الإثنين

1446-11-14

|

2025-5-12

من كتاب الوسطية في القرآن الكريم
(العلم كركن من أركان الحكمة)
الحلقة: الخامسة عشر
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
صفر 1442 ه/ أكتوبر 2020
 
للحكمة أركان، ودعائم تقوم عليها، وأركانها التي تقوم عليها ثلاثة، هي: العلم، والحلم، والأناة. وافاتها، وأضدادها، ومعاول هدمها: الجهل، والطيش، والعجلة، ولا حكمة لجاهل، ولا طائش، ولا عجول.
العلم من أعظم أركان الحكمة، ولهذا أمر الله به، وأوجبه قبل القول، والعمل، فقال تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ *} [محمد: 19] وقد بوَّب الإمام البخاري ـ رحمه الله ـ لهذه الآية بقوله: (باب: العلم قبل القول والعمل).
وذلك: أنَّ الله أمر نبيَّه بأمرين: بالعلم، ثم العمل، والمبدوء به العلم في قوله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ}، ثم أعقبه بالعمل في قوله: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} فدلّ ذلك على أنَّ مرتبة العلم مقدمة على مرتبة العمل، وأنَّ العلم شرط في صحة القول، والعمل، فلا يعتبران إلا به، فهو مقدَّم عليهما؛ لأنه مصحِّح للنية المصحِّحة للعمل والعلم ما قام عليه الدليل، والنافع منه ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وقد يكون علم من غير الرسول، ولكن في أمور دنيوية، مثل الطبِّ، والحساب، والفلاحة، والتجارة. ولاشك: أنه لا ينهي عن العلم إلا قطاع الطريق، ونواب إبليس، وشرطه.
وقد قسم الإمام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ العلم النافع ـ الذي هو أحد دعائم الحكمة وأسسها ـ إلى ثلاثة أقسام، فقال ـ رحمه الله ـ: (والعلم الممدوح الذي دلَّ عليه الكتاب، والسنة هو العلم الذي ورَّثه الأنبياء، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الأنبياء لم يورثوا درهماً، ولا ديناراً، وإنما ورَّثوا العلم، فمن أخذه؛ أخذ بحظ وافر»).
وهذا العلم ثلاثة أقسام:
القسم الأول: علم بالله، وأسمائه، وصفاته، وما يتبع ذلك، وفي مثله أنزل الله سورة الإخلاص، واية الكرسي، ونحوهما.
القسم الثاني: علم بما أخبر الله به ممَّا كان من الأمور الماضية، وما يكون من الأمور المستقبلة، وما هو كائن من الأمور الحاضرة، وفي مثل هذا أنزل الله آيات القصص، والوعد، والوعيد، وصفة الجنة والنار، ونحو ذلك.
القسم الثالث: العلم بما أمر الله به من العلوم المتعلقة بالقلوب، والجوارح من الإيمان بالله من معارف القلوب وأحوالها، وأقوال الجوارح وأعمالها، وهذا يندرج فيه: العلم بأصول الإيمان، وقواعد الإسلام، ويندرج فيه العلم بالأقوال، والأفعال الظاهرة، ويندرج فيه ما وجد من كتب الفقهاء من العلم بأحكام الأفعال، فإن ذلك جزء من جزء من علم الدين.
والناس إنما يغلطون في هذه المسائل؛ لأنَّهم يفهمون مسميات الأسماء الواردة في الكتاب، والسنة، ولا يعرفون حقائق الأمور الموجودة، فَرُبَّ رجل يحفظ حروف العلم التي أعظمها حفظ حروف القرآن، ولا يكون له من الفهم، ولا من الإيمان ما يتميَّز به على من أوتي القرآن، ولم يؤت حفظ حروف العلم. قال صلى الله عليه وسلم: «مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كمثل الأترجة، ريحها طيب، وطعمها طيب. ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن كمثل التمرة لا ريح لها، وطعمها حلو، ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن كمثل الريحانة ريحها طيب، وطعمها مرٌّ، ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة ليس لها ريح، وطعمها مرٌّ».
فقد يكون الرجل حافظاً لحروف القرآن، وسوره، ولا يكون مؤمناً، بل يكون منافقاً، فالمؤمن الذي لا يحفظ حروفه، وسوره خير منه؛ وإن كان ذلك المنافق ينتفع به الغير كما ينتفع بالريحان، وأما الذي أوتي العلم، والإيمان؛ فهو مؤمن حكيم عليم، وهو أفضل من المؤمن الذي ليس مثله في العلم مع اشتراكهما في الإيمان. فهذا أصل يجب معرفته.
والعلم النافع هو أعظم أركان الحكمة التي من أوتيها؛ فقد أوتي خيراً كثيراً، وهو ما كان مقروناً بالعمل، أما العلم بلا عمل؛ فهو حجة على صاحبه يوم القيامة، ولهذا حذر الله المؤمنين من أن يقولوا ما لا يفعلون، رحمة بهم، وفضلاً منه، وإحساناً فقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ *كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ *}[الصف: 2 ـ 3].
وحذَّرهم من كتمان العلم، وأمرهم بتبليغه للبشرية على حسب الطاقة، والجهد، وعلى حسب العلم الذي أعطاهم الله عز وجل: . قال تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا ً ïإِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ *}[البقرة: 159].
وهذه الآية وإن كانت نازلة في أهل الكتاب، وما كتموه من شأن الرسول صلى الله عليه وسلم وصفاته؛ فإن حكمها عامٌّ لكل من اتصف بكتمان ما أنزل الله من البينات الدالَّة على الحق، المظهرة له، والعلم الذي تحصل به الهداية إلى الصراط المستقيم، ويتبيَّن به طريق أهل النعيم من طريق أهل الجحيم، ومن نبذ ذلك، وجمع بين المفسدتين ـ كَتْمُ ما أنزل الله، والغش لعباد الله ـ لعنه الله، ولعنه جميع الخليقة؛ لسعيهم في غش الخلق وفساد دينهم، وإبعادهم عن رحمة الله، فجُوزوا من جنس عملهم، كما أنَّ معلم الناس الخير يستغفر له كلُّ شيء؛ حتى الحوت في الماء، والطير في الهواء لسعيه في مصلحة الخلق، وإصلاح دينهم؛ ولأنه قرَّبهم من رحمة الله، فجوزي من جنس عمله.
وقد بيَّن صلى الله عليه وسلم: أنَّ «من سئل عن علم يعلمه، فكتمه؛ ألجِم يوم القيامة بلجام من نار». فتبين بذلك، وغيره: أنَّ العلم النافع الذي هو أحد أركان الحكمة لا يكون إلا مع العمل به، ولهذا قال سفيان في العمل بالعلم، والحرص عليه: (أجهل الناس من ترك ما يعلم، وأعلم الناس من عمل بما يعلم، وأفضل الناس أخشعهم لله). وقال ـ رحمه الله ـ: (يراد للعلم: الحفظ، والعمل، والاستماع، والإنصات، والنشر).
وقال الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ: (تعلموا، تعلموا، فإذا علمتم؛ فاعملوا).
وقال ـ رضي الله عنه ـ: (إن الناس أحسنوا القول كلهم، فمن وافق فعلُه قولَه؛ فذلك الذي أصاب حظه، ومن خالف قولَه فعلُه؛ فإنما يوبخ نفسه).
وقال عليُّ بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ: (يا حملة العلم اعملوا به، فإنما العالم من علم، ثم عمل، ووافق علمه عمله، وسيكون أقوام يحملون العلم لا يجاوز تراقيهم، تخالف سريرتهم علانيتهم، ويخالف عملهم علمهم، يقعدون حلقاً، فيضاهي بعضهم بعضاً، حتى إن الرجل ليغضب على جليسه أن يجلس إلى غيره، ويدعه، أولئك لا تصعد أعمالهم في مجالسهم تلك إلى الله، عز وجل).
وقال أبو الدرداء ـ رضي الله عنه ـ: (لا تكون تقيّاً؛ حتى تكون عالماً، ولا تكون بالعلم جميلاً؛ حتى تكون به عاملاً).
قال الشاعر:
إذا العلم لم تعمل به كان حُجَّةً عليك ولم تعذر بما أنت جاهله
فإن كنت قد أوتيت علماً فإنما يُصدِّق قولَ المرء ما هو فاعله
وبهذا يتضح: أن العلم لا يكون من دعائم الحكمة ـ التي هي من ملامح الوسطيَّة ـ إلا باقترانه بالعمل، وقد كان علم السلف الصالح ـ وعلى رأسهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ـ مقروناً بالعمل، ولهذا كانت أقوالهم، وأفعالهم، وسائر تصرفاتهم تزخر بالحكمة، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «لا حسد إلا في اثنتين: رجل اتاه الله مالاً فسلَّطه على هلكته في الحق، ورجل اتاه الله الحكمة، فهو يقضي بها، ويعلمها».
وقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عباس ـ رضي الله عنهما ـ بالحكمة، والفقه في الدين، فقال صلى الله عليه وسلم: «اللهم علِّمْهُ الحكمة» وفي لفظ: «اللهم علمه الكتاب» وفي لفظ: «اللهم فقهه في الدين».
فكان ـ رضي الله عنه ـ حبراً للأمة في علم الكتاب، والسنة، والعمل بهما استجابة لدعوة النبي صلى الله عليه وسلم.
أسباب وطرق تحصيل العلم:
والعلم النافع له أسباب يُنال بها، وطرق تُسلك في تحصيله، وحفظه، من أهمها:
1 ـ أن يسأل العبد ربه العلم النافع، ويستعين به تعالى، ويفتقر إليه، وقد أمر الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بسؤاله أن يزيده علماً إلى علمه.
فقال تعالى: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا *} [طه: 114] وقد كان صلى الله عليه وسلم يقول: اللهم انفعني بما علمتني، وعلِّمني ما ينفعني، وزدني علماً».
2 ـ ومنها الاجتهاد في طلب العلم، والشوق إليه، والرغبة الصادقة فيه ابتغاء مرضاة الله تعالى، وبذل جميع الأسباب في طلب الكتاب، والسنة وقد جاء رجل إلى أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ فقال: (إني أريد أن أتعلم العلم، وأخاف أن أضيعه! فقال أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ: كفى بتركك له تضييعاً). ولهذا قال بعض الحكماء عندما سئل: ما السبب الذي ينال به العلم؟ قال: بالحرص عليه يتبع، وبالحبِّ له يستمع، والفراغ له يجتمع، علِّم علمك من يجهل، وتعلَّم ممن يعمل، فإنك إن فعلت ذلك؛ علمت ما جهلت، وحفظت ما علمت.
ولهذا قال الإمام الشافعي ـ رحمه الله ـ:
أخي لن تنال العلم إلا بستَّةٍ سأنبيك عن تفصيلها ببيان
ذكاء وحرص واجتهاد وبلغة وصحبة أستاذ وطول زمان
3 ـ ومنها: اجتناب جميع المعاصي بتقوى الله تعالى، فإن ذلك من أعظم الوسائل إلى حصول العلم، كما قال تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيءٍ عَلِيمٌ } [البقرة: 282] وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً} [الأنفال: 29] واضح بيِّن: أنَّ من اتقى الله جعل له علماً يفرق به بين الحق والباطل. ولهذا قال عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ: (إني لأحسب: أن الرجل ينسى العلم قد علمه بالذنب يعمله).
وقال عمر بن عبد العزيز ـ رحمه الله ـ: (خمس إذا أخطأ القاضي منهنَّ خطة؛ كانت فيه وصمة: أن يكون فهماً، حليماً، عفيفاً، صلباً عالماً سؤولاً عن العلم).
وقال الإمام الشافعي رحمه الله:
شكوت إلى وكيع سوء حفظي فأرشدني إلى ترك المعاصي
وأخــــبرني بأنَّ العلـــــــــــــمَ نــــــــــــــــور ونور الله لا يُهدى لعاصِي
وقال الإمام مالك للإمام الشافعي ـ رحمهما الله تعالى ـ: (إني أرى الله قد جعل في قلبك نوراً، فلا تطفئه بظلمة المعصية).
4 ـ ومنها: عدم الكبر، والحياء عن طلب العلم، ولهذا قالت عائشة ـ رضي الله عنها ـ: (نعم النساء
نساء الأنصار، لم يمنعهن الحياء أن يتفقَّهن في الدين).وقال مجاهد: (لا يتعلم العلم مستحيي ولا مستكبر).
5 ـ ومنها: بل أعظمها، ولبها: الإخلاص في طلب العلم، قال صلى الله عليه وسلم: «من تعلم علماً مما يُبتغى به وجه الله، عز وجل، لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضاً من الدنيا؛ لم يجد عرف الجنة يوم القيامة»، يعني: ريحها.
6 ـ العمل بالعلم: ومما تقدَّم يتضح: أنَّ العلم لا يكون ركناً من أركان الحكمة ودعائمها إلا بالعمل، والإخلاص، والمتابعة، وبذلك تدخل هذه الأمور في ملامح الوسطيَّة.
 
يمكنكم تحميل كتاب :الوسطية في القرآن الكريم
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022