السبت

1446-11-05

|

2025-5-3

(إقرار العدل والمساواة بين الناس في خطاب أبو بكر الصديق رضي الله عنه)

الحلقة: 23

بقلم: د. علي محمد الصلابي

جمادى الأولى 1443 ه/ ديسمبر 2021

قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: الضعيف فيكم قوي عندي حتى أُريح عليه حقه إن شاء الله، والقوي فيكم ضعيف حتى اخذ الحق منه إن شاء الله.

إن من أهداف دولة الصديق الحرص على إقامة مقاصد القرآن الكريم التي تساهم في إقامة المجتمع الإسلامي والحكم الإسلامي، فلا وجود للإسلام في مجتمع يسوده الظلم، ولا يعرف العدل.

إن إقامة العدل بين الناس أفراداً وجماعات ودولاً، ليست من الأمور التطوعية التي تترك لمزاج الحاكم أو الأمير وهواه، بل إن إقامة العدل بين الناس في الدين الإسلامي تعد من أقدس الواجبات وأهمها، وقد أجمعت الأمة على وجوب العدل.

قال الفخر الرازي: أجمعوا على أن من كان حاكماً وجب عليه أن يحكم بالعدل، وهذا الحكم تؤيده النصوص القرانية والسنة.

إن من أهداف دولة الإسلام إقامة المجتمع الإسلامي الذي تسود فيه قيم العدل والمساواة ورفع الظلم ومحاربته، بأشكاله وأنواعه كافة، وعليها أن تفسح المجال، وتيسر السبل أمام كل إنسان يطلب حقه أن يصل إليه بأيسر السبل وأسرعها، دون أن يكلفه ذلك جهداً أو مالاً، وعليها أن تمنع أية وسيلة من الوسائل من شأنها أن تعيق صاحب الحق عن الوصول إلى حقه.

لقد أوجب الإسلام على الحكام أن يقيموا العدل بين الناس، دون النظر إلى لغاتهم أو أوطانهم أو أحوالهم الاجتماعية، فهو يعدل بين المتخاصمين، ويحكم بالحق، ولا يهمه أن يكون المحكوم لهم أصدقاء، أو أعداء، أو أغنياء أو فقراء، عمالاً أو أصحاب عمل.

قال تعالى: َ {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ *} [المائدة:8] .

لقد كان الصديق رضي الله عنه قدوة في عدله يأسر القلوب، ويبهر الألباب، فالعدل في نظره دعوة عملية للإسلام، فهي تفتح قلوب الناس للإيمان، لقد عدل بين الناس في العطاء، وطلب منهم أن يكونوا عوناً له في هذا العدل، وعرض القصاص من نفسه في واقعة تدل على العدل والخوف من الله سبحانه وتعالى.

فعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه: أن أبا بكر الصديق رضي الله قام يوم جمعة فقال: إذا كنا بالغداة، فأحضروا صدقات الإبل نقسمها، ولا يدخل علينا أحد إلا بإذن، فقالت امرأة لزوجها: خذ هذا الخطام لعل الله يرزقنا جملاً، فأتى الرجل فوجد أبا بكر وعمر رضي الله عنهما قد دخلا إلى الإبل فدخل معهما، فالتفت أبو بكر فقال: ما أدخلك علينا؟ ثم أخذ منه الخطام فضربه، فلما فرغ أبو بكر من قسم الإبل دعا الرجل فأعطاه الخطام، وقال: استقد..... فقال عمر: والله لا يستقد ولا تجعلها سنة، قال أبو بكر: فمن لي من الله يوم القيامة؟ قال عمر: أرضه، فأمر أبو بكر غلامه أن يأتيه براحلة ورحلها، وقطيفة، وخمسة دنانير فأرضاه بها.

وأما مبدأ المساواة الذي أقره الصديق في بيانه الذي ألقاه على الأمة، فيعد أحد المبادأئ العامة التي أقرها الإسلام، وهي من المبادأئ التي تساهم في بناء المجتمع المسلم، وسبق به تشريعات العصر الحاضر وقوانينه.

ومما ورد في القرآن الكريم تأكيداً لمبدأ المساواة قول الله تعالى: َ {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ *}[الحجرات: 13] .

إن الناس جميعاً في نظر الإسلام سواسية، الحاكم والمحكوم، والرجال والنساء، العرب والعجم، الأبيض والأسود... لقد ألغى الإسلام الفوارق بين الناس بسبب الجنس، أو اللون، أو النسب، أو الطبقة، والحكام والمحكومون كلهم في نظر الشرع سواء.

وجاءت ممارسة الصديق لهذا المبدأ خير شاهد على ذلك، وكان رضي الله عنه ينفق من بيت مال المسلمين فيعطي كل ما فيه سواسية بين الناس، فقد كان توزيع العطاء في عهده على التسوية بين الناس، وقد ناظر الفاروق عمر رضي الله عنه أبا بكر في ذلك فقال: أتسوي بين من هاجر الهجرتين وصلى إلى القبلتين، وبين من أسلم عام الفتح؟ فقال أبو بكر: إنما عملوا لله، وإنما أجورهم على الله، وإنما الدنيا بلاغ للراكب. ورغم أن عمر رضي الله عنه غيّر في طريقة التوزيع، فجعل التفضيل بالسابقة إلى الإسلام والجهاد إلا أنه في نهاية خلافته قال: لو استقبلت من أمري ما استدبرت لرجعت إلى طريقة أبي بكر فسويت بين الناس.

وكان يشتري الإبل والخيل والسلاح فيحمل في سبيل الله، واشترى عاماً قطائف «القطيفة كساء مخمل» أتى بها من البادية، ففرقها في أرامل أهل المدينة في الشتاء، وقد بلغ المال الذي ورد على أبي بكر في عهده مئتي ألف وزعت في أبواب الخير.

لقد اتبع أبو بكر رضي الله عنه المنهج الرباني في إقرار العدل، وتحقيق المساواة بين الناس، وراعى حقوق الضعفاء، فرأى أن يضع نفسه في كفة هؤلاء الواهنة أصواتهم، فيتبعهم بسمع مرهف، وبصر حاد، وإرادة واعية، لا تستذلها عوامل القوة الأرضية فتملي كلمتها... إنه الإسلام في فقه رجل دولته النابه ؛ الذي قام يضع القهر تحت أقدام قومه، ويرفع بالعدل رؤوسهم فيؤمن به كيان دولته، ويحفظ لها دورها في حراسة الملة والأمة.

لقد قام الصديق رضي الله عنه منذ أول لحظة بتطبيق هذه المبادأئ السامية، فقد كان يدرك أن العدل عز للحاكم والمحكوم؛ ولهذا وضع الصديق رضي الله عنه سياسته تلك موضع التنفيذ، وهو يردد قوله تعالى: ِ {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ *} [النحل: 90] .

كان أبو بكر يريد أن يطمئن المسلمون إلى دينهم، وحرية الدعوة إليه، وإنما تتم الطمأنينة للمسلمين ما قام الحاكم فيها على أساس من العدل المجرد عن الهوى.

والحكم على هذا الأساس يقتضي من الحاكم أن يسمو فوق كل اعتبار شخصي، وأن يكون العدل والرحمة مجتمعين في حكمه، وقد كانت نظرية أبي بكر في تولي أمور الدولة قائمة على إنكار الذات، والتجرد لله تجرداً مطلقاً جعله يشعر بضعف الضعيف وحاجة المجتمع، ويسمو بعدله على كل هوى، وينسى في سبيل ذلك نفسه، وأبناءه، وأهله، ثم يتتبع أمور الدولة جليلها ودقيقها، بكل ما اتاه الله من يقظة وحذر.

وبناء على ما سبق يرفع العدل لواءه بين الناس، فالضعيف امن على حقه، وكله يقين أن ضعفه يزول حينما يحكم بالعدل، فهو به قوي لا يمنع حقه ولا يضيع، والقوي حين يظلم يردعه الحق، وينتصف منه للمظلوم، فلا يحتمي بجاه أو سلطان أو قرابة أو ذي سطوة أو مكانة، وذلك هو العز الشامخ، والتمكين الكامل في الأرض.

وما أجمل ما قاله ابن تيمية رحمه الله: إن الله ينصر الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا ينصر الدولة الظالمة ولو كانت مسلمة.. بالعدل تستصلح الرجال، وتستغزر الأموال.

يمكنكم تحميل كتاب التداول على السلطة التنفيذية من الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي

http://alsallabi.com/uploads/file/doc/16.pdf


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022