الثلاثاء

1446-11-08

|

2025-5-6

تأملات في الآية الكريمة: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ}

من كتاب إبراهيم خليل الله دَاعِيةُ التَّوحِيدِ وَدينِ الإِسلَامِ وَالأُسوَةُ الحَسَنَةُ

الحلقة: 127

بقلم الدكتور علي محمد الصلابي

ربيع الآخر 1444ه / نوفمبر 2022م

 

انتهت قصة إبراهيم - عليه السّلام - في سورة الشعراء بخطاب إلهي كريم من ربٍّ رحيم، وجهه الحق سبحانه وتعالى إلى خاتم أنبيائه ورسله مذكراً إياه أن الله لأعدائه بالمرصاد ولأوليائه بالرّحمة والإمداد {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ} بالنسبة لأعدائه، و{الرَّحِيمُ} بالنسبة لأوليائه، كما أنه كان رحيماً بهم في أنه لم يعجل بالعذاب، بل أمهل أهل الشر حتى يكون اليوم، وكان رحيماً بهم في أنه لم يسوِ الصحيح بالسقيم والحسن بالمسيء، وكان رحيماً بهم في أن وضع عذاباً للمجرمين، لكيلا يوغلوا في إجرامهم، ففي هذا الوصف بالرّحمة إنذار وتبشير؛ لأنّ العالم لا يقوم على المساواة بين الخير والشر، ولكل موضعه(2).

لقد صوّرت لنا الآيات الكريمة نهاية قوم إبراهيم - عليه السلام - وفي حقيقتها نهاية الشرك كافة، وهو موضع العبرة في قصص السورة جميعاً، ومشاهد القيامة في القرآن الكريم تعرض كأنها واقعة, وكأنما تشهدها الأبصار حين تُتلى, وتتملاها المشاعر, وتهتز بها الوجدانات، كالمصارع التي تمت على أعين الناس وهم يشهدون(3).

-اسم الله "العزيز":

ورد ذكر اسمه سبحانه {الْعَزِيزُ} في القرآن الكريم في اثنتين وتسعين مرة، جاء في أكثرها مقترناً بأسماء أخرى من أسمائه سبحانه الحسنى، ومن ذلك:

- قوله سبحانه وتعالى: {وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} ]البقرة:260[.

- وقوله سبحانه وتعالى: { أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ } ]ص:9[.

- وقوله سبحانه وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} ]فاطر:28[.

- وقوله سبحانه وتعالى: {ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} ]يس:138[.

- وقوله سبحانه وتعالى: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ} ]ص:66[.

- وقوله سبحانه وتعالى: { وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ } ]البروج:8[.

إنَّ الله عزّ وجل هو العزيز بكل معاني العزّة، كما قال سبحانه وتعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا} ]فاطر:10[.

يقول ابن كثير: {الْعَزِيزِ} أي: الذي قد عزّ كل شيء فقهره، وغلب الأشياء فلا ينال جنابه لعزته وعظمته وجبروته وكبريائه.

وقال القرطبي: {الْعَزِيزِ} معناه المنيع الذي لا ينال ولا يغالب(5).

وقال السعدي: {الْعَزِيزِ} الذي له العزّة كلّها: عزّة القوة، وعزّة الغلبة، وعزّة الامتناع، فامتنع أن يناَله أحد من المخلوقات، وقهر جميع الموجودات، ودانت له الخليقة، وخضعت لعظمته(6).

-اسم الله "الرحيم":

جاء اسم {الرَّحِيمُ} في (123) موضعاً في القرآن الكريم، أكثرها كان مقترناً باسمه سبحانه: "الغفور"، ومن ذلك:

- قوله تعالى: {وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} ]المزمل:20[

- وقوله تعالى: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} ]الأحزاب:43 [

- وقوله تعالى: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} ]الشعراء:191[.

واسم الله {الرَّحِيمُ} مع الرحمن دائماً يأتيان مع بعضهما في كتب أسماء الله الحسنى، وهذان الاسمان الكريمان مشتقات من الرّحمة على وجه المبالغة، وهي الرقّة والتعطّف، وإنَّ اسم {الرَّحمن} أشد مبالغة من اسم {الرَّحِيمُ}؛ لأنَّ بناء فعلان أشد مبالغة من فعيل وبناء فعلان؛ للسعة والشمول.

وفَرّق بعض أهل العلم بين هذين الاسمين الكريمين بالفروق الآتية:

- أولاً: أن اسم "الرحمن" هو ذو الرّحمة الشاملة لجميع الخلائق في الدنيا وللمؤمنين في الآخرة، وأما اسم "الرحيم" فهو ذو الرّحمة للمؤمنين كما في قوله تعالى: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} ]الأحزاب:43[، ولكل يشكل على ذلك قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} ]البقرة:143[، وقوله تعالى: {رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} ]الإسراء:66[.

- ثانياً: أن اسم "الرحمن" دالّة على الرّحمة الذاتية، و"الرحيم" دالّة على الرّحمة الفعلية، يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: إنَّ "الرحمن" دالة على الصفة القائمة به سبحانه، و"الرحيم" دالّة على تعلّقها بالمرحوم، فكان الأول للوصف والثاني للفعل، فالفعل الأول دالّ على أن الرّحمة صفته، والثاني دالّ على أنه يرحم خلقه برحمته، وإذا أردت فهم هذا فتأمل قوله: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} ]الأحزاب:43[، وقوله: {إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} ]التوبة:117[. ولم يجيء قط "رحمن بهم" فعلم أن "الرحمن" هو الموصوف بالرّحمة و"الرحيم" هو الرحيم برحمته(7).

ويقول في موطن آخر: ولم يجيء رحمن بعباده ولا رحمن بالمؤمنين، مع ما في اسم "الرحمن"- الذي هو على وزن فعلان- من سعة هذا الوصف، وثبوت جميع معناه للموصوف به، ألا ترى أنهم يقولون غضبان للممتلئ غضباً وندمان، وحيران، وسكران، ولهفان، لمن مُلئ بذلك، فبناء فعلان للسعة والشمول(8).

ولهذا يقرن استواءه على العرش بهذا الاسم كثيراً، كقوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} ]طه:5[، وقال الله تعالى: { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ } ]الفرقان:59[، فاستوى على عرشه باسم الرحمن؛ لأنَّ العرش محيط بالمخلوقات، قد وسعها، والرّحمة محيطة بالخلق واسعة لهم، كما قال تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} ]الأعراف:156[، فاستوى على أوسع المخلوقات بأوسع الصفات، فلذلك وسعت رحمته كل شيء(9).

 

مراجع الحلقة السابعة والعشرون بعد المائة:

(1) التيسير في أحاديث التفسير، محمد المكي الناصري، (4/361-362).

(2) زهرة التفاسير، الإمام محمد أبو زهرة، (10/5375).

(3) في ظلال القرآن، سيد قطب، (5/2605).

(4) تفسير القرآن العظيم (تفسير ابن كثير)، (4/343).

(5) تفسير القرطبي "الجامع لأحكام القرآن"، القرطبي، (2/131).

(6) تفسير السعدي "تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان"، (5/300-301).

(7) ولله الأسماء الحسنى، عبد العزيز ناصر الجليل، ص120.

(8) المرجع نفسه، ص120.

(9) ولله الأسماء الحسنى، عبد العزيز ناصر الجليل، ص121.

 

يمكنكم تحميل كتاب إبراهيم خليل الله دَاعِيةُ التَّوحِيدِ وَدينِ الإِسلَامِ وَالأُسوَةُ الحَسَنَةُ

من الموقع الرسمي للدكتور علي الصَّلابي


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022