(الاستشفاء بالقرآن ليس قصراً على الرقية به)
من كتاب الدولة الحديثة المسلمة دعائمها ووظائفها:
الحلقة: الثانية والسبعون
بقلم الدكتور: علي محمد الصلابي
ربيع الأول 1443 ه/ نوفمبر 2021
ما قرره الحق تبارك وتعالى من كون القرآن شفاء ليس قصراً على قراءة القرآن على المريض، بل هي دائرة أوسع من ذلك بكثير، ويمكننا أن ندرك سعة هذه الدائرة من خلال الأمور الآتية:
الأول: دلالة القرآن على قواعد العلاج وأصوله:
حوت النصوص من الكتاب والسنة الأصول والقواعد التي تدل على كيفية معالجة الأبدان، بل دلت على تفاصيل مهمة في علاج الأمراض وفي ذلك يقول ابن القيم، قواعد طب الأبدان ثلاثة: حفظ الصحة، والحمية على المؤذي، واستفراغ المواد الفاسدة، وذكر المولى تبارك وتعالى هذه الأصول الثلاثة في ثلاثة مواضع.
ـ فقال في آية الصوم: ﴿وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾ (البقرة ، آية : 185).
فأباح الفطر للمريض لعذر المرض، وللمسافر طلباً لحفظ صحته وقوته لئلا يذهبها الصوم في السفر لاجتماع شدة الحركة، وما يوجبه من التحلل وعدم الغذاء الذي يخلف ما تحلل، فتخور القوة وتضعف، فأباح للمسافر الفطر حفاظاً لصحته وقوته عما يضعفها.
ـ وقال في آية الحج: ﴿فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ﴾ (البقرة ، آية : 196). فأباح للمريض، ومن به أذى من رأسه من قمل أو حكة أو غيرهما أن يحلق رأسه في الإحرام استفراغاً لمادة الأبخرة الرديئة التي أوجبت له الأذى في رأسه باحتقانها تحت الشعر، فإذا حلق رأسه، ففتحت المسام، فخرجت بتلك الأبخرة منها، فهذا الاستفراغ يقاس عليه كل استفراغ يؤذي انحباسه.
والأشياء التي يؤذي انحباسها ومدافعتها عشر: الدم إذا هاج، والمني إذا سيغ، والبول، والغائط، والريح، والقيء، والعطاس، والنوم، والجوع والعطش.
وكل واحد من هذه العشرة يوجب حبسه داء من الأدواء وقد نبه سبحانه باستفراغ أدناها، وهو البخار المحتقن في الرأس على استفراغ ما هو أصعب منه، كما هي طريقة القرآن التنبيه بالأدنى على الأعلى.
وأما الحمية فقال في آية الوضوء: ﴿وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مِّنكُم مِّن الْغَآئِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا﴾ (النساء ، آية : 43).
فأباح للمريض العدول عن الماء إلى التراب حمية له أن يصيب جسده ما يؤذيه، وهذا تنبيه على الحمية من كل مؤذ له من داخل أو خارج(1).
وقد عقب ابن القيم على كلامه هذا الذي نقلناه عنه بقوله: فقد أرشد سبحانه عباده إلى أصول الطب الثلاثة ومجامع قواعده(2).
وقد أطال ابن القيم بعد ذلك في ذكر هدي النبي صلى الله عليه وسلم في الطب والمعالجة في نفسه وأهله وأصحابه، وذكر في ذلك هديه في الأمر بالتداوي في معالجة استطلاق البطن، والطاعون، وداء الاستسقاء، وهديه بالمعالجة بالعسل والحجامة والكي، وهديه في معالجة الصرع وغير ذلك مما يجعل ما أورده فيه مؤلفاً مستقلاً بذاته.
الثاني: الطب الوقائي في الكتاب والسنة:
والنوع الثاني الذي يوسع دائرة الاستشفاء بالقرآن هو الطب الوقائي الذي يستفاد من جملة الأحكام والتوجيهات التي جاء بها القرآن وصحيح الأحاديث، وهذا باب واسع، فالنصوص الآمرة بالطهارة والنظافة كثيرة جداً، بل إن طهارة البدن عبادة لا تتم الصلاة بغيرها فقد أوجب الله الاغتسال من الجنابة، كما أوجب الغسل على المرأة إذا طهرت من حيضها ونفاسها، وحبب الرسول صلى الله عليه وسلم الاغتسال في كل جمعة، ولم يكتف بذلك بل أوجب الوضوء كلما أراد الصلاة إذا خرج منه بول أو غائط أو ريح، والوضوء يشمل غسل الأعضاء الظاهرة من الوجوه والأيدي والأرجل، كما أمر بمسح الرؤوس. وأمرت النصوص بغسل اليدين عند الاستيقاظ من نوم الليل، وحببت غسلهما عند الطعام، وأمرت بالاستنجاء من البول والغائط، وهي عملية يطهر المسلم فيها مخرج البول والغائط بعد خروجهما منه، وأمرت الشريعة المباركة بقص الأظافر وقص الشارب ونتف شعر الإبط وحلق شعرالعانة، كما أوجبت الختان في حق الذكور.
وحثَّ الرسول صلى الله عليه وسلم كثيراً على تطهير الفم بالسواك، وأخبر أنه مطهرة للفم مرضاة للرب، وكما حثَّ أيضاً على نظافة المساكن وأفنية البيوت، وأمر برفع الأذى عن الطريق، وجعله إحدى خصال الإيمان، ونهى أشد النهي عن إيذاء المسلمين في طرقاتهم وأماكن جلوسهم وموارد مياههم.
ونهى النبي صلى الله عليه وسم عن دخول البلاد الموبوءة بالأمراض المعدية، ونهى من كان في تلك الديار عن الخروج منها، وهذه أفضل وسيلة لمنع انتشار الأمراض والأوبئة التي تنتقل بالعدوى السريعة، وهذا ما يسمى اليوم بالحجر الصحي.
وشرع لنا تناول الطيبات من الأطعمة والأشربة، ونهانا عن تناول الخبيث منها، ونهانا عن الإسراف في تناول الطعام والشراب، وحرم علينا الأكل من الميتة والدم ولحم الخنزير، كما نهانا عن الخمر والمخدرات وشرع لنا الزواج ونهى عن الزنا واللواط.
ومن تتبع ما جاء به الإسلام مما يقيم صحة الإنسان، ويحفظ بدنه، ويدفع عنه الأسقام فإنه يجد منهاجاً كاملاً يحفظ الله به الإنسان من كثير من الأسقام، وقد استقرأ علماء الشريعة التشريعات التي جاء بها الكتاب والسنة فوجدوا أن الشريعة وضعت لجلب المصالح للعباد ودفع المفاسد عنهم، ووجدوا أن تشريعات هذا الدين تتجه كلها إلى أن تحفظ على الناس دينهم وأنفسهم وعقولهم وأنسابهم وأموالهم(3).
الثالث: علوم الطب من فروض الكفاية:
اعتبر علم الطب من العلوم المهمة في الحياة البشرية، وبتطبيقه كثير من المصالح العظيمة والمنافع الجليلة، التي منها حفظ الصحة ودفع ضرر الأسقام والأمراض عن بدن الإنسان، فيتقوى المسلم بذلك على طاعة ربه تعالى ومرضاته.
ولابد للمجتمع من وجود الطبيب، وتختلف حاجته إليه بحسب اختلاف الظروف والأحوال، وإذا لم تسد حاجة المجتمع إلى الأطباء، فإن حياة الناس وأرواحهم ستكون مهددة بخطر الأمراض وجراحات الحروب والحوادث التي تفضي بهم إلى الموت والهلاك في الغالب.
ولما كانت شريعتنا الإسلامية مبنية على الرحمة بالخلق ودفع المشقة والحرج عنهم في التكاليف والتشريعات التي جاءت بها، فإنها راعت تلك الحاجة التي لابد من سدها في المجتمعات المسلمة، فأجازت تعلم الطب وتعليمه(4).
قال النووي رحمه الله: وأما العلوم العقلية، فمنها ما هو فرض كفاية كالطب والحساب المحتاج إليه(5).
وقال الغزالي رضي الله عنه: ولا يستبعد عد الطب والحساب من فروض الكفاية، فإن الحرف، والصناعات التي لابد للناس منها في معايشهم كالفلاحة فرض كفاية، فالطب والحساب أولى(6). فقوله: المحتاج إليه: فيه دليل على أن الحكم بفرضية الطب على الكفاية إنما هو مبني على وجود الحاجة إليه، ولا شك في أن هذه الحاجة موجودة في كل زمان ومكان(7)، ولكنها تتفاوت في قدرها على حسب تفاوض الظروف والأحوال، وفقهاء الإسلام وأئمته الأعلام نجدهم ينصون في كتبهم على حكم فرضية تعلم الطب على الكفاية، بل لم يقف الأمر عند ذلك، وإنما تعداه إلى شحذ الهمم وحفزهم النفوس وتعلمه، حتى قال الشافعي: لا أعلم علماً بعد الحلال والحرام أنبل من الطب(8.
وقد بيّن رسول الله صلى الله عليه وسلم لكل داء دواء، فإذا أصيب الداء برأ بإذن الله عز وجل(9).
وقال صلى الله عليه وسلم: «ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء»(10).
أن كلا الحديثين الشريفين دلَّا على أنه ما من داء إلا وقد جعل الله له دواء، وإذا كان الأمر كذلك فإنه يشرع للإنسان أن يستعمل الدواء الذي عرف تأثيره في الداء بالعادة والتجربة(11).
وعن أسامة بن شريك رضي الله عنه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كأنما على رؤوسهم الطير، فسلمت ثم قعدت، فجاء الأعراب من ههنا وههنا فقالوا: يا رسول الله أنتداوى؟ فقال: «تداووا فإن الله تعالى لم يضع داء إلا وضع له دواء غير داء واحد: الهرم»(12).
إن هؤلاء الصحابة رضي الله عنهم سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن التداوي، فأجابهم النبي صلى الله عليه وسلم بجوازه وندبهم إليه بقوله «تداووا» وهذا اللفظ عام(13).
مراجع الحلقة الثانية والسبعون:
( ) زاد المعاد بتصرف يسير (3 / 64).
(2) المصدر نفسه (3 / 64).
(3) دراسات فقهية في قضايا طبية معاصرة، عمر الأشقر،وآخرون (1 / 18 ـ 21).
(4) أحكام الجراحة الطبية، د. محمد الشنقيطي، ص: 73 ـ 74.
(5) المصدر نفسه، ص: 74.
(6) المصدر نفسه، ص: 75.
(7) المصدر نفسه، ص: 75.
(8 المصدر نفسه، ص: 76.
(9) رواه مسلم (4/ 20).
(0 ) رواه البخاري (4/ 8.
(1 ) أحكام الجراحة الطبية، ص: 86.
(2 ) سنن الترمذي (3/ 258)، حديث حسن صحيح.
(3 ) أحكام الجراحة الطبية، ص: 87.
يمكنكم تحميل كتاب الدولة الحديثة المسلمة دعائمها ووظائفها
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي:
http://alsallabi.com/uploads/file/doc/Book157.pdf
كما يمكنكم الإطلاع على كتب ومقالات الدكتور علي محمد الصلابي من خلال الموقع التالي:
http://alsallabi.com