(كيفية اختيار رئيس الدولة في الإسلام)
الحلقة: 21
بقلم: د. علي محمد الصلابي
جمادى الأولى 1443 ه/ ديسمبر 2021
أ ـ حقائق لابد من ذكرها:
قبل الحديث عن اختيار رئيس الدولة ؛ لابد من ذكر الحقائق الثلاثة التالية:
الحقيقة الأولى:
إن الشريعة الإسلامية توجب على المسلم أن يكون مواطناً في دولة الإسلام، وتحت إمرة رئيس تلك الدولة، فقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «من خلع يداً من طاعة لقي الله يوم القيامة لا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية».
أي: على صفة موتهم من حيث هم فوضى لا إمام لهم، ولقد كانت سيرة الصحابة رضوان الله عليهم تطبيقاً حياً لهذا النص وأمثاله؛ ولهذا رأيناهم انصرفوا على تجهيز رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أسلم الروح إلى الرفيق الأعلى، إلى سقيفة بني ساعدة لاختيار ـ الخليفة الأول ـ ؛ حتى إذا تمت البيعة للصديق رضي الله عنه أقبلوا على جهاز المصطفى صلى الله عليه وسلم، وما حملهم على ذلك إلا الخشية من أن يبقوا دون دولة، أو من غير دولة.
الحقيقة الثانية:
أن الرسول قد انتقل إلى جوار ربه سبحانه وتعالى ؛ دون أن ينص على استخلاف أحد.
الحقيقة الثالثة:
أن نصوص الشريعة لم تأت على ذكر الطريقة التي يتم بها اختيار رئيس الدولة، سكتت عن ذلك من غير نسيان، وتركت اختيار رئيس الدولة للأمة لتمارس بكل إرادتها الطريقة التي تراها محققة لمصلحتها؛ على ضوء ما يقدمه عصرها وواقعها من تجارب نافعة، ورأي مفيد، وهذه رائعة من روائع الإسلام الدالة على أنه الدين الذي تجد فيه الإنسانية سعادتها في كل العصور والأمصار.
ب ـ الأمة في النظام الإسلامي هي صاحبة الحق في اختيار الحاكم؛ كونها مسؤولة عن تنفيذ الشرع؛ وبيان ذلك أن القرآن الكريم خاطب الأمة بتنفيذ أحكام القانون الإسلامي في المعاملات والعقوبات ونحوها، وجعلها مسؤولة عن هذا التنفيذ من هذه الخطابات:
قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ *}[البقرة:278 ].
وقوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيدِيَهُمَا}[المائدة: 38].
وقوله: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ}[النور: 2].
فهذه النصوص، وأمثالها في القرآن كثيرة، خطابات للأمة بمجموعها، تجعلها مسؤولة عن تنفيذ القانون الإسلامي، وكان من المتعذر عليها في الواقع بصورتها الجماعية مباشرة جميع سلطاتها وقيامها بواجب التنفيذ، فإنه من الواجب عليها الإنابة فيه بأن تختار الرئيس أو الحاكم ليزاول ما تملكه من سلطة نيابة عنها، وينفذ ما هي مكلفة به شرعاً، وهكذا ظهرت النيابة عن الأمة، إذ من المعروف أن مالك السلطة أو الحق ليس من اللازم عليه شرعاً أن يستعمل حقه بنفسه، بل له أن يوكل أو ينيب غيره في مباشرة ما يملكه.
ثم إن الأحاديث النبوية التي زخرت بها السنة تؤيد هذا الحق للأمة، حيث أوجبت على الأمة تنصيب إمام عليها، ومنعت بقاءها بدون إمام، والسوابق الدستورية في ذلك كثيرة، حيث أجمع الصحابة على أن الاختيار من الأمة هو طريق ثبوت الرئاسة، ولم يعلم أن أحداً منهم نازع في ذلك.
ج ـ وسيلة إسناد السلطة للحاكم من قبل الأمة: إذا كانت الأمة هي صاحبة الحق في اختيار الحاكم، فكيف تباشر هذا الحق على صعيد الواقع؟ أيقوم به أفراد الأمة مباشرة؟ أم يقوم بهذا الحق طائفة منهم بتحويل منها؟
الواقع أنا لا نجد في النظام الإسلامي إلزاماً بصورة واحدة من هاتين الصورتين دون الثانية، مما يدل على أن تنظيم هذا الأمر متروك لتقدير الأمة حسب الظروف والأحوال، فيمكن أن يكون الحاكم بطريقة الانتخاب المباشر أو غير المباشر، فكلاً الطريقتين مما تتسع له قواعد الشريعة الإسلامية.
د ـ طريقة الانتخاب المباشر:
الانتخاب بشكل عام يقصد به: المفاضلة بين من طلبوا ولاية منصب ما من المناصب التي تم توليها بهذه الطريقة، واختيار الأصلح منهم، من وجهة نظر صاحب الحق في الاختيار، وهذا بعد تحقق الشروط المطلوبة لذلك المنصب.
وهذه الطريقة في اختيار الحاكم تجد سندها في قوله تعالى: َ {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ}[الشوري: 38] .
فهذا النص القراني بظاهره يوجب أن يتشاور أفراد الأمة ـ لا فئة متميزة منها ـ في شؤونهم، وفي أعلاها انتخاب رئيس الدولة، فيباشرون جميعاً هذا الحق إلا من استثني منهم بدليل شرعي لعدم التكليف.
وتقوم هذه الطريقة على إعطاء كل مواطن توافرت فيه شروط الناخب حق التصويت لاختيار رئيس الدولة، وذلك بعد الإعلان عن المرشحين، مع ملاحظة أنه لا يُقبل ترشيح إلا من توافرت فيه الشروط المطلوبة للخليفة؛ لأن منصب الإمامة ليس منصباً تشريفياً، وإنما هو عمل وجهد ومسؤولية.
ولا مانع شرعاً من أن يترشح لهذا المنصب أكثر من واحد، بل هذا هو المطلوب تجنباً للشورى الشكلية، والمرشح الفائز بأغلبية أصوات الناخبين يتولى أخذ البيعة الخاصة من أهل الحل والعقد عن طريق مباشر كوضع اليد في اليد، أمّا عامة الناس فتكون بيعتهم في صيغة من الصيغ التي تراها الدولة مناسبة.
على أن البيعة هنا لا تعني الانتخاب والاختيار، وإنما تعني الموافقة على نتيجة الانتخاب، واختيار الخليفة الجديد، ومعاهدته على الطاعة له، والانصياع لأوامره.
ه ــ طريقة الانتخاب غير المباشر:
وتقوم هذه الطريقة على أساس أن يقوم أهل الحل والعقد بالمفاضلة بين المرشحين لمنصب الإمامة إلى أن يستقر رأيهم، أو رأي أكثريتهم على اختيار واحد من المرشحين، وبهذا الاختيار تنعقد الإمامة للرئيس الجديد، وبعدها يتولى الرئيس المنتخب أخذ البيعة من عامة الناس، وبالطريقة التي تراها الدولة مناسبة، وذلك تأكيداً لبيعة أهل الحل والعقد له، وإعلاناً للدخول في طاعته.
وهذه الطريقة في الانتخاب تجد سندها في السوابق الدستورية الثابتة في عصر الخلفاء الراشدين، فقد تم انتخاب الخلفاء الراشدين ـ وعصرهم خير العصور فهماً للإسلام، وتطبيقاً له ـ من قبل طائفة من الأمة، وهم أهل الحل والعقد، وتابعهم بعد ذلك الناس الموجودون في المدينة، فبايعوا من اختاره أهل الحل والعقد للرئاسة، ولم ينتخبهم جميع المسلمين في جميع المدن الإسلامية، ولم ينقل لنا اعتراض على هذه الكيفية لا من الخلفاء الراشدين أنفسهم ولا من غيرهم، فيكون ذلك إجماعاً منهم على صحة الانتخاب غير المباشر في إسناد السلطة للحاكم، كما نجد سندها في أن صاحب الحق ـ وهي الأمة التي لها حق الاختيار ـ لها أن تنيب طائفة.
يمكنكم تحميل كتاب التداول على السلطة التنفيذية من الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي