(شروط اختيار الموظفين في الدولة الحديثة المسلمة)
من كتاب الدولة الحديثة المسلمة دعائمها ووظائفها:
الحلقة: الخامسة والسبعون
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
ربيع الآخر 1443 ه/ نوفمبر 2021م
إن أول خطوة في الرقابة هي حسن اختيار العمال الذين سيتولون الإشراف على تنفيذ الأعمال، وجباية الأموال، وتوصيل الحقوق إلى أهلها، وبمقدار النجاح في هذه الخطوة يكون النجاح في بقية الخطوات وبمقدار الفشل فيها تفرغ كل الخطوات التالية من مضمونها(1).
ولهذا عد الماوردي من واجبات الإمام: استكفاء الأمناء وتقليد النصحاء فيما يفوض إليهم من الأعمال، ويكل إليهم من الأموال، وتقليد النصحاء فيما يفوض إليهم من الأعمال، ويكل إليهم من الأموال، لتكون الأعمال بالكفاءة مضبوطة، والأموال بالأمناء محفوظة، الله عز وجل يقول: ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا﴾ (النساء، آية : 58).
والمناصب والمسؤوليات من الأمانات التي يجب أن تؤدى إلى أهلها، فقد بيّن النبي صلى الله عليه وسلم أن تعيين العاملين في مختلف المواقع أمانة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمن سأله عن الساعة: «فإذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة»، فقال: وما إضاعتها؟ قال: «إذا وسد الأمر إلى غير أهله فأنتظر الساعة»(2).
وعن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله ألا تستعملني؟ قال: فضرب بيده على منكبي ثم قال: «يا أبا ذر إني أراك ضعيفاً، وإنها يوم القيامة خزي وندامة إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيه»(3). قال النووي : هذا الحديث أصل عظيم في اجتناب الولايات، لا سيما لمن كان فيه ضعف عن قيام وظائف تلك الولاية، وأما الخزي والندامة فهو في حق من لم يكن أهلاً لها، أو كان أهلاً ولم يعدل فيها فيخزيه الله تعالى يوم القيامة(4).
ـ الشروط التي يجب توفرها في الموظفين: "القوة والأمانة":
يجب أن يتوفر في الموظف شرطان أساسيان، هما: القوة والأمانة وقد أخذ العلماء هذين الشرطين من قول الله تعالى: ﴿قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ﴾ (القصص، آية : 26). ومن قوله الله تعالى: ﴿اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ﴾ (يوسف، آية : 55).
فقوله ﴿إنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ﴾. أي: أمين أحفظ ما تستحفظنيه عالم بوجوه التصرف، وصفاً لنفسه بالأمانة والكفاية اللتين هما طلبة الملوك ممن يولونه، فقد تضمنت وصف يوسف بالصفتين اللازمتين لتولي المسؤولية وهما الحفظ والعلم اللتان: تعمان وجوه المعرفة والضبط للخزائن(5).
قال ابن تيمية: والقوة في كل ولاية بحسبها فالقوة في قيادة الجيوش غير القوة في الحكم بين الناس والقوة في ضبط الدخل والخرج غير القوة المطلوبة في الفتوى، وهكذا، والقوة تتضمن العلم والقدرة وتتنافى مع الضعف والعجز، ولهذا نصح النبي صلى الله عليه وسلم أبا ذر ـ وهو الصادق التقي البار ـ أن لا يتأمر على اثنين، فقال له: يا أبا ذر إني أراك ضعيفاً وإني أحب لك ما أحب لنفسي لا تأمرني على اثنين، ولا تولين مال يتيم(6)، وقد أشار الذهبي إلى قوة أبي ذر في بدنه وشجاعته، وحمل الضعف على ضعف الرأي في إدارة الحكم وأن فيه حدة تتنافى مع الإمارة التي تتطلب الحلم والمداراة(7).
أما الأمانة التي هي ركن الولاية الأساسي فتتضمن العدالة وتتنافى مع الفسق، قال ابن تيمية: والأمانة ترجع إلى خشية الله وألا يشتري بآياته ثمناً قليلاً وترك خشية الناس، وهذه الخصال الثلاث التي أخذها الله على كل من حكم على الناس في قوله تعالى: ﴿فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ﴾ (المائدة، آية : 44).
وتأمل حرص النبي صلى الله عليه وسلم على استعمال الأمناء، فعن حذيفة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأهل نجران: لأبعثن إليكم رجلاً أميناً حق أمين فاستشرف لها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فبعث أبا عبيدة(8)، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يحرص على تعيين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إن أبا عبيدة قال له: دئست أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له عمر: يا أبا عبيدة إذا لم استعن بأهل الدين على سلامة ديني فيمن أستعن؟ قال: أما فعلت فأغنهم بالعمالة عن الخيانة، يقول: إذا استعملتهم على شيء فأجزل لهم في العطاء والرزق لا يحتاجون(9)، وكان يستشير كثيراً في تعييناته وقد بحث مرة إلى أهل الكوفة يبعثون إليه رجلاً من أخيرهم وأصلحهم وإلى أهل البصرة كذلك، وإلى أهل الشام كذلك، قال فبعث إليه أهل الكوفة عثمان بن فرقد، وبعث إليه أهل الشام معن بن يزيد، وبعث إليه أهل البصرة الحجاج بن علاط كلهم سلميون، قال فاستعمل كل واحد منهم على خراج أرضه(10).
ـ القواعد الشرعية التي يجب على ولي الأمر اتباعها في الاختيار:
ـ وجوب تولي الأصلح:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من ولي من أمر المسلمين شيئاً فأمر عليهم أحداً محاباة فعليه لعنة الله لا يقبل الله من صرفاً ولا عدلاً حتى يدخله جهنم»(11).
ـ وجوب اختيار الأمثل من الموجود:
قال تعالى: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ (التغابن، آية : 16).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ذروني ما تركتم، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه»(12)، وسئل الإمام أحمد عن الرجلين يكونان أميرين في الغزو أحدهما قوي فاجر، والآخر صالح ضعيف، مع أيهما يغزي؟ فقال: أما الفاجر القوي فقوته للمسلمين وفجوره على نفسه وأما الصالح الضعيف فصلاحه لنفسه وضعفه للمسلمين، ويغزى مع القوي الفاجر(13).
ـ لا تجوز المحاباة عند تولية المناصب:
فلا يجوز التعيين على أساس القرابة النسبية ولا الصلة الحزبية، وإنما يكون الاختيار على الأسس الشرعية، فإن عدل عن الأحق الأصلح إلى غيره لأجل قرابة بينهما، أو ولاء عتاقة أو صداقة، أو موافقة بلد أو مذهبه، أو طريقة أو جنس كالعربية والفارسية والتركية والرومية أو الرشوة يأخذها منه أو منفعة أو غير ذلك من الأسباب أو لضغن(14) في قلبه على الأحق، أو عداوة بينهما فقد خان الله ورسوله والمؤمنين ودخل فيما نهى عنه في قوله تعالى:﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ (الأنفال، آية : 27). ثم قال : ﴿وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ (الأنفال، آية : 28).
ـ طلب الولاية سبب في الحرمان منها:
فقد بيّن النبي صلى الله عليه وسلم أن من حصل على المنصب من غير طلب فإن الله يعينه عليه بخلاف من سأله، فعن عبد الرحمن بن سمرة قال، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تسأل الإمارة فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها وإن أعطيتها عن غير مسألة أعنت عليها»(15).
ومن المعلوم أن كل ولاية لا تخلو من مشقة، فمن لم يكن له من الله إعانة تورط فيما دخل فيه وخسر دنياه وعقباه فمن كان ذا عقل لم يتعرض للطلب أصلاً، بل إذا كان كافياً وأعطيها من غير مسألة فقد وعده الصادق بالإعانة ولا يخفى ما في ذلك من الفضل(16).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنكم ستحرصون على الإمارة وستكون ندامة يوم القيامة فنعم المرضعة وبئست الفاطمة»(17)، وقد حذر العلماء إسناد المناصب إلى من يحرص عليها(18).
وأما قول يوسف عليه السلام في كتاب الله: ﴿اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ﴾ (يوسف، آية : 55).
فالتوفيق بينه وبين ما سبق أن نقول: إن يوسف عليه السلام كان بين قوم كفار، فأراد استصلاحهم ودعاءهم إلى الله تعالى بالسعي في هذه الولاية دون غيرها، لأن المتولي لأرزاق العباد تذل له الرقاب، وتخضع له الجبابرة، ولا يستغني أحد عن بابه، فلهذا طلب هذه المرتبة دون الإمارة والوزارة، وغير ذلك من الولايات(19)، فيوسف عليه السلام: إنما قال ذلك ليتوصل إلى إمضاء أحكام الله تعالى وإقامة الحق وبسط العدل، والتمكن مما لأجله تبعث الأنبياء إلى العباد.. فطلب التولية ابتغاء وجه الله لا لحب الملك والدنيا(20).
والذي نخلص إليه أن الذي يسأل الإمارة ويحرص رغبة في الدنيا فإنه لا يولى، أما من رأى أنه لا يوجد من يقوم مقامه فتقدم لأداء الواجب، لا طلباً لمال أو جاه، فتوليته مطلوبة مشروعة، ولا تترتب عليها أي مفسدة من المفاسد التي ترتب على تولية من يطلب المنصب رغبة في الدنيا(21).
مراجع الحلقة الخامسة والسبعون:
([1]) الرقابة الإدارية، ص: 241.
(2) البخاري، ك العلم، الرقابة الإدارية، ص: 242.
(3) مسلم في الإمارة، الرقابة الإدارية، ص: 242.
(4) شرح النووي على مسلم (12/ 177).
(5) التسهيل ابن جزي، ص: 316.
(6) السياسة الشرعية، ص: 20.
(7) سير أعلام النبلاء (3/ 54).
( البخاري، الرقابة الإدارية، ص: 244.
(9) الرقابة الإدارية، ص: 244.
(10) المصدر نفسه، ص: 244.
(1[1]) الحاكم في المستدرك (4/ 93) صحيح الإسناد.
(2[1]) البخاري، الرقابة الإدارية، ص: 246.
(3[1]) السياسة الشرعية، ص: 22.
(4[1]) الضغن: الحقد كالضغينة وقد ضغن: حقد.
(5[1]) البخاري، الرقابة الإدارية، ص: 248.
(6[1]) فتح الباري (13/ 133).
(7[1]) البخاري في الأحكام، الرقابة الإدارية، ص: 248.
(8[1]) الرقابة الإدارية، ص: 248.
(9[1]) تبصرة الحكام لابن فرحون (1/ 6).
(20) الرقابة الإدارية، ص: 249.
(21) المصدر نفسه، ص: 250.
يمكنكم تحميل كتاب الدولة الحديثة المسلمة دعائمها ووظائفها
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي:
http://alsallabi.com/uploads/file/doc/Book157.pdf
كما يمكنكم الإطلاع على كتب ومقالات الدكتور علي محمد الصلابي من خلال الموقع التالي: