(البيعة ونظرية العقد الإجتماعي)
الحلقة: 20
بقلم: د. علي محمد الصلابي
جمادى الأولى 1443 ه/ ديسمبر 2021
عرّف العلماء البيعة بتعريفات عدة، منها تعريف ابن خلدون: العهد على الطاعة لولي الأمر، وعرفها بعضهم بقوله: البيعة على التعاقد على الإسلام، وعرفت كذلك بأنها أخذ العهد والميثاق والمعاقدة على إحياء ما أحياه الكتاب والسنة، وإقامة ما أقامه، وكان المسلمون إذا بايعوا الأمير جعلوا أيديهم في يده، تأكيداً للعهد والولاء، فأشبه ذلك الفعل البائع والمشتري، فسمي هذا الفعل بيعة، ونتعلم من مبايعة الأمة للصديق بأن الحاكم في الدولة الإسلامية إذا وصل إلى الحكم عن طريق أهل الحل والعقد، وبايعته الأمة بعد أن توفرت فيه الشروط المعتبرة، فيجب على المسلمين جميعاً مبايعته، والاجتماع عليه، ونصرته على من يخرج عليه، حفاظاً على وحدة الأمة، وتماسك بنيانها أمام الأعداء في داخل الدولة الإسلامية وخارجها.
قال صلى الله عليه وسلم: «من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية» ، فهذا الحديث فيه حث على وجوب إعطاء البيعة، والتوعد على تركها، فمن مات ولم يبايع عاش على الضلال ومات على الضلال.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ومن بايع إماماً فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليعطه ما استطاع، فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر».
فالشارع الحكيم قد رتب القتل وأمر به، نتيجة الخروج على الإمام؛ مما يدل على حرمة هذا الفعل، ويبطل البيعة الأخرى، ويحث على البيعة الأولى التي هي فرض على المسلمين.
والذي يأخذ البيعة في حاضرة الدولة هو الرئيس، وأما في الأقاليم فقد يأخذها الرئيس، وقد يأخذها نوابه، كما حدث في بيعة الصديق رضي الله عنه، فأهل مكة والطائف أخذها نواب الخليفة.
والذين تجب بيعتهم للإمام هم أهل الحل والعقد، وأهل الاختيار من علماء الأمة وقادتها، وأهل الشورى، وأمراء الأمصار، وأما سائر الناس، وعامتهم، فيكفيهم دخولهم تحت بيعة هؤلاء، ولا يمنع العامة من البيعة بعد بيعة أهل الحل والعقد، وهناك من العلماء من قال: لابد من البيعة العامة؛ لأن الصديق لم يباشر مهامه كرئيس للمسلمين إلا بعد البيعة العامة له من المسلمين.
والبيعة بهذا المعنى الخاص الذي تمّ للصديق لا تعطى إلا لرئيس الدولة، لما يترتب على هذه البيعة من أحكام.
وخلاصة القول: إن البيعة بمعناها الخاص هو إعطاء الولاء والسمع والطاعة للخليفة مقابل الحكم بما أنزل الله تعالى، وإنها في جوهرها وأصلها عقد وميثاق بين الطرفين، الإمام من جهة وهو الطرف الأول، والأمة من جهة ثانية وهي الطرف الثاني، فالإمام يبايع على الحكم بالكتاب والسنة، والخضوع التام للشريعة الإسلامية عقيدة وشريعة ونظام حياة، والأمة تبايع على الخضوع والسمع والطاعة للرئيس في حدود الشريعة.
فالبيعة خصِّيصة من خصائص نظام الحكم في الإسلام تفرد به عن غيره من النظم الأخرى في القديم والحديث، ومفهومه أن الحاكم والأمة كليهما مقيد بما جاء به الإسلام من الأحكام الشرعية، ولا يحق لأحدهما سواء كان الحاكم أو الأمة ممثلة بأهل الحل والعقد الخروج على أحكام الشريعة، أو تشريح الأحكام التي تصادم الكتاب والسنة، أو القواعد العامة في الشريعة، ويعد فعل مثل ذلك خروجاً على الإسلام، بل إعلان الحرب على النظام العام للدولة الإسلامية، بل أبعد من هذا نجد أن القرآن الكريم ينفي عنهم صفة الإيمان.
قال تعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا *} [النساء:65] .
فهذا مفهوم البيعة من خلال عصر أبي بكر الصديق.
* والبيعة عقد لا يحتمل الإكراه.
* ويحتمل الشروط المسبقة.
* ولا إمامة إلا بعد عقد البيعة.
* وأنه لا عقد بيعة إلا برضا الأمة واختيارها.
* ولا رضا بلا شورى بين المسلمين في أمر الإمامة وشؤون الأمة.
* وأنه لا شورى بلا حرية.
* وأنه السيادة والطاعة المطلقة لله ورسوله.
نظرية العقد الاجتماعي:
بنظرة متأملة في نشأة الديمقراطية الغربية المعاصرة نجد أن أساسها نظرية العقد الاجتماعي ؛ التي صاغها جون جاك روسو ؛ لتكون بمثابة أصل تنطلق منه الديمقراطية التي أراد الغرب أن يتخذها منهجاً لسياسته وحكمه، وبأدنى نظرة في هذه النظرية على وجه الإجمال نجد أنها لا تبتعد عن فكرة البيعة في الإسلام، بل يبدو بوضوح أنها مستقاة منها، ولا يبعد ذلك لأن أوروبة دخلها العلم قديماً ـ في أيام صراعها في القرون الوسطى مع رجال الإقطاع عن طريق العرب والمسلمين في الأندلس ـ التي بلغت في العلم والتطور شأواً بعيداً، إذ قد أنشئت مدرسة طليطلة للترجمة سنة 1130م، وقامت بترجمة أشهر مؤلفات العرب وكتب اليونان التي كان المسلمون ترجموها إلى لغاتهم.
فما البيعة في الإسلام إلا تعاقد بين الأمة ممثلة في أهل الحل والعقد وبين المرشح للخلافة «رئاسة الدولة»، ينبني عليه من كلا الطرفين التزام للاخر، ويعطيه حقاً عليه.
وللفرد في الأمة صفتان:
صفة شخصية باعتباره مواطناً له حق الحماية، وعليه السمع والطاعة، وصفة اجتماعية باعتباره عضواً في الأمة.
والشريعة الإسلامية طبقاً لقواعد نظرية العقد فيها تسمح بانعقاد العقد بإرادة المنفرد بالصفتين، يحلُّ التعاقد بكل منهما طرفاً في التعاقد، ويترتب على التعاقد كل الاثار، وهذه الصفة التي دخل بها الإنسان في الجماعة، وإن فقد فيها الكثير من حريته غير المحدودة، إلا أنه كسب فيها حريته المدنية واحترام ملكيته، وأحل العدالة محل الغريزة في سلوكه، وأضفى على تصرفاته أساساً أخلاقياً، وأي اعتداء على الفرد يعتبر اعتداء على الجماعة كلها لأنها جسد واحد، وهذه الصورة الكريمة الوضاءة التي افترضها «جون جاك روسو» صاحب صياغة نظرية العقد الاجتماعي في قوله: «وبمجرد أن تتحد جماعة في جسد سياسي ؛ فإن أي اعتداء على أي فرد فيها يعتبر اعتداء على الجسد» لا أثر لها إلا في مجتمعات الرسالات السماوية التي تقوم على أساس من الطهر والعفاف ويقظة الضمير في خشية الله، ولذا فقد كانت هذه الصورة واضحة في صدر الإسلام، وقد صورها الرسول صلى الله عليه وسلم، وقررها في قوله فيما صح عنه فيما رواه النعمان بن بشير رضي الله عنه: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر الحمى» وحديث: «مثل المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً».
أ ـ رأي عبد الرزاق السنهوري في عقد الإمامة:
يرى القانوني المصري الشهير السنهوري في أطروحته التي قدمها في العشرينيات في باريس عام 1926م أن عقد الإمامة: عقد حقيقي مستوف بشرائطه من وجهه النظر القانونية، وإن الغاية منه أن يكون هو المصدر الذي يستمد منه الإمام سلطته. إنه تعاقد بينه وبين الأمة مبني على الرضاء، وهو عقد حقيقي، غايته تولية الخليفة السلطة العليا، إنه عقد بين الخليفة والأمة، وذلك يعني أن سلطة الخليفة مستمدة من الأمة، وأن المسلمين قد سبقوا بقرون عديدة إلى نظرية التعاقد، وما يلحقها من نظرية سيادة الأمة.
ب ـ أما ضياء الدين الريس، فيرى أن نظرية التعاقد لدى المسلمين تبقى متفوقة عن مثيلتها لدى روسو، ذلك أن العقد الذي تحدث عنه روسو كان مجرد افتراض؛ لأنه بناه على حالة تخيلها في عصور ماضية سحيقة لا يوجد عليها برهان تاريخي، بينما نظرية العقد الإسلامية تستند إلى واقع تاريخي ثابت هو تجربة الأمة من خلال العصر الذهبي للإسلام.
هذا ما يؤكد إجماع المسلمين على الجانب السياسي الاجتماعي، من أن الموجب لعقد الإمامة أو طريق ثبوتها هو اختيار الأمة، ويلخص ذلك قولهم أن الإمامة عقد، وأن البيعة صفة، أو رمز ذلك التعاقد بين الإمام والأمة، ويؤصّل بعضهم هذا التعاقد في بيعة العقبة الثانية، فقد كانت بيعة سياسية، وضرباً من الحلف العسكري من أجل إقامة نظام سياسي، نظام دولة ذات سيادة.
ج ـ وكان واضحاً في الخطبة الأولى لأبي بكر أن المسلمين هم الذين ولّوا، وأن طاعتهم له مشروطة بالتزامه الخضوع للشريعة، وأنهم هم الرقباء عليه والمسؤولون عن تقويمه إذا اعوج، وأنه لم يصر إماماً ببيعة السقيفة، فقد كانت مجرد ترشيح، وإنما بالبيعة العامة في المسجد صار إماماً.
ولقد ردد الخلفاء الراشدون بعده هذه المفاهيم نفسها، وتلقوا البيعة العامة من عامة الناس في المسجد، وما اعتبروا أن لسلطانهم مصدراً اخر غير الخضوع للشريعة ورضا الناس عنهم، وأنهم رغم ما حصل من انقلاب في صلب الحكم الإسلامي، فقد ظلت المشروعية واضحة لدى عامة المسلمين فضلاً عن خاصتهم؛ بأنها إنما تستمد من الخضوع للدستور «للشريعة» من الشورى «البيعة العامة»؛ ولذلك حافظ ملوك الاستبداد على صورة الخلافة بعد أن كادت حقيقتها تضمحل، ومن تلك الشكليات البيعة الصورية، تأكيداً وشكلياً لمعنى سياسي عقائدي استقر في ضمير الأمة، وهو أن الإمام إنما يستمد مشروعية حكمه من رضا الناس، وتمثيل إرادتهم عن طريق مبايعة جماعة أهل الحل والعقد له.
والنتيجة من كل ذلك: أن الإمامة عقد بين الأمة والحاكم يلتزم فيها الحاكم إنفاذ الشريعة والنصح للأمة ومشاورتها، وتلتزم له ـ إن هو وفى بذلك ـ بالسمع والطاعة، وينتج من ذلك أن الأمة هي مصدر كل سلطاته وأن لها عليه السيادة، كل ذلك في إطار الدستور «الشريعة»].
يمكنكم تحميل كتاب التداول على السلطة التنفيذية من الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي