(تحليل خطاب أبي بكر رضي الله عنه بعد البيعة العامة)
الحلقة: 22
بقلم: د.علي محمد الصلابي
جمادى الأولى 1443 ه/ ديسمبر 2021
كانت بيعة الخلفاء الراشدين على كتاب الله وسنة رسوله متضمنة أهم أسس العدالة والحرية والكرامة والمساواة ومبادأئ الحكم الرشيد، ولم يكن الصحابة ليوافقوا على بيعة الخلفاء الراشدين لو لم تكن وفق أصول النظام الإسلامي كما هي مقررة في الشريعة الإسلامية، وتضع لسلطة الحاكم قيوداً وحدوداً شرعية.
وقد تعرض عدد كبير من الباحثين المعاصرين لأسس العدالة في النظام الإسلامي. ومنهم من سماها: ضمانات الحكم الإسلامي، مثل: محمد أحمد مفتي في كتابه «أركان وضمانات الحكم الإسلامي»، ومنهم عبد الغني بسيوني في كتابه «نظرية الدولة في الإسلام»، وقد جعلها في ستة ضمانات، وهي: وجود دستور إلهي، وتقرير المبادأئ الدستورية الإلهية، والحقوق، والحريات العامة، وتقرير مسؤولية الحاكم، والفصل بين السلطات، وخضوع السلطة الحاكمة لرقابة القضاء.
وكذلك أوردها توفيق الشاوي ضمن كتابه: «فقه الشورى والاستشارة»، وقال: إن الفقه الإسلامي يكبح جماح سلطان الحكام؛ لأنه يحصر ولاية الحكومة الشرعية في نطاق التنفيذ، ويحجبها عن ميدان الفقه، ويفرض الأساس التعاقدي للدستور الذي يفصل شروط البيعة الحرة، ويقيد سلطة الحكام، وينظم مساءلتهم، والرقابة على أعمالهم، ويحمي استقلال المؤسسات المستقلة عنهم في ميدان الفقه والعلم والتعليم والأوقاف، وبين المال والزكاة.
ويظهر أن توفيق الشاوي يحدد أسس وضمان العدالة في الحكم الإسلامي فيما يلي:
ـ استقلال الشريعة والفقه على سلطة الدولة التنفيذية.
ـ اختيار الرئيس يقوم على أساس البيعة الحرة.
ـ الحد من سلطة الحاكم.
ـ مراقبة الحاكم ونقده وتقويمه.
ـ استقلال المؤسسات العلمية والتعليمية والمالية عنهم.
وقد جاء في خطبة الصديق حينما ولي الخلافة ما يوضح الحدود والقيود على سلطة الحكام ؛ التي تضمن سير العدالة.
فقد نص خطاب الصديق رضي الله عنه على الآتي:
أما بعد:
· أيها الناس، فإني قد وليت عليكم ولست بخيركم.
· فإن أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوموني.
· الصدق أمانة والكذب خيانة.
· والضعيف فيكم قوي عندي حتى اخذ الحق له.
· والقوي فيكم ضعيف عندي حتى اخذ الحق منه إن شاء الله.
· لا يدع قوم الجهاد في سبيل الله إلا ضربهم الله بالذل.
· ولا يشيع في قوم قط الفاحشة إلا عمهم الله بالبلاء.
· أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذ عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم.
فنص الخطاب يتضمن أهم شروط البيعة التي يلتزم بها الإمام.
وفي خطاب أبي بكر لنا وقفات، منها:
1 ـ أول حاكم بعد الرسول:
إن أبا بكر رضي الله عنه هو أول حاكم بعد الرسول صلى الله عليه وسلم، بشر لا يوحى إليه، فبهذه الصفة مؤهل لأن يكون نموذجاً للحكم الرشيد الذي فيه الدروس والعبر والقيم من خلال المجهود البشري؛ الذي يخطأئ ويصيب، ومسترشد بالقران والسنة.
2 ـ التواضع الكبير:
إن نص هذه الخطبة يعتبر بمصطلحات وأقوال عصرنا هو البيان الوزاري للسلطة التنفيذية التي تمّت عليه البيعة العامة، وإعطاء الثقة في المسجد بعد البيعة الخاصة في السقيفة في ضوئه.
3 ـ البيان الوزاري للسلطة:
إن قول أبي بكر رضي الله عنه: وليت عليكم ولست بخيركم: فكل حاكم يجب أن يعلم أنه معرض للخطأ والمحاسبة، وأنه لا يستمد سلطته من أي امتياز شخصي، وهذه العبارة تكفي للرد على جميع من يدعون أن الحكومة الإسلامية يمكن أن تكون لها صفة دينية، أو ثيوقراطية.
وهذه مدرسة الإسلام في تقديم النماذج القيادية للسلطة التنفيذية، من معالمها: التواضع الجم، وإلا فأبو بكر خير الناس بعد محمد صلى الله عليه وسلم والأنبياء المرسلين بلا منازع بنصوص واضحة وصريحة من الكتاب والسنة، ولكن أبا بكر يؤسس لمنهج التواضع السياسي الذي ينبغي أن يسير عليه مواطنو الدولة الإسلامية، وخاصة رئيسهم؛ لأنه القدوة بالنسبة للاخرين.
إن التواضع المطلوب في الإسلام هو التواضع الشامل في الأخلاق والكلام والأفعال والملبس والمأكل والمشرب والمركب، لا يُستثنى من شؤون الحياة شيء.
4 ـ حق الأمة في مراقبة الحاكم ومحاسبته:
قال أبو بكر رضي الله عنه: فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني.
فهذا الصديق يقرّ بحق الأمة وأفرادها في الرقابة على أعماله ومحاسبته عليها، بل وفي مقاومته لمنع كل منكر يرتكبه، وإلزامه بما يعتبرونه الطريق الصحيح والسلوك الشرعي، وقد أقر الصديق في بداية خطابه للأمة أن كل حاكم معرض للخطأ والمحاسبة، وأنه لا يستمد سلطته من أي امتياز شخصي يجعل له أفضلية على غيره؛ لأن عهد الرسالات والرسل المعصومين قد انتهى، وأن اخر رسول كان يتلقى الوحي انتقل إلى جوار ربه، وقد كانت له سلطة دينية مستمدة من عصمته كنبي، ومن صفته باعتباره رسولاً يتلقى التوجيه من السماء، ولكن هذه العصمة قد انتهت بوفاته صلى الله عليه وسلم، وبعد وفاته صلى الله عليه وسلم أصبح الحكم والسلطة مستمدين من عقد البيعة، وتفويض الأمة للحاكم.
إن الأمة في فقه أبي بكر لها إرادة حية واعية لها القدرة على المناصرة، والمناصحة، والمتابعة، والتقويم، فالواجب على الرعية نصرة الإمام الحاكم بما أنزل الله، ومعاضدته ومناصرته في أمور الدين والجهاد، ومن نصرة الإمام ألا يهان، ومن معاضدته أن يحترم، وأن يكرّم، فقوامته على الأمة وقيادته لها لإعلاء كلمة الله تستوجب تبجيله، وإجلاله، وإكرامه، إجلالاً وإكراماً لشرع الله الذي ينافح عنه ويدافع عنه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن من إجلال الله تعالى إكرام ذي الشيبة المسلم، وحامل القرآن غير المغالي فيه والجافي عنه، وإكرام ذي السلطان المقسط».
والأمـة واجـب عليهـا أن تناصح ولاة أمـرها، قـال صلى الله عليه وسلم: «الديـن النصيحة ـ ثلاثاً ـ» قال الصحابة: لمن يا رسول الله؟ قال: «لله عز وجل ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم».
ولقد استقر في مفهوم الصحابة أن بقاء الأمة على الاستقامة رهن باستقامة ولاتها، ولذلك كان من واجبات الرعية تجاه حكامهم نصحهم وتقويمهم، ولقد أخذت الدولة الحديثة تلك السياسة الرائدة للصديق رضي الله عنه، وترجمت ذلك إلى لجان متخصصة، ومجالس شورية تمد الحاكم بالخطط، وتزوده بالمعلومات، وتشير عليه بما يحسن أن يقرّره.
والشيء المحزن أن كثيراً من الدول الإسلامية تعرض عن هذا النظام الحكيم، فعظم مصيبتها في تسلط الحكام وجبروتهم، والتخلف الذي يعمّ معظم ديار المسلمين ما هو إلا نتيجة لتسلط بغيض «ودكتاتورية» لعينة، أماتت في الأمة روح التناصح والشجاعة، وبذرت فيها، وزرعت الجبن والفزع إلا من رحم ربي.
ولعل مع ثورات الشعوب المتطلعة إلى الحرية، والكرامة، والعدالة، تنجح هذه الشعوب الثائرة بالقيام بدورها في اختيار الأصلح، ومراقبة الحكـام، ومنـاصحتهم، وتستفيد من تجربـة الصديق الرشـيدة في إدارة الحكـم.
5 ـ الصدق أساس التعامل بين الحاكم والمحكوم:
قال أبو بكر رضي الله عنه: الصدق أمانة والكذب خيانة. أعلن الصديق رضي الله عنه مبدأ أساسياً تقوم عليه خطته في قيادة الأمة وهو: أن الصدق بين الحاكم والأمة هو أساس التعامل، وهذا المبدأ السياسي الحكيم له الأثر الهام في قوة الأمة، حيث ترسخ جسور الثقة بينها وبين حاكمها... إنه خلق سياسي منطلق من دعوة الإسلام إلى الصدق.
قال تعالى: َ {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ *}[التوبة: 119].
ومن التحذير من الكذب قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا يزكيهم، ولا ينظر إليهم، ولهم عذاب أليم: شيخ زان، وملك كذاب، وعائل مستكبر».
فهذه الكلمات: (الصدق أمانة) اكتست بالمعاني، فكأن لها روحاً تروح وتغدو بين الناس، تلهب الحماس، وتصنع الأمل. (والكذب خيانة) وهكذا يأبى أبو بكر إلا أن يمس المعاني، فيسمي الأشياء بأسمائها، فالحاكم الكذاب هو ذلك الوكيل الخائن الذي يأكل خبز الأمة ثم يخدعها، فما أتعس حاكماً يتعاطى الكذب فيسميه بغير اسمه، لقد نعته الصديق بالخيانة، وأنه عدو أمته الأول، وهل بعد الخيانة من عداوة؟! حقاً ما زال الصديق يطل على الدنيا من موقفه هذا، فيرفع أقواماً ويسقط اخرين، وتظل صناعة الرجال أرقى فنون الحكم، إذ هم عدة الأمة ورصيدها الذي تدفع به عن نفسها ملمات الأيام، ولا شك أن من تأمل كلمات أبي بكر تلك أصدقه الخبر بأن الرجل كان رائداً في هذا الفن الرفيع، فقد كان يسير على النهج النبوي الكريم.
إن شعوب العالم اليوم تحتاج إلى هذا النهج الرباني في التعامل بين الحاكم والمحكوم لكي تقاوم أساليب تزوير الانتخابات، وتلفيق التهم، واستخدام الإعلام وسيلة لترويج اتهامات باطلة لمن يعارضون الحكام أو ينتقدونهم، ولابد من إشراف الأمة على التزام الحكام بالصدق والأمانة من خلال مؤسساتها التي تساعدها على تقويم ومحاسبة الحكام إذا انحرفوا، فتمنعهم من سرقة إرادتها، وشرفها، وحريتها، وأموالها.
يمكنكم تحميل كتاب التداول على السلطة التنفيذية من الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي