الإعداد التربوي والمعنوي من أسباب التمكين ..
من كتاب (فقه النصر والتمكين)
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
الحلقة: الثالثة والأربعون
اهتم صلى الله عليه وسلم بغرس حقيقة المصير وسبيل النجاة لأصحابه موقنا أن من عرف منهم عاقبته، وسبيل النجاة والفوز في هذه العاقبة، سيسعى بكل ما أوتي من قوة ووسيلة لسلوك هذا السبيل، حتى يظفر غدا بهذه النجاة, وذلك الفوز، وركز صلى الله عليه وسلم في هذا البيان على الجوانب التالية:
1- أن هذه الحياة الدنيا مهما طالت فهي إلى زوال، وأن متاعها مهما عظم، فإنه قليل حقير: " إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا
أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ" [يونس: 24]. " قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ" [النساء: 77].
2- وأن كل الخلق إلى الله راجعون، وعن أعمالهم مسئولون ومحاسبون, وفي الجنة أو في النار مستقرون: " أَيَحْسَبُ الإِنْسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى" [القيامة: 36].
3- وأن نعيم الجنة ينسى كل تعب ومرارة في الدنيا، وكذلك عذاب النار ينسي كل راحة وحلاوة في هذه الدنيا: " أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ ` ثُمَّ جَاءَهُم مَّا كَانُوا يُوعَدُونَ ` مَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يُمَتَّعُونَ" [الشعراء: 205 - 207].
" كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأيَّامِ الْخَالِيَةِ" [الحاقة: 24].
4- وأن الناس مع زوال الدنيا، واستقرارهم في الجنة، أو في النار، سيمرون بسلسلة طويلة من الأهوال والشدائد: " يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ ` يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللهِ شَدِيدٌ" [الحج: 1،2].
وقال تعالى: " فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا ` السَّمَاءُ مُنفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً" [المزمل: 17، 18].
5- وسبيل النجاة من شر هذه الأهوال، ومن تلك الشدائد، والظفر بالجنة والبعد عن النار (1)، بالإيمان بالله تعالى وعمل الصالحات ابتغاء مرضاته: " إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ" [البروج: 11].
ومضى صلى الله عليه وسلم كذلك يبصرهم ويذكرهم بدورهم ورسالتهم في الأرض، ومنزلتهم ومكانتهم عند الله، وظل صلى الله عليه وسلم معهم على هذه الحال من التبصير والتذكير حتى انقدح في ذهنهم ما لهم عند الله، وما دورهم، ورسالتهم في الأرض، وتأثرا بتربيته الحميدة تولدت الحماسة والعزيمة في نفوس أصحابه، فانطلقوا عاملين بالليل والنهار بكل ما في وسعهم، وما في طاقتهم دون فتور أو توان، ودون كسل أو ملل، ودون خوف من أحد إلا من الله، ودون طمع في مغنم أو جاه إلا أداء هذا الدور وهذه الرسالة، لتحقيق السعادة في الدنيا والفوز والنجاة في الآخرة (1).
وكان صلى الله عليه وسلم يحرص على إعداد أصحابه إعدادًا ربانيا وكانت خطواته تتم بكل هدوء وتدرج وسرية، وانصبت أهدافه التربوية على تعليم الكتاب والسنة وتلاوة القرآن الكريم وتطهير النفوس من أمراضها، وإعداد الأفراد لتحمل تكاليف الدعوة والرسالة، وكان شعار هذه المرحلة هو توجيه المولى عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم والدعاة من بعده ذلك التوجيه المتمثل في قوله تعالى: " وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا" [الكهف: 28].
فالآية الكريمة تأمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يصبر على تقصير وأخطاء المستجيبين لدعوته، وأن يصبر على كثرة تساؤلاتهم خاصة إن كانت خاطئة، وأن يصبر على ترددهم في قبول التوجيهات، وأن يجتهد في تصبيرهم على فتنة أعداء الدعوة، وأن يوضح لهم طبيعة طريق الدعوة، وأنها شاقة, وأن لا يغرر مغرر ليبعده عنهم، وأن لا يسمع فيهم منتقصاً، ولا يطيع فيهم متكبراً أغفل الله قلبه عن حقيقة الأمور وجوهرها (3).
---------------------------------------
مراجع الحلقة الثالثة والأربعون:
(1) انظر: منهج الرسول صلى الله عليه وسلم في غرس الروح الجهادية، د. سيد نوح ص19: 34.
(2) انظر: المصدر نفسه، ص37.
(3) انظر: الطريق إلى جماعة المسلمين، ص170.
يمكنكم تحميل فقه النصر والتمكين
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي