل شيء بقدر (4/2045) رقم 2655.
(9) مسلم, كتاب القدر، باب الأمر بالقوة وترك العجز (4/2053) رقم 2664.
يمكنكم تحميل فقه النصر والتمكين
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي