من كتاب الوسطية في القرآن الكريم
الاستقامة
الحلقة: الثامنة عشر
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
صفر 1442 ه/ أكتوبر 2020
الوسطيَّة استقامة، ولو لم تكن على نهج الاستقامة؛ لكانت انحرافاً، والانحراف إما إفراط، أو تفريط، كما سبق بيان ذلك، وهناك شعور لدى بعض الناس: أنَّ الوسطيَّة تعني التنازل ـ ولو قليلاً ـ عن حقيقة الأمر، والنهي، ولقد عبَّر أحد الباحثين عن هذا الشعور الذي يختلج في صدور بعض الناس؛ حيث طرح سؤالاً، وردَّ عليه، ومما قاله: هل المقصود بالوسطيَّة مرونة الأمة، بحيث لا تصطدم بالأفكار والمبادئ الأخرى عند الالتقاء بها، بل قابليتها للأخذ، والعطاء، والتنازل عن جزء ممَّا عندها، من أجل تنازل الطرف الاخر، والالتقاء عند نقطة وسط ترضي جميع الأطراف؟
ثم رد على هذا المسلك وبيَّن مخالفته لحقيقة الوسطيَّة ومن هنا فإنَّ من ملامح الوسطيَّة بل وضوابطها: الاستقامة، ولذلك فمن ادَّعى الوسطيَّة مع خروجه عن الاستقامة؛ فهذه ليست الوسطيَّة الشرعية في شيء، بل هي وسطية نسبية غير التي نتحدَّث عنها.
أدلة القرآن
ولذا فإنَّ من المناسب ـ ونحن نتحدث عن ملامح الوسطيَّة ـ أن أبيِّن معنى الاستقامة وحدودها؛ ليتضح المراد: فقد وردت آيات كثيرة تأمر بالاستقامة، وتحثُّ عليها، فالله جل وعلا يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْا}[هود: 112] وفي سورة الشورى: {فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [الشورى:15] .
وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلاَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ } [فصلت: 30] وفي سورة الجن: { * وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا } [الجن: 16] وفي سورة فصلت: { قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ} [فصلت: 6] فهذه الآيات وغيرها تبيِّن منزلة الاستقامة ومكانتها، وبما أن لزوم الصراط المستقيم استقامة على دين الله وشرعه، وهذا عين الوسطيَّة وجوهرها، ولذلك لابدَّ من إيضاح الاستقامة.
تعريف الاستقامة:
قال الراغب: استقامة الإنسان: لزومه للمنهج المستقيم، نحو: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [فصلت:30].
وقال ابن القيم: (الاستقامة ضدُّ الطغيان، وهو مجاوزة الحدود في كل شيء).
وقال القرطبي: الاستقامة: الاستمرار في جهة واحدة من غير أخذ في جهة اليمين والشمال. وسئل صِديِّق الأمة وأعظمها استقامة أبو بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ عن الاستقامة؟ فقال: (أن لا تشرك بالله شيئاً) يريد الاستقامة على محض التوحيد، فإنَّ من استقام على محض التوحيد الصادق الذي يدين به الصِّديق، واستقام له توحيده على العلم الصادق بأسماء الله، وصفاته، واثارها في الأنفس والآفاق؛ استقام في كل شأنه على الصراط المستقيم، فاستقام له كلُّ عمل، وكلُّ حال.
أدلَّة السُّنَّة
في صحيح مسلم: عن سفيان بن عبد الله ـ رضي الله عنه ـ قال: قلت: يا رسول الله! قل لي في الإسـلام قولاً لا أسأل عنـه أحداً غيرك! قال: «قـل امنت بالله، ثم استقم».
وعن ثوبان ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «استقيموا، ولن تُحْصوا، واعلموا: أنَّ خير أعمالكم الصلاة، ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن».
وفي صحيح مسلم: عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سدِّدوا، وقاربوا، واعلموا: أنه لن ينجو أحد منكم بعمله»، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟! قال: «ولا أنا، إلا أن يتغمَّدني الله برحمة منه، وفضل».
وفي مسند الإمام أحمد عن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه».
وفي رواية الترمذي عن أبي سعيد مرفوعاً، وموقوفاً: «إذا أصبح ابن ادم؛ فإن الأعضاء كلها تكفر اللسان، فتقول: اتق الله فينا، فإنما نحن بك، فإن استقمت؛ استقمنا، وإن اعوججت؛ اعوججنا».
وروى الترمذي عن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ: « {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} قال: قد قالها الناس ، ثم كفر أكثرهم، فمن مات عليها؛ فهو ممَّن استقام».
أقوال العلماء في الاستقامة
وقال عمر ـ رضي الله عنه ـ: (الاستقامة أن تستقيم على الأمر والنهي، ولا تروغ روغان الثعالب).
وقال عثمان بن عفان ـ رضي الله عنه ـ: (استقاموا: أخلصوا العمل لله).
وقال علي بن أبي طالب، وابن عباس ـ رضي الله عنهم ـ: (استقاموا: أدوا الفرائض) وقال الحسن: (استقاموا على أمر الله، فعملوا بطاعته، واجتنبوا معصيته). وقال مجاهد: (استقاموا على شهادة أن لا إله إلا الله حتى لحقوا بالله).
وقال ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: (استقاموا على محبته، وعبوديته، فلم يلتفتوا عنه يمنةً، ولا يسرة).
وقال ابن القيم: (فالاستقامة كلمة جامعة، اخذة بمجامع الدين، وهي القيام بين يدي الله على حقيقة الصدق، والوفاء، والاستقامة تتعلق بالأقوال، والأفعال، والأحوال، والنيات، فالاستقامة فيها وقوعها لله، وبالله، وعلى أمر الله. ثم قال: سمعت شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ يقول: أعظم الكرامة لزوم الاستقامة).
وهذه المعاني متقاربة، ويفسِّر بعضها بعضاً.وأختم الكلام عن الاستقامة بما قاله ابن القيِّم في مدارج السالكين مما يتضح معه علاقة الاستقامة بالوسطيَّة، وأنه لا استقامة بلا وسطية، ولا وسطية بدون استقامة، قال: (وهي ـ أي: الاستقامة ـ على ثلاث درجات الدرجة الأولى: الاستقامة على الاجتهاد في الاقتصاد، ولا عادياً رسم العلم، ولا متجاوزاً حدَّ الإخلاص، ولا مخالفاً نهج السنة).
قال ابن القيِّم شارحاً قول الهروي:(هذه درجة تتضمَّن ستة أمور: عملاً، واجتهاداً فيه، وهو بذل المجهود، واقتصاداً، وهو السلوك بين طرفي الإفراط ـ وهو الجور على النفس ـ والتفريط بالإضاعة. ووقوفاً مع ما يرسمه العلم، لا وقوفاً مع داعي الحال، وإفراد المعبود بالإرادة، وهو الإخلاص، ووقوع الأعمال على الأمر، وهو متابعة السنة، فبهذه الأمور الستة تتمُّ لأهل هذه الدرجة استقامتهم، وبالخروج عن واحدٍ منها يخرجون عن الاستقامة، إما خروجاً كليّاً، وإما خروجاً جزئيّاً.
والسلف يذكرون هذين الأصلين كثيراً، وهما: الاقتصاد في الأعمال، والاعتصام بالسنة، فإن الشيطان يشمُّ قلب العبد، ويختبره، فإن رأى فيه داعية للبدعة، وإعراضاً عن كمال الانقياد للسنة؛ أخرجه عن الاعتصام بها، وإن رأى فيه حصراً على السنة، وشدة طلب لها؛ لم يظفر به من باب اقتطاعه عنها، فأمره بالاجتهاد، والجور على النفس، ومجاوزة حد الاقتصاد فيها، قائلاً له: إن هذا خير وطاعة، والزيادة والاجتهاد فيها أكمل، فلا تفتر مع أهل الفتور، ولا تنم مع أهل النوم، فلا يزال يحثُّه، ويحرِّضه، حتى يخرجه عن الاقتصاد فيها، فيخرج عن حدِّها، وكما أنَّ الأول خارج عن هذا الحد؛ فكذلك هذا الآخر خارج عن الحد الآخر).
وهذا حال الخوارج الذين يحقر أهل الاستقامة صلاتهم مع صلاتهم، وصيامهم مع صيامهم، وقراءتهم مع قراءتهم، وكلا الأمرين خروج عن السنة إلى البدعة، لكن هذا إلى بدعة التفريط، والإضاعة، والاخر إلى بدعة المجاوزة، والإسراف. وقال بعض السلف: (ما أمر الله بأمر إلا وللشيطان فيه نزغتان: إما إلى تفريط، وإما إلى مجاوزة، وهي الإفراط، ولا يبالي بأيهما ظفر: زيادة، أو نقصان). وهذا الكلام عن الاستقامة هو عين الوسطيَّة وجوهرها.
يمكنكم تحميل كتاب :الوسطية في القرآن الكريم
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي