الثلاثاء

1446-12-28

|

2025-6-24

(في تعريفات التقوى)

من كتاب إبراهيم خليل الله دَاعِيةُ التَّوحِيدِ وَدينِ الإِسلَامِ وَالأُسوَةُ الحَسَنَةُ

الحلقة: 129

بقلم الدكتور علي محمد الصلابي

ربيع الآخر 1444ه / نوفمبر 2022م

 

ذكروا للتقوى تعريفات كثيرة، وتعدّدت في ذلك كلماتهم وأقوالهم، وسأذكر بعض التعريفات؛ لكي تكون نبراساً نهتدي بنوره، ومنها:

- قيل: إنّ التقوى أن يُطاع الله فلا يُعصى، ويُذكر فلا يُنسى، ويُشكر فلا يُكفر.

- قيل: التقوى: هي ترك الإصرار على المعصية وترك الاغترار بالطاعة، فالمُتقي لا يصرُّ على المعصية، وإن كانت صغيرة، ولا يغترُّ بطاعة وإن كانت عظيمة.

- قيل: إنَّ التقوى ألا تختار سوى الله، وأن تعلم أنّ الأمور كلّها بيد الله.

- من تعريفات التقوى: ألّا يراك مولاك حيث نهاك.

ويجمع هذه التعريفات جميعاً ثلاثة أمور:

- أولاً: أن نجتنب الذنوب صغيرها وكبيرها، فإنَّ الإصرار على الصغائر، قد يؤدّي إلى الكبائر.

- ثانياً:

أن تحذر من كل ما تقدم عليه من قول وعمل كالذي يسير في طريق مليء بالأشواك، يكون حذراً في كل خطوة يخطوها، وهذا ما جعله علامة التقوى بعض الصحابة رضوان الله عليهم، فقد قيل: إن عمر بن الخطاب سأل أُبي بن كعب عن التقوى فقال له: أما سلكت طريقاً ذا شوك؟ فقال: بلى، قال: فما عملت؟ قال: شمّرت واجتهدت، قال: فذلك التقوى.

- ثالثاً: ألا تحقّر شيئاً من صغائر الأمور، فلقد ورد عن سيدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أنّه مرّ بتمرة مسقوطة فقال: لولا أن تكون صدقة لأكلتها(1).

وقد رُوي في الأثر: من أحبَّ أن يكون أكرم الناس فليتّق الله، ومن أحبَّ أن يكون أكرم الناس فليتّق الله، ومن أحبَّ أن يكون أقوى الناس، فليتوكل على الله، ومن أحبَّ أن يكون أغنى الناس فليكن ما في يد الله أوثق بما في يده(2).

• الفرق بين العبادة والتقوى:

مما تقدم يجب أن ندرك أمر التقوى، وعظيم شأنها، ورفيع منزلتها، وندرك أن أنّها السلاح الوحيد الذي يستطيع المؤمن به أن يواجه العقبات، وينتصر على الأزمات، وهي ثمرة يانعة لا بُدّ لتحقيقها من خمسة أمور، وهي: الإيمان، والطاعة، وترك المعصية، والتوبة والإخلاص، فإذا انتفى واحدٌ من هذه الخمسة انتفت التقوى. ومن هنا نعلم أنَّ التقوى ليست العبادة - كما يظنُّ كثير من الناس- فرُبّ عابد كثرت عبادته، ولكن لا ترفعه عبادته لدرجة التقوى، وفي الكتاب الكريم والسُّنة النبويّة أدلّة كثيرة وبراهين ساطعة على ما بيّنته لك(3).

قال تعالى: {وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ} ]العنكبوت:16[.

وقال تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (1) قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (2) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3)} ]نوح:1-3[

وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} ]البقرة:21[.

فهذه الآيات الكريمة قد ميّزت بين العبادة والتقوى، فنوح وإبراهيم - عليهما السلام- كلٌّ يأمر قومه بالعبادة والتقوى، وفي الآية الثالثة أمر للناس من الله أن يعبدوا الذي خلقهم وخلق الذين من قبلهم، راجين أن ترتفع بهم عبادتهم وتوصلهم إلى درجة التقوى(4).

وفي السُّنة النبويّة المطهّرة، يقول الرسول صلّى الله عليه وسلّم: إيّاكم والظّن، فإن الظّن أكذب الحديث، ولا تحسّوا ولا تجسّوا، ولا تحاسدوا ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخواناً، المسلم أخو المسلم لا يحقره ولا يظلمه ولا يخذله، بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه، إنَّ الله لا ينظر إلى صوركم وأجسامكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم، التقوى ههنا، التقوى ههُنا، ويشير إلى صدره(5).

ومن هذا الحديث الشريف ندرك أولاً أن التقوى لا بدّ لها من تجنب هذه الأعمال جميعها التي ذُكرت في الحديث، وندرك ثانياً أن التقوى إنما هي سرّ بين العبد وربّه، ولهذا أشار النبي الكريم صلّى الله عليه وسلّم إلى صدره، ويؤيد هذا قول الله تبارك وتعالى: {فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} ]النجم:32[.

ومن الآيات التي بيَّنت حقيقة التقوى بياناً جامعاً، وبينت أن هذه التقوى لا ينعم بدفئها وظلها ونورها إلا بعد أن يتصف بأمهات الفضائل، ويوفق لأمهات العبادات وأصولها، هي قوله تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} ]البقرة:177[.

انظروا - أرشدني الله وإيَّاكم- إلى الخصال الكريمة والصفات الحميدة التي تحدثت عنها هذه الآية الكريمة، وكيف أنه ذُكر فيها أصول الشريعة الثلاثة: العقائد، والعبادات، والأخلاق، إضافة إلى خمس عشرة خصلة، جُعلت التقوى ثمرة ذلك كلّه، كما جاء في الآية القرآنية الكريمة: {أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} ]البقرة:177[.

مما تقدم نُدرك السرَّ، ونُدرك الحكمة التي من أجلها ذكر الله التقوى في أوّل كتابه الكريم: {الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2)} ]البقرة:1-2[، اللهم اجعلنا من المتقين الذين قلت فيهم {تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا} ]مريم:63[(6).

وهذه الآيات حَريّة بالعناية والتقدير والاهتمام؛ لأنَّ فيها أوصافاً يجب على المسلم أن يتحرّاها، محاولاً أن يتحلى بها، وخاصة أنّها أوّل آية في كتاب الله تبيّن أحوال المتقين، فورودها في أول القرآن الكريم دليلٌ على أهمية شأنها وعظيم خطرها، ومن أهميتها كذلك، أنّها وصف لأولئك الذين انتفعوا بالقرآن العظيم، واهتدوا به فتلوْه وتدبروه(7).

قال تعالى: {الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)} ]البقرة:1-5[.

- الصفة الأولى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ}.

- الصفة الثانية: {وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ}.

- الصفة الثالثة: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ}.

- الصفة الرابعة: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ}.

- الصفة الخامسة: {وَبِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ}.

وبعد هذه الصفات يذكر الله تبارك وتعالى جزاء أولئك المتقين: {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}، فهم أولاً متمكنون من الهدى، الثابتون عليه، والهداية نعمة من نعم الله العظيمة، قال تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآَتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} ]محمد:17[.

وهذا القسم الأول من الجزاء العظيم، أما القسم الثاني فهو الفلاح، فهؤلاء المتّقون كملت لهم السعادة وسيلة وغاية ومبدأ ونهاية(😎.

وقد وضح القرآن الكريم قيمة التقوى وجعلها غاية منشودة، وكتب عنها كثير من العلماء، وبيّنوا حقيقتها وثمارها وآثارها، وصفات المتقين التعبديّة والسلوكية، وكل ما يتعلق بهذه القيمة الربانية السامية(9).

 

مراجع الحلقة التاسعة والعشون بعد المائة:

(1) صحيح البخاري، كـ البيوع، رقم (950).

(2) خماسيات مختارة في تهذيب النفس الأمارة، فضل حسن عباس، ص28.

(3) نوح عليه السلام والطوفان العظيم، د. علي محمد محمد الصّلّابي، ص130.

(4) خماسيات مختارة في تهذيب النفس الأمارة، فضل حسن عباس، ص 29.

(5) صحيح مسلم، كـ البرّ والتقوى، رقم (2564).

(6) خماسيات مختارة في تهذيب النفس الأمارة، فضل حسن عباس، ص30.

(7) المرجع نفسه، ص25.

(8) خماسيات مختارة في تهذيب النفس الأمارة، فضل حسن عباس، ص37.

(9) نوح عليه السلام والطوفان العظيم، د. علي محمد محمد الصّلّابي، ص136.

 

يمكنكم تحميل كتاب إبراهيم خليل الله دَاعِيةُ التَّوحِيدِ وَدينِ الإِسلَامِ وَالأُسوَةُ الحَسَنَةُ

من الموقع الرسمي للدكتور علي الصَّلابي


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022