الإثنين

1446-11-14

|

2025-5-12

من كتاب الوسطية في القرآن الكريم

(أنواع الحكمة)

الحلقة: الرابعة عشر

بقلم الدكتور علي محمد الصلابي

صفر 1442 ه/ أكتوبر 2020


النوع الأول: حكمة علمية نظرية، وهي الاطلاع على بواطن الأشياء، ومعرفة ارتباط الأسباب بمسبباتها خلقاً، وأمراً، وقدراً، وشرعاً.
النوع الثاني: حكمة عملية، وهي وضع الشيء في موضعه.
فالحكمة النظرية مرجعها إلى العالم، والإدراك، والحكمة العملية مرجعها إلى فعل العدل، والصواب، ولا يمكن خروج الحكمة عن هذين المعنيين؛ لأن كمال الإنسان في أمرين: أن يعرف الحقَّ لذاته، وأن يعمل به، وهذا هو العلم النافع، والعمل الصالح.
وقد أعطى الله عز وجل أنبياءه، ورسله، ومن شاء من عباده الصالحين هذين النوعين، قال تعالى عن إبراهيم عليه السلام في [سورة الشعراء: 83]: {رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا}، وهو الحكمة النظرية {وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ *} وهو الحكمة العملية.
وقال تعالى لموسى عليه السلام في [سورة طه: 14]: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا }وهو الحكمة النظرية {فَاعْبُدْنِي}وهو الحكمة العملية .
وقال عن عيسى عليه السلام في [سورة مريم: 30 ـ 31]: {إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا *} وهي الحكمة النظرية {وَأَوْصَانِي بِالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا *} وهو الحكمة العملية .
وقال في شأن محمد (ص) في [سورة محمد: 19]: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ }وهو الحكمة النظرية و{َاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} وهو الحكمة العملية .
وقال في جميع الأنبياء في [سورة النحل: 2]: {يُنَزِّلُ الْمَلاَئِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّه لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا}وهو الحكمة النظرية ، ثم قال: {فَاتقون}وهو الحكمة العملية .
الحكمة العملية لها ثلاث درجات:
الدرجة الأولى: أن تعطي كل شيء حقَّه، ولا تعدِّيه حدَّه، ولا تعجله عن وقته، ولا تؤخره عنه. لما كانت الأشياء لها مراتب، وحقوق تقتضيها، ولها حدود، ونهايات تصل إليها، ولا تتعداها، ولها أوقات لا تتقدم، ولا تتأخر؛ كانت الحكمة مراعاة هذه الجهات الثلاث بأن تعطي كل مرتبة حقها الذي أحقه الله لها بشرعه، وقدره، ولا تتعدَّى بها حدَّها، فتكون متعدياً مخالفاً للحكمة، ولا تطلب تعجيلها عن وقتها، فتخالف الحكمة، ولا تؤخرها عنه، فتفوتها، وهذا حكم عام لجميع الأسباب مع مسبباتها شرعاً، وقدراً، فإضاعتها تعطيل للحكمة بمنزلة إضاعة البذر، وسقي الأرض، وتعدي الحق كسقيها فوق حاجتها، بحيث يغرق البذر والزرع، ويفسد، وتعجيلها قبل وقتها كحصاده قبل إدراكه وكماله، وهذا يكون فعل ما ينبغي على الوجه الأكمل في الوقت المناسب.
الدرجة الثانية: معرفة عدل الله في وعيده، وإحسانه في وعده، وعدله في أحكامه الشرعية، والكونية الجارية على الخلائق، فإنه لا ظلم فيها، ولا جور.
قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا *}[النساء: 40]، وكذلك معرفة بره في منعه، فإنه سبحانه هو الجواد الذي لا ينقص خزائنه الإنفاقُ، ولا يغيض ما في يمينه سعةُ عطائه، فهو سبحانه لا يضع بره، وفضله إلا في موضعه، ووقته بقدر ما تقتضيه حكمته، فما أعطى إلا بحكمته، ولا منع إلا بحكمته، ولا هدى، ولا أضلَّ إلا بحكمته.
الدرجة الثالثة: البصيرة، وهي قوة الإدراك، والفطنة، والعلم، والخبرة. والبصيرة هي أعلى درجات العلم التي تكون نسبة العلم فيها إلى القلب كنسبة المرئي إلى البصر، وهذه الخصيصة التي اختص بها الصحابة عن سائر الأمة ثم المخلصين من أتباع النبي (ص) وهي أعلى درجات العلماء. قال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ *} [يوسف: 108] فقد أمر الله رسوله (ص) أن يخبر الناس: أنَّ هذه طريقته، ومسلكه، وسنته، وهي الدعوة إلى شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يدعو إلى الله على بصيرة من ذلك، ويقين، وبرهان، وعلم، وكل من اتبعه يدعو إلى ما دعا إليه رسول الله (ص) على بصيرة، ويقين، وبرهان عقليٍّ، وشرعي.
والبصيرة في الدعوة إلى الله تنقسم إلى ثلاثة أمور:
الأمر الأول: أن يدعو الداعية على بصيرة فيما يدعو إليه بأن يكون عالماً بالحكم الشرعي فيما يدعو إليه ؛ لأنه قد يدعو إلى شيء يظنُّه واجباً؛ وهو في شرع الله غير واجب، فيلزم عباد الله بما لم يلزمهم الله به، وقد يدعو إلى ترك شيء يظنه محرماً؛ وهو في دين الله غير محرم، فيحرم على عباد الله ما أحلَّه الله لهم.
الأمر الثاني: أن يكون على بصيرة بحال المدعو، فلابدَّ من معرفة حال المدعو: الدينية، والاجتماعية، والاعتقادية، والنفسية، والعلمية، والاقتصادية ؛ حتى يقدِّم له ما يناسبه.
الأمر الثالث: أن يكون على بصيرة في كيفية الدعوة، وقد رسم الله طرق الدعوة، ومسالكها في آيات كثيرة منها: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} [يوسف: 108] وهذه قاعدة قوية متينة في الدعوة إلى الله تعالى، ثم تكون هذه القاعدة متفرعة إلى ثلاثة أبواب: وهي: الدعوة إلى الله بالحكمة، والموعظة الحسنة، والجدال بالتي هي أحسن. قال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}[النحل: 125].
أما الباب الرابع: في الدعوة إلى الله باستخدام القوَّة عند الحاجة إليها، كما قال تعالى: {وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} [العنكبوت: 46] ولاشك: أن أحسن الطرق في دعوة الناس طريقة القرآن، ومخاطبته لهم، ومجادلتهم.


يمكنكم تحميل كتاب :الوسطية في القرآن الكريم
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي
http://alsallabi.com/uploads/file/doc/29.pdf


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022