الأربعاء

1446-11-02

|

2025-4-30

(ضرورة الاهتمام بالسياحة في الدولة الحديثة المسلمة)

من كتاب الدولة الحديثة المسلمة دعائمها ووظائفها:

الحلقة: الثالثة والسبعون

بقلم الدكتور علي محمد الصلابي

ربيع الأول 1443 ه/ نوفبر2021

قال تعالى: ﴿التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ التوبة ، آية : 112).

وفي هذه الآية أوصاف امتدح الله بها عباده المؤمنين ومن تلك الصفات ﴿السَّائِحُونَ﴾.

وقال تعالى: ﴿عَسَى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِّنكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا﴾ (التحريم ، آية : 5).

وسبب نزول هذه الآية إن نساء النبي صلى الله عليه وسلم اجتمعن في الغيرة عليه، فقال عمر رضي الله عنه لهن: عسى ربه إن طلقكن أن يبد له أزواجاً خيراً منكن" فنزلت الآية(1).

وفيها وصف للنساء اللائي يتزوجهن الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن تلك الصفات أنهن (سَائِحَاتٍ)، وتنوعت أقوال المفسرين في المراد بالسياحة في هاتين الآيتين على عدة أقوال، فقيل: إنها الصيام، وقيل: الجهاد في سبيل الله، وقيل: الهجرة، وقيل السفر لطلب العلم، وقيل: الجولات بالفكر في توحيد الله، وقيل: السير في الأرض للاعتبار(2).

وهذه التفسيرات تدخل في خلاف التنوع لا خلاف التضاد، وحديثنا هنا عن السياحة بمعنى السير في الأرض، واللسان العربي يدل بوضوح على أن معنى السياحة هو السير في الأرض، والقرآن الكريم يدعم هذا الاتجاه، قال تعالى: ﴿قُلْ سِيرُواْ فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ﴾ (الأنعام ، آية : 11).

وقال تعالى: ﴿قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ (العنكبوت ، آية : 20).

إن القول بأن السياحة هو السير في الأرض لا ينفي إرادة الآية لبعض ما قد تتضمنه السياحة من فرائض الدين وشعب الإيمان، كالجهاد في سبيل الله، أو الهجرة، أو السفر لطلب العلم أو الجولان بالفكر، فهذه المعاني منها ما هو قريب جداً من معنى السير، ومنها ما هو البعيد عنه دون نفرة منه، غير أن كل هذه الشعائر في القريب منها والبعيد يشملها معنى السير في الأرض(3).

والسياحة في المفهوم الإسلامي لها ضوابط منها المتعلقة بالسائح، وعلى سبيل الذكر، كإحسان القصد في السياحة، أن لا تفضي السياحة إلى الوقوع في المحذور الشرعي، اكتمال شروط السفر بالنسبة للمرأة السائحة، تحمل السائح مسؤولياته في الدعوة وقيامه بها، واتباع السائح للأنظمة المتعلقة بالسياحة التي لا تخالف الشريعة الإسلامية.

وهناك ضوابط للسياحة متعلقة بالمكان (الموقع السياحي) ومنها، أن يكون الموقع السياحي مباحاً، وأن يكون مأمون الفتنة على الضرورات الخمس، الدين، النفس، العقل، العرض والمال. وعدم غلبة الوصف الممنوع شرعاً على الموقع السياحي المباح وأن يراعي الموقع السياحي خصوصية المجتمع المسلم.

أ ـ الترويح على النفس أمر فطري:

طلب الترويح أمر فطري في الإنسان، ولذا فإن الإسلام، وهو دين الفطرة يقر مبدأ الترويح عن النفس، ومن المعلوم أن قدوتنا في الحفاظ على الزمن وإعماره على الوجه الشرعي الصحيح هو نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، والناظر في سيرته صلى الله عليه وسلم يجد أن من جملة هديه مؤانسته لأهله ومداعبته إياهم، وإدخال السرور عليهم، وكان ذلك إدراكاً منه لحقيقة النفس البشرية، فتمكين القلوب من حقها في الراحة، وترويح النفس بالمباح يجعل المرء أكثر مواصلة على العطاء والاجتهاد فيه، فالمرء غير مضيِّع لعمره، إن تفكَّه أو مازح، أو ساح ضمن ضوابط الشرع، ولكنه من غير شك من أشد الناس ضياعاً لعمره إن كان ديدنه وشغله وخلقه. وذكر ابن عاشور رحمه الله تعالى عند قوله تعالى: ﴿أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ (يوسف ، آية : 12).

إن المُراد بذلك الاستجمام ورفع السآمة، وقال وهو مباح في جميع الشرائع إذا لم يكن دأباً(4).

وقد نص الفقهاء على إباحة الترويح المتمثل في النزهة والفرجة خاصة، وجعلوا السفر لطلب ذلك مثالاً من أمثلة السفر المباح(5).

ب ـ التفكر في الكون من دوافع السياحة:

قال تعالى: ﴿قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ (العنكبوت ، آية : 20)، ولا ريب أن الأمر بالنظر في مخلوقات الله يفيد السائح تعظيم الله من خلال تأمله وتفكره فيما ذرأ في الأرض من مخلوقات، وتلك المخلوقات التي أمرنا بالنظر إليها متعددة في شأن الإنسان، قال تعالى: ﴿فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ﴾ (عبس ، آية : 24).

وقال: ﴿وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ﴾ (الذاريات ، آية : 31).

وفي شأن الحيوانات قال تعالى: ﴿أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ﴾ (الغاشية ، آية : 17).

كما أمر بالنظر إلى آثار رحمته فقال تعالى: ﴿فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ (الروم ، آية : 50).

وفي النظر في الآفاق قال تعالى: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ (فصلت ، آية : 53).

فالآيات الآمرة بالنظر إلى الإنسان والنبات، والحيوان، وآثار رحمته والآفاق والكون وغير ذلك.. تهدي السائح إلى السير للوقوف على هذه المشاهد التي قد لا يكون بعضها في أرضه، فلا شك أن الأرض قطع متجاورات بعضها، فأرض فيها سهل وجبل، وأرض فيها بر وبحر، وأرض فيها عيون متفجرة ومعادن مفتنة وأخرى منها مساقط مياه، وأرض فيها دواب منبثة، وأخرى تتميز بتكوينات الأرض الفريدة، وأخرى أرضها ممهدة بألوان النبات وأنواع الأشجار وأصناف الثمار المختلفة الألوان والروائح، والوقوف على ذلك للنظر إليه بعين البصر والبصيرة يتطلب السير والسياحة(6).

فالسياحة بدافع التأمل والتفكر المفضية إلى زيادة الإيمان ورسوخ اليقين من الأعمال التي جاء الترغيب بها في الإسلام، وهذا يتطلب حفظ العقل من كل ما يأثر فيه حتى يقوم بوظيفته في التفكر.

جـ ـ دافع الاعتبار:

من أهم دوافع السياحة الوقوف على أحوال الأمم البائدة للاعتبار، وقد جاء القرآن الكريم في كثير من آياته مرغباً في ذلك قال تعالى: ﴿أَوَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُم مِّنَ اللهِ مِن وَاقٍ﴾ (غافر ، آية : 21).

وقال تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ (الروم ، آية : 9).

واستدُل بهذه الآيات على استحباب السياحة في الأرض وتطلب الآثار ـ داخل الدولة الإسلامية وفي العالم ـ والتشجيع عليها.

د ـ الدعوة للتميز العالمي في مفهوم السياحة:

عندما تضع الدولة أنظمة وقوانين ولوائح متعلقة بالسياحة لا تخالف الشرع الإسلامي يعطيها تميزاً عالمياً في الجذب السياحي، فلا شك أن المواقع السياحية، التي تحقق تعاليم الإسلام وتسترشد به تؤثر تأثيراً بالغاً في السائح، وفي الموقع السياحي من جهة أخرى فتعزز العبودية لله في نفس السائح وتزكيها وتصلح جوانب منها تثمر في صلاحه وإنسانيته وسلوكه البشري وتؤثر أيضاً في الموقع السياحي بما تزيل من أسباب الإسائة والاعوجاج السلوكي بداية من القصد من السياحة ونهاية السلوك العملي حيث تهيىء بمجموع ذلك كله مكاناً مستقراً يأمن الناس فيه على أعراضهم وأنفسهم وعقولهم وأموالهم، وهي بهذا الإرساء الخلقي والأمني تكون علامة أمان من عذاب إلهي بإذن الله تعالى، وتسهم في نماء الموقع السياحي والمحافظة عليه من العبث في الاستخدام والإسراف والتبذير.

ولاشك أن التميز العالمي في مفهوم السياحة التي تقدمها الدول الإسلامية للمسلمين وغيرهم يحقق حاجات السائح النفسية والجسدية، وهذه الحاجات من عوامل الجذب التي تساهم في إيجاد منتج سياحي فريد من نوعه ينسجم مع تعاليم ديننا وحضارتنا وقيمنا وتقاليدنا وأعراضنا، وتقدم للسائحين الجمال والمتعة والبهجة في دائرة المباح شرعاً وعقلاً.

وبدلاً من أن تقدم لهم الخمور وغيرها من المحرمات ونشرع ونقنن ونصدر لوائح من أجل تقديمها للسوَّاح، نعرض عليهم ونقدم لهم أساليب حضارية متقدمة من خلال مثقفينا وعلمائنا وأبناء شعبنا المتواجدين في المواقع السياحية وغيرها أهم ما في الوجود ((الإسلام العظيم)) الذي يدين به هذا الشعب العظيم والذي يتفق مع العاطفة والعقل والحس الإنساني، فالكثير من السائحين قد ملَّ طرق الخمور والرذائل والفحش والتهتك والخلاعة والمجون، ويبحث عن السعادة الحقيقية الغافلون عنها، والتي تكفل لهم العيش الرغيد المطمئن، وغافلون عن منهج الحياة الذي يرسم لهم طريق الحرية الحقيقة من الشهوات والأهواء التي أسرت قلوبهم وعقولهم بالعبودية المطلقة لغير الله، وغافلون عن الطريق التي توصل إلى جنات الخلد(7).

قال تعالى: ﴿فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى﴾ (طه ، آية : 123).

ولذلك نحسن للسائحين الأجانب ونجزل لهم العطاء الثمين، مع روائع بلادنا السياحية في الواحات والجبال والسهول والمدن.

إن الهداية ضالة كل البشر، تتبع أهميتها من تطلعات العالم المتيقظ اليوم لمعالم السعادة وبحثه عن الحقيقة في كل مسلك سواء كان مكثاً أو إقامة أو سفر أو سياحة، والعالم يتطلع بلسان الحال اليوم إلى من يهديه إلى الحق في عصر ساد فيه الجفاف الروحي والانقطاع عن الله والصدود عن تراث النبيين.

وما الذي يمنع أن تكون بلاد ودول المسلمين عامل مهم في تحقيق الهدف من تذوق الجمال بأبعاده المختلفة وتحقيق المتعة الحقيقية التي ترشد السياح إلى الآخرة وعالمها وفي نفس الوقت تمكنهم من استشعار الجديد فتلتقي لدى جواب الآفاق منهم البهجة والمتعة مع الهداية والسعادة التي طالما يبحث عنها أي إنسان(?.

مراجع الحلقة الثالثة والسبعون:

( ) أخرجه البخاري، الحديث رقم: 4916.

(2) السياحة، د. علي بن أحمد، ص: 38.

(3) المصدر نفسه.

(4) التحرير والتنوير (12 / 29).

(5) السياحة، ص: 222.

(6) إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم لأبي السعود (8 / 139).

(7) السياحة، ص: 737.

(? المصدر نفسه، ص: 239.

يمكنكم تحميل كتاب الدولة الحديثة المسلمة دعائمها ووظائفها

من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي:

http://alsallabi.com/uploads/file/doc/Book157.pdf

كما يمكنكم الإطلاع على كتب ومقالات الدكتور علي محمد الصلابي من خلال الموقع التالي:

http://alsallabi.com


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022