(أبو بكر الصديق يقر مشروع توثيق دستور الأمة )
الحلقة: 26
بقلم: د. علي محمد الصلابي
جمادى الأولى 1443 ه/ ديسمبر 2021
إن دستور الدولة الإسلامية هو القرآن الكريم، ومعه السنة النبوية، شارحة ومفصلة وموضحة له، وكان القرآن الكريم في بداية الأمر يكتب على الجلود والألواح وجريد النخل التي توزعت في بيوت الصحابة، وقد مرّ جمع القرآن الكريم من عهد النبوة إلى خلافة أبي بكر بمراحل، من أهمها:
أ ـ جمع القرآن الكريم كتابة من فم رسول الله صلى الله عليه وسلم:
وردت لفظ «الجمع» بمعنى:«الحفظ مع دقة الترتيب» عدة مرات في كتاب الله، وذلك من مثل قوله تعالى مخاطباً أنبياءه ورسله صلى الله عليه وسلم: {لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ *إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ *فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ *ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ *} [القيامة:16 ـ 19].
كما وردت لفظة «الجمع» بمعنى:«الكتابة والتدوين» والمعنى الأول اتاه الله تعالى لخاتم أنبيائه ورسله صلى الله عليه وسلم، ولعدد غير قليل من صحابته الكرام، وممن تابعهم من الصالحين إلى اليوم وحتى يوم الدين، وهؤلاء تدارسوا القرآن الكريم، ولا يزالون يتدارسونه ويستظهرونه ؛ ليتمكنوا من القراءة به في الصلوات المكتوبة، وفي النوافل، وفي الاستشهاد.
وأما جمع القرآن الكريم بمعنى تدوينه كتابة؛ فقد جمع كتابه من فم رسول الله صلى الله عليه وسلم.إن جميع الأحاديث الواردة في هذا الشأن تتفق على ترتيب ايات القران، حسبما عليه المصحف الان إنما هو ترتيب توقيفي، لم يجتهد فيه رسول الله ولا أحد من الصحابة في عهده أو من بعده، وإنما كان يتلقى ترتيبها بعضها إلى جانب بعض، وحياً من عند الله بواسطة جبريل.
روى أحمد بإسناده عن عثمان بن أبي العاص، قال: كنت جالساً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ شخص ببصره، ثم صوّبه، قال: «أتاني جبريل فأمرني أن ضع هذه الآية هذا الموضع من السورة: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى} [النحل: 90]».
إن من مظاهر عناية الله بالقرآن الكريم وحفظه ما تمّ على يد الرسول صلى الله عليه وسلم وأمته من حفظ القرآن في صدورهم، وكتابته في الصحف، وقد بلغ الرسول صلى الله عليه وسلم وأمته في ذلك أرقى مناهج التوثيق، ذلك أن القرآن الكريم نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم منجماً في ثلاث وعشرين سنة حسب الحوادث ومقتضى الحال، وكانت السورة تدون ساعة نزولها؛ إذ كان المصطفى صلى الله عليه وسلم إذا ما نزلت عليه اية أو آيات قال: ضعوها في مكان كذا وكذا.
ولهذا اتفق العلماء على أن جمع القرآن توقيفي، بمعنى أن ترتيبه بهذه الطريقة التي نراه عليها اليوم في المصاحف إنما هو بأمر الله، ووحي من الله.
وما يقال عن ترتيب ايات القرآن هو الذي يقوله إجماع المؤرخين والمحدّثين والباحثين عن ترتيب السور، ووضع البسملة في رؤوسها، قال القاضي أبو بكر ابن الطيب رواية عن مكي رحمه الله في تفسير سورة «براءة»: إن ترتيب الايات من السور، ووضع البسملة في رؤوسها هو توقيف من الله عز وجل، ولما لم يؤمر بذلك في أول سورة براءة تركت بلا بسملة.
ب ـ جمع القرآن الكريم في مصحف واحد على عهد الخليفة الأول أبي بكر الصديق رضي الله عنه:
وكان ضمن شهداء المسلمين في حرب مسيلمة الكذّاب في اليمامة كثير من حفظة القران، وقد نتج عن ذلك أن قام أبو بكر رضي الله عنه بمشورة عمر بن الخطاب رضي الله بجمع القران، حيث جمع من الرقاع والعظام والسعف ومن صدور الرجال، وأسند أبو بكر الصديق رضي الله عنه هذا العمل العظيم، والمشروع الحضاري الضخم إلى الصحابي الجليل زيد بن ثابت رضي الله عنه.
يروي زيد بن ثابت رضي الله عنه فيقول: بعث إليَّ أبو بكر رضي الله عنه فقال: إن عمر أتاني فقال: إن القتل قد استحر يوم القيامة بقراء القران، وإني أرى أن تأمر بجمع القران، قلت لعمر: كيف أفعل شيئاً لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال عمر: هذا والله خير، فلم يزل عمر يراجعني حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدر عمر، ورأيت في ذلك الذي رأى عمر، قال زيد: قال أبوبكر: وإنك رجل شاب عاقل لا نتهمك، وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فتتبع القرآن فاجمعه، قال زيد: فوالله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان بأثقل عليّ مما كلفني من جمع القران، فتتبعت القرآن من العُسُب، واللخاف وصدور الرجال والرقاع، والأكتاف، قال: حتى وجدت اخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري لم أجدها مع أحد غيره، قال تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ *} [التوبة: 128] حتى خاتمة براءة. وكانت الصحف عند أبي بكر في حياته حتى توفاه الله، ثم عند عمر في حياته حتى توفاه الله، ثم عند حفصة بنت عمر رضي الله عنهم.
وقد اختار أبو بكر رضي الله عنه زيد بن ثابت لهذه المهمة العظيمة، وذلك لأنه رأى فيه المقومات الأساسية للقيام بها، وهي:
§ كونه شاباً، حيث كان عمره (21) سنة، فيكون أنشط لما يطلب منه.
§ كونه أكثر تأهيلاً، فيكون أوعى له، إذ من وهبه الله عقلاً راجحاً فقد يسر له سبل الخير.
§ كونه ثقة، فليس هو موضعاً للتهمة، فيكون عمله مقبولاً، وتركن إليه النفس، ويطمئن إليه القلب.
§ كونه كاتباً للوحي، فهو بذلك ذو خبرة سابقة في هذا الأمر، وممارسة عملية له، فليس غريباً عن هذا العمل، ولا دخيلاً عليه.
هذه الصفات الجليلة جعلت الصديق يُرشح زيداً لجمع القران، فكان به جديراً، وبالقيام به خبيراً.
§ ويضاف لذلك أنه أحد الصحابة الذين جمعوا القرآن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم مع الإتقان، وأما الطريقة التي اتبعها زيد في جمع القرآن، فكان لا يثبت شيئاً من القرآن إلا إذا كان مكتوباً بين
يدي النبي صلى الله عليه وسلم، ومحفوظاً من الصحابة، فكان لا يكتفي بالحفظ دون الكتابة، خشية أن يكون في الحفظ خطأ أو وهم، وأيضاً لم يقبل من أحد شيئاً جاء به إلا إذا أتى معه شاهدان يشهدان أن ذلك المكتوب كُتب بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه من الوجوه التي نزل بها القرآن.
وعلى هذا المنهج استمر زيد رضي الله عنه في جمع القرآن حَذِراً، متثبتاً، مبالغاً في الدقة والتحري.
إن زيداً اتبع طريقة في الجمع نستطيع أن نقول عنها من غير تردد أنها طريقة فذة في تاريخ الصناعة العقلية الإنسانية، وأنها طريقة التحقيق العلمي المألوف في العصر الحديث، وأن الصحابي الجليل قد اتبع هذه الطريقة بدقة دونها كل دقة، وأن هذه الدقة في جمع القرآن متصلة بإيمان زيد بالله، فالقران كلام الله جل شأنه، فكل تهاون في أمره، أو إغفال للدقة في جمعه وزر ما كان أحرص زيداً ـ في حسن إسلامه، وجميل صحبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم ـ أن يتنزه عنه.
إن ما قام به زيد بن ثابت رضي الله عنه بتكليف من خليفة المسلمين أبي بكر الصديق رضي الله عنه، ومشورة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ومعاونة عمر رضي الله عنه، وأبي بن كعب، ومشاركة جمهور الصحابة ممن كان يحفظ القرآن ويكتبه، وإقرار جمع من المهاجرين والأنصار، مظهر من مظاهر العناية الربانية بحفظ القرآن الكريم، وتوفيق من الله للأمة الإسلامية، وترشيد منه لمسيرتها، ويتضمن ذلك ـ أيضاً ـ كما قال أبو زهرة: حقيقتين مهمتين تدلان على إجماع الأمة كلها على حماية القرآن الكريم من التحريف والتغيير والتبديل، وأنه مصون بعناية الله سبحانه وتعالى، ومحفوظ بحفظه، وإلهام المؤمنين بالقيام عليه وحياطته.
يمكنكم تحميل كتاب التداول على السلطة التنفيذية من الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي