(التمسك بالجهاد والحرب على الفواحش في خطاب أبو بكر الصديق بعد البيعة العامة)
الحلقة: 24
بقلم: د. علي محمد الصلابي
جمادى الأولى 1443 ه/ ديسمبر 2021
1 ـ إعلان التمسك بالجهاد وإعداد الأمة لذلك:
قال أبو بكر رضي الله عنه: وما تـرك قـوم الجهاد في سبيل الله إلا خذلهم الله بالذل، لقد تلقى أبو بكـر تربيتـه الجهـادية مباشرة من نبيـه وقائده العظيم صلى الله عليه وسلم، تلقاها تربية حية في ميادين الصراع بين الشرك والإيمان، والضلال والهوى، والشر والخير، ولقد ذكرت مواقف الصديق في غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم. ولقد فهم الصديق رضي الله عنه من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقـر، ورضيتم بالـزرع، وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم» ، أن الأمة تصاب بالـذل إذا تركت الجهـاد، فلذلك جعل الصديق الجهاد إحدى حقائق الحكم في دولته.
ولذلك حشد طاقات الأمة من أجل الجهاد لكي يرفع الظلم عن المظلومين، ويزيل الغشاوة عن أعين المقهورين، ويعيد الحرية للمحرومين، وينطلق بدعوة الله في افاق الأرض يزيل كل عائق ضدها.
2 ـ إعلان الحرب على الفواحش:
قال أبو بكر رضي الله عنه: ولا تشيع الفاحشة في قوم إلا عمهم الله بالبلاء، والصديق هنا يذكر الأمة بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها، إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا».
إن الفاحشة هي داء المجتمع العضال الذي لا دواء له، وهي سبيل تحلله وضعفه، حيث لا قداسة لشيء، فالمجتمع الفاحش لا يغار، ويقر الدنية ويرضاها، إنه مجتمع الضعف والعار والأوجاع والأسقام، وحال الناس أدل شاهد. لقد وقف أبو بكر يحفظ قيم الأمة وأخلاقها.
فقد حرص في سياسته على طهر الأمة ونقائها، وبعدها عن الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وهو رضي الله عنه يريد بذلك أمة قوية لا تشغلها شهواتها، ولا يضلها شيطانها، لتعيش أمة منتجة تعطي الخير، وتقدم الفضل لكل الناس.
إن علاقة الأخلاق بقيام الدول، وظهور الحضارة علاقة ظاهرة، فإن فسدت الأخلاق، وخربت الذمم، ضاعت الأمم، وعمها الفساد والدماء. والدارس لحياة الأمم السابقة والحضارات السالفة بعين البصيرة، يدرك كيف قامت حضارات على الأخلاق الكريمة والدين الصحيح كالحضارة التي قامت في زمن داود وسليمان عليهما السلام، والتي قامت في زمن ذي القرنين، وكثير من الأمم التي التزمت بالقيم والأخلاق، فظلت قوية طالما حافظت عليها، فلما دب سوس الفواحش إليها استسلمت للشياطين، وبدلت نعمة الله كفراً، وأحلت قومها دار البوار، فزالت قوتها، وتلاشت حضارتها.
إن الصديق رضي الله عنه استوعب سنن الله في المجتمعات وبناء الدول وزوالها، وفهم أن زوال الدول يكون بالترف والفساد والانغماس في الفواحش والموبقات، قال تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا *}[الإسراء: 16] .
أي: أمرناهم بالأمر الشرعي من فعل الطاعات وترك المعاصي، فعصوا وفسقوا، فحق عليهم العذاب والتدمير جزاء فسقهم وعصيانهم.
وفي قراءة:«أَمَّرْنَا» بالتشديد، أي: جعلناهم أمراء، والترف وإن كان كثرة المال والسلطان من أسبابه، إلا أنه حالة نفسية ترفض الاستقامة على منهج الله، وليس كل ثراء ترفاً.
إن سياسة الصديق في حربه للفواحش حَرِيٌّ بحكام المسلمين أن يقتدوا بها، فالحاكم التقي الذكي العادل هو الذي يربي أمته على الأخلاق القويمة؛ لأنه حينئذ سيقود شعباً أحس طعم الادمية، وجرى في عروقه دم الإنسانية. وأما إن سلب الحاكم الذكاء، وصار من الأغبياء، أشاع الفاحشة في قومه، وعمل على حمايتها بالقوة والقانون، وحارب القيم والأخلاق الحميدة، ودفع بقومه إلى مستنقعات الرذيلة، ليصبحوا كالحيوانات الضالة والقطعان الهائمة لا همّ لها إلا المتاع، والزينة الخادعة، فيصبحوا بعد ذلك أقزاماً، قد ودّعوا الرجولة والشهامة.
ويصدق فيهم قول الله تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرْتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ *}[النحل: 112] .
يمكنكم تحميل كتاب التداول على السلطة التنفيذية من الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي