(مصادر التشريع عند أبو بكر الصديق رضي الله عنه)
الحلقة: 25
بقلم: د. علي محمد الصلابي
جمادى الأولى 1443 ه/ ديسمبر 2021
قال أبو بكر رضي الله عنه: أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإن عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم.
فمصدر التشريع عند الصديق:
أ ـ القرآن الكريم:
قال الله تعالى: ِ {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلاَ تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا *} [النساء:105] .
فهو المصدر الأول الذي يشتمل على جميع الأحكام الشرعية التي تتعلق بشؤون الحياة، كما يتضمن مبادأئ أساسية، وأحكاماً قاطعة لإصلاح كل شِعْب من شُعَب الحياة، كما بيّن القرآن الكريم للمسلمين كل ما يحتاجون إليه من أسس تقوم عليها دولتهم.
ب ـ السنة المطهرة:
هي المصدر الثاني الذي يستمد منه الدستور الإسلامي أصوله، ومن خلالها يمكن معرفة الصيغ التنفيذية والتطبيقية لأحكام القرآن.
إن دولة الصديق خضعت للشريعة، وأصبحت سيادة الشريعة الإسلامية فيها فوق كل تشريع، وفوق كل قانون، وأعطت لنا صورة مضيئة مشرقة على أن الدولة الإسلامية دولة شريعة خاضعة بكل أجهزتها لأحكام الشريعة، والحاكم فيها مقيد بأحكامها لا يتقدم ولا يتأخر عنها.
ففي دولة الصديق وفي مجتمع الصحابة الشريعة فوق الجميع، يخضع لها الحاكم والمحكوم ؛ ولهذا قيد الصديق طاعته التي طلبها من الأمة بطاعة الله ورسوله؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا طاعة في المعصية، إنما الطاعة في المعروف»، والحاكم له على رعيته حق السمع والطاعة، ولكن في حدود طاعته هو لله ورسوله، فإن عصى الله ورسوله ـ بتعطيل شيء من شرع الله ـ فلا طاعة له على الناس.
يقول تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَومِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً *} [النساء:59].
وظاهر من البناء اللغوي للاية أن الطاعة لله مطلقة، كذلك الطاعة للرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن ليست كذلك الطاعة لأولي الأمر، ولو قال تعالى: أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأطيعوا أولي الأمر منكم لوجبت طاعتهم مطلقاً كطاعة الله وطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن الله جل شأنه لم يقل ذلك، وإنما عطف طاعة أولي الأمر على طاعة الله والرسول بدون تكرار الأمر {وَأَطِيعُوا} لتظل طاعتهم مقرونة دائماً بحدود ما أنزل الله.
وهكذا فهم الخليفة الأول رضي الله عنه حين قال للأمة: أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإن عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم.
فهذه هي حدود الأمر في الإسلام، فلا يتصور أحد أن يكون لولي الأمر حق مخالفة الله ورسوله، والله يقول: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36].
فليس للحاكم أن يتصرف في الشريعة بالإبطال أو التعديل أو الاستبدال؛ لأن هذا الحق ليس لأحد على الإطلاق، لا الحاكم ولا المحكوم، ومحك الإيمان الذي بينه الله في كتابه المنزل هو التحاكم إلى شرع الله، أو الإعراض عنه، قال تعالى: {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ *وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ *وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ *أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ *إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ *} [النور: 47 ـ 51] .
فهؤلاء يقولون لا إله إلا الله محمد رسول الله َ {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ} يزيدون على ذلك، فيزعمون أنهم مطيعون لله ورسوله، والله يقول عنهم: {وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ *} فينفي عنهم ما زعموه من دعوى الإيمان، ويبين أن السبب في نفي الإيمان عنهم أنهم إذا دعوا إلى شريعة الله أعرضوا عنها، إلا حين يكون لهم مصلحة ذاتية في تطبيقها، ويبين الله تعالى موقف المؤمنين الحقيقيين إذا دعوا إلى شريعة الله، فإنهم على الفور يقولون سمعنا وأطعنا بصرف النظر عما يصيب ذواتهم من تطبيقها، إنما هي الطاعة المطلقة لله ورسوله، هي صفة المؤمنين، وهي سبيل الفلاح في الدنيا والاخرة.
إن مدار العقد بين الرئيس والمواطنين في الدولة الحديثة المسلمة على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا يختص الرئيس بحفظ شرع الله دون الناس، بل حفظ دين الله موكل إلى جميع المؤمنين، وهو ما كان مفهوماً في العهد الأول قبل أن يطول الأمد فيُنسى العهد، ويمكن أن نجتهد بدورنا في كتابة ميثاق يجعل أولى بنوده كون الشريعة مصدر التشريع، وأن كل قانون يخالفها يعد باطلاً، فالبيعة عقد مؤسس لشريعة الحكم، كما أنه عن رضى وقبول من الأمة، وفيه تحدد صلاحيات الحاكم، وحقوق المحكومين، والمرجع شرع الله حتى تكون حياة المسلمين بالإسلام وعلى الإسلام وللإسلام لا إله إلا الله محمد رسول الله.
يمكنكم تحميل كتاب التداول على السلطة التنفيذية من الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي