(الاستشراق والتاريخ الإسلامي)
من كتاب الدولة الأموية عوامل الازدهار وتداعيات الانهيار (ج2):
الحلقة: 284 والأخيرة
بقلم: د. علي محمد الصلابي
محرم 1443 ه/ أغسطس 2021
إن من أعظم الفِرَق أثراً في تحريف التاريخ الإسلامي الشيعة الرافضة بمختلف طوائفها وفرقها ، فهم من أقدم الفرق ظهوراً ، ولهم تنظيم سياسي وتصور عقائدي ، ومنهج فكري ـ منحرف ـ وهم أكثر الطوائف كذباً على خصومهم ، كما أنهم من أشد الناس خصومة للصحابة ـ فسب الصحابة وتكفيرهم من أساسيات معتقدهم وأركانه؛ خاصة الشيخين أبي بكر وعمر ، ويسمونهما الجبت والطاغوت ، وقد كان للشيعة أكبر عدد من الرواة والأخباريين الذين تولوا نشر أكاذيبهم ومفترياتهم وتدوينها في كتب ورسائل عن أحداث التاريخ الإسلامي ، خاصة الأحداث الداخلية ، كما للشعوبية والعصبية أثر في وضع الأخبار التاريخية والحكايات والقصص الرامية إلى تشويه التاريخ الإسلامي ، وإلى إعلاء طائفة على طائفة ، أو أهل بلد على اخر ، أو جنس على جنس ، وإبعاد الميزان الشرعي في التفاصيل وهو ميزان التقوى: [الحجرات: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}
كما أن الفرق المنحرفة قد استغلت وضع القصاص وانتشارهم وجهل معظمهم وقلة علمهم بالسنة ، وانحراف طائفة منهم تبتغي العيش والكسب ، فنشروا بينهم أكاذيبهم وحكاياتهم وقصصهم الموضوعة ، فتلقفها هؤلاء القصاص دون وعي وإدراك ونشروها بين العامة ، لقد انتشر عن طريقهم مئات الأحاديث المكذوبة على النبي صلى الله عليه وسلم ، وعدد لا يحصى من الأخبار والأقوال المكذوبة على الصحابة والتابعين وعلماء الإسلام ، مما يسيء لهم ويشوه تاريخهم وسيرتهم.
وقد كان من فضل الله وتوفيقه أن قيض مجموعة من العلماء النقاد الذين قاموا بجهد في نقد الرواة والمرويات، فبينوا الزائف من الصحيح ، ودافعوا عن عقيدة الأمة وتاريخها ، وجُهْد علماء السنة في بيان الأحاديث المكذوبة بالنص عليها، وبيان الرواة الضعاف والمتهمين وأصحاب الأهواء، وفي رسم المنهج في نقد الروايات وقبولها ، جهد كبير وموفق، ومن أبرز من تصدى لإيضاح المغالط التاريخية وردِّ زيوف الروايات المكذوبة القاضي ابن العربي في كتابه: العواصم من القواصم ، والإمام ابن تيمية في كثير من كتبه ورسائله ، خاصة كتابه القيم: منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة والقدرية ، وكذلك الحافظ الناقد الذهبي في كثير من مؤلفاته التاريخية مثل: سير أعلام النبلاء ، وتاريخ الإسلام ، وميزان الاعتدال في نقد الرجال ، وكذلك الحافظ ابن كثير المفسر
المؤرخ في كتابه: البداية والنهاية ، وأيضاً الحافظ ابن حجر العسقلاني في كتبه: فتح الباري شرح صحيح البخاري ، ولسان الميزان ، وتهذيب التهذيب ، والإصابة في معرفة الصحابة.
أما الوسائل التي استخدمت لغرض تحريف الوقائع التاريخية وتشويه سير رجال الصدر الأول من الصحابة والتابعين فهي كثيرة ، ونذكر منها:
أ ـ الاختلاق والكذب.
ب ـ الإتيان بخبر أو حادثة صحيحة ، فيزيدون فيها وينقصون منها حتى تتشوه وتخرج عن أصلها.
جـ وضع الخبر في غير سياقه حتى ينحرف عن معناه ومقصده.
د ـ التأويل والتفسير الباطل للأحداث.
هـ إبراز المثالب والأخطاء ، وإخفاء الحقائق والصور المستقيمة.
و ـ صناعة الأشعار وانتحالها لتأييد حوادث تاريخية مُدَّعاة؛ لأن الشعر العربي ينظر له كوثيقة تاريخية ومستند يساعد في توثيق الخبر وتأييده.
ز ـ وضع الكتب والرسائل المكذوبة ونحلها لعلماء وشخصيات مشهورة ، كما وضعت الرافضة كتاب الإمامة والسياسة الذي نحلته إلى أبي محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري لشهرته عند أهل السنة وثقتهم به ـ كما مرّ معنا ـ.
وقد تلقَّف هذه الأكاذيب والتحريفات في القرن الماضي علماء الغرب وكُتَّابه من المستشرقين والمُنَصّرين ـ إبان غزوهم واستعمارهم للبلدان الإسلامية ـ فوجدوا فيها ضالتهم ، وأخذوا يعملون على إبرازها والتركيز عليها مع ما زادوه من عندهم ـ بدافع من عصبيَّتهم وكرههم للمسلمين ـ من الكذب؛ مثل اختراع حوادث لا أصل لها ، أو التفسير المغرض للحوادث التاريخية بقصد التشويه ، أو التفسير الخاطأى تبعاً للتصور والاعتقاد الذي يدينون به ، ثم شايع هؤلاء طائفة غير قليلة من العدد من تلاميذ المستشرقين في البلاد العربية والإسلامية ، وأخذوا طرائقهم ومناهجهم في البحث ، وأفكارهم وتصوراتهم في الفهم والتحليل وتفسير التاريخ ، وحملوا الراية بعد رحيلهم عن بلاد المسلمين ، وكان ضررهم أشد وأنكى من ضرر أساتذتهم المستشرقين ، ومن ضرر أسلافهم السابقين من فرق البدع والضلال ، وذلك أنهم ادّعو ـ كأساتذتهم ـ اتباع الروح العلمية المتجردة والمنهج العلمي في البحث ، والحقيقة أن غالبيتهم لم يتجرد إلا من عقيدته ، أما التجرد بمعنى الإخلاص للحق وسلوك المنهج العلمي السليم في إثبات الواقعات التاريخية ، كالمقارنة بين الروايات ، ومعرفة قيمة المصادر التي يرجعون إليها ، ومدى أمانة الناقلين ، وضبطهم لما نقلوا ، وقياس الأخبار ، واعتبارهم بأحوال العمران البشري وطبائعه، فلا أثر له عند القوم ، فلم يتقنوا من المنهج العلمي إلا الأمور الشكلية؛ مثل الحواشي وترتيب المراجع وما شابهها ، وربما كان هذا مفهوم المنهج العلمي عندهم.
يقول محب الدين الخطيب: إن الذين تثقفوا بثقافة أجنبية عَنَّا قد غلب عليهم الوهم بأنهم غرباء عن هذا الماضي ، وأن موقفهم من رجاله كموقف وكلاء نيابة من المتهمين ، بل لقد أوغل بعضهم في الحرص على الظهور أمام الأغيار بمظهر المتجرد عن كل اصرة بماضي العروبة والإسلام ، جرياً وراء المستشرقين في ارتيابهم؛ حيث تحسّ منهم الطمأنينة وميلهم مع الهوى عندما يدعوهم الحق إلى التثبت ، وفي إنشائهم الحكم وارتياحهم إليه قبل أن تكون في أيديهم أشباه الدلائل عليه.
ومن أهم الوسائل التي اتبعها المستشرقون وتلاميذهم في تشويه وتحريف حقائق التاريخ الإسلامي: التدخل بالتفسير الخاطأى للأحداث التاريخية على وفق مقتضيات أحوال عصرهم الذي يعيشون هم فيه ، وحسبما يجول بخواطرهم ، دون أن يحققوا أولاً الواقعة التاريخية حتى تثبت ، ودون أن يراعوا ظروف العصر الذي وقعت فيه الحادثة ، وأحوال الناس وتوجهاتهم في ذلك الوقت ، والعقيدة التي تحكمهم ويدينون بها ، فإنه قبل تفسير الحادثة لا بد من ثبوت وقوعها ، وليس وجودها في كتاب من الكتب كافياً لثبوتها، لأن مرحلة الثبوت مرحلة سابقة على البحث في تفسير الواقعة التاريخية ، كما ينبغي أن يكون التفسير متمشياً مع منطوق الخبر التاريخي موضوع البحث ، ومع الطابع العام للمجتمع أو العصر والبيئة التي حدثت فيها الواقعة ، كما يشترط أن لا يكون هذا التفسير متعارضاً مع واقعة أو جملة وقائع أخرى ثابتة ، كما أنه لا ينبغي أن ينظر في التفسير إلى عامل واحد ـ كما هو ديدن كثير من المدارس التاريخية المعاصرة ـ وإنما ينظر فيه إلى جملة العوامل المؤثرة في الحدث وخاصة العوامل العقيدية والفكرية..
ثم إن التفسير التاريخي للحوادث بعد هذا كله لا يعدو كونه اجتهاداً بشرياً يحتمل الصواب والخطأ ، ولقد أبرز البعض تاريخ الفرق الضالة وعمد إلى تضخيم أدوارها وتصويرها بصورة المصلح المظلوم بأن المؤرخين المسلمين قد تحاملوا عليها ، فالقرامطة والإسماعيلية ، والرافضة الإمامية والفاطمية ، والزنج وإخوان الصفا ، والخوارج كلهم في نظرهم واعتبارهم دعاة إصلاح وعدالة وحرية ومساواة ، وثوراتهم كانت ثورات إصلاح على الظلم والجور.
فهذا الشغب والإرجاف على التاريخ الإسلامي ومزاحمة سير رجاله ودعاته بسير قادة الفرق الضالة أمر لا يستغرب من قوم لا يدنيون بالإسلام ، فهم من واقع عقيدتهم يكيدون له بكل جهد مستطاع ، ليلاً ونهاراً وسراً وجهاراً ، ولا يتوقع من مطموس الإيمان وملل الكفر إلا مناصرة إخوانهم في الضلال.
ولكن الأمر الذي قد يحدث استغراباً عند البعض: أن يحمل راية التشويه والتحريف بعد سقوط دولة الاستشراق كتَّاب يحملون أسماء إسلامية ومن أبناء المسلمين ، ويقومون بنشر مثل هذه السموم على بني جلدتهم ، ليصرفوا بها الأغرار عن الصراط المستقيم ، ولقد عمد هؤلاء إلى التشبث بالروايات المشبوهة والضعيفة والساقطة ، يلتقطونها من كتب الأدب وقصص السمر والحكايات الشعبية والكتب المنحولة والضعيفة ، فهذه الكتب هي مستنداتهم في الغالب مع ما يجدونه من الروايات المكذوبة في الطبري والمسعودي ، مع أنهم يعلمون أنها لا تعتبر مراجع علمية يعتمد عليها.
لقد وقع الاعتداء على التاريخ الإسلامي ـ خاصة تاريخ الصدر الأول ـ بالتشويه عن طريق اختيار مواقف مختارة والتركيز عليها؛ كالمعارك والحروب ، مع تصويرها على غير حقيقتها حتى تزول عنها صفة الجهاد في سبيل الله ، أو التركيز على الأحداث والفتن الداخلية بقصد إظهار خلافات الصحابة رضي الله عنهم ، وعرضها وكأنها نموذج للصراعات والمكائد السياسية في وقتنا الحاضر ، وبالتجهيل وهو إهمال كل ما هو مدعاة للاقتداء والأسوة الحسنة ، وبالتشكيك وهو توجيه السهام إلى التاريخ ورجاله وإلى المؤرخين المسلمين أنفسهم ، والتشكيك في معلوماتهم وصدقهم ، وبالتجزئة وهي محاولة تجزئة التاريخ الإسلامي إلى أوصال وأشتات ، وكأنها لا رابط بينها؛ كالتوزيع الإقليمي والعرقي ونحوه.
فكل هذه الوسائل والحملات تسعى إلى تدمير تاريخنا الإسلامي ومحو معالمه النيرة ،وإبعاده عن مجال القدوة الحسنة والتربية الصحيحة ، لذا ينبغي على المؤرخ المسلم معرفة هذه الوسائل والتنبه لها ، ومعرفة الذين تابعوا المستشرقين في ارائهم ومناهجهم ، وعدم التلقي منهم إلا بحذر شديد ، فإذا كان علماؤنا رحمهم الله قد نقدوا كثيراً من الرواة وضَعَّفُوا روايتهم بسبب أخذهم عن أهل الكتاب وروايتهم الإسرائيليات ، فإنه ينبغي لنا التوقف في قبول أقوال وتفسيرات من يتلقى من المستشرقين ، بل إسقاطها وعدم اعتبارها إلا بدليل وبرهان واضح.
يمكنكم تحميل كتاب الدولة الأموية عوامل الازدهار وتداعيات الانهيار
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي:
الجزء الأول:
http://alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC9(1).pdf
الجزء الثاني:
http://alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC139.pdf
كما يمكنكم الاطلاع على كتب ومقالات الدكتور علي محمد الصلابي من خلال الموقع التالي:
http://alsallabi.com