الثلاثاء

1446-11-08

|

2025-5-6

تأملات في الآية الكريمة:

{وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ}

من كتاب إبراهيم خليل الله دَاعِيةُ التَّوحِيدِ وَدينِ الإِسلَامِ وَالأُسوَةُ الحَسَنَةُ

الحلقة: 128

بقلم الدكتور علي محمد الصلابي

ربيع الآخر 1444ه / نوفمبر 2022م

 

يذكّر الله عزّ وجل نبيه محمداً والعباد بما كان من إبراهيم - عليه السّلام - مع قومه، فإبراهيم قدوة وأسوة حسنة، يُقتدي ويتأسى بها، فيقول تعالى: {وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}، أي واذكر يا رسول الله واذكروا يا عباد الله نبي الله إبراهيم عليه السّلام.

‌أ- {اعْبُدُوا اللَّهَ}:

أخلصوا له العبادة ولا تشركوا معه شيئاً، ولا تعبدوا إلهاً غيره، واجعلوا بينكم وبين عذاب الله وقاية بتوحيدكم وصلاتكم وغير ذلك من الطاعات، ذلكم التوحيد وعبادة الله وحده لا شريك له خيرٌ لكم من الشرك والكفر إن كنتم تعلمون، وبنحو هذا قال أهل العلم، قال الطبري رحمه الله: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلّى الله عليه وسلّم: واذكر أيضاً يا محمد إبراهيم خليل الرّحمن إذ قال لقومه: اعبدوا الله أيها القوم دون غيره من الأوثان والأصنام فإنه لا إله لكم غيره(1).

وتكمن دعوات الأنبياء جميعاً - من دون استثناء - في قوله تعالى: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} ]الأعراف:59[، وقوله تعالى في الآية الكريمة: { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ}، فالدين كلّه أن تؤمن بوجود الله وبتوحيده وأن تعبده، وإنّ الدين جانب عقدي وجانب سلوكي، فالسلوك أن تعبده والعقيدة أن توحده، وإذا قيل لك: هل بإمكانك أن تلخص الدين كلّه في كلمتين. نعم؛ أن تؤمن بأنه لا إله إلا الله وأن تعبده، أمّا أن تؤمن بأنه لا إله إلا الله، فكل شيء في الكون ينطق بهذه العقيدة، وأمّا تعبده فالعبادة غاية الخضوع لله عزّ وجل مع غلبة الحبِّ، أنّها خضوع مع الحبّ، وأساسها المعرفة، فالعلم قبل كل شيء، والطريق الوحيد الذي لا ثاني له هو العلم، قال: {ذَلِكُمْ} أي: عبادته وتقواه {خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}.

لقد عرضَ إبراهيم - عليه السّلام - المواضيع ذات الأهمية الكبرى بكلمات بسيطة واضحة لا لبس فيها ولا غموض، حتى يفهمها المخاطبون على المستويات المختلفة، وهكذا فقد اختار إبراهيم - عليه السّلام - لموضوعه ألفاظاً واضحة المعنى، والمراد في ذلك، كيلا ينصرف الذهن عن المعنى الأصلي المراد، ولا يترك أي مجال للتأويل، فلخص موضوع رسالته بـــ {اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ}.

وكلمة {اعْبُدُوا اللَّهَ} هي قاعدة الدين ومحوره وعموده وملخّصه، التوحيد وإفراد الله بالعبادة والإنسان عبد بالفطرة، لا يملك إلا أن يعبد، فهو إما أن يعبد الإله الحق وإما أن يعبد الشيطان أو الهوى أو الأوثان أو المال أو الشهوات... إلى آخر المعبودات.

وتتمثل مهمة الأنبياء - عليهم الصلاة والسّلام - بأن يردّوا الناس إلى عبادة ربّ الناس وحده، وما أجمل كلمة الصحابي "ربعي بن عامر" لرستم قائد جيوش الفرس، إذ قال له: إنَّ الله ابتعثنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة الله ربّ العباد.

ومفهوم العبادة شامل - كما لا يخفى- ينظّم شؤون الحياة كلّها، فكلّ ميادين الحياة ميادين عبادة، وكل نشاط في هذه الحياة إن ابتغي به وجه الله فهو عبادة، والعادات بالنيّات تغدو عبادات، والعبادات بلا نيّات عادات(2).

إنَّ في مضمون دعوة إبراهيم - عليه السّلام - دعوة الناس لعبادة الله وإفراده وحده بذلك، وقد أثنى الله عزّ وجل على دعوته وجهده في كتابه العزيز، فوصف الله عزّ وجل إبراهيم - عليه السّلام - بأنه أمة، قانتاً لله حنيفاً ولم يك من المشركين وأنه شاكر لله عزّ وجل، قال تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (121)} ]النحل:120-121[.

ووصف الله عزّ وجل إبراهيم - عليه السّلام - بصفة العبودية، وأضافه إلى ضمير التعظيم، وهذا تعظيم له ورفع لمحله وقدره، قال سبحانه وتعالى: {كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111)} ]الصافات:110-111[. فوصفه - عليه السّلام - بصفة الإحسان وهي من أعلى مراتب العبودية، ومعناها: أن يعبد المرء ربّه سبحانه كأنه يراه، فإن لم يكن يراه فإن الله يراه، وقد قام إبراهيم - عليه السّلام - بالدعوة إلى عبودية الله عزّ وجل وتحقيقها في نفسه حقّ القيام، وأخلص له في أعماله كلها، فلم يصرف شيئاً من العبادة لغير الله عزّ وجل، بل وجهها لخالقه سبحانه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة، كما بيّنا وسنبيّن بإذن الله في سيرته العطرة.

إنَّ إبراهيم - عليه السّلام - عرف الله بالوحي والفطرة السليمة والعقل الراجح حق المعرفة وعبده حقّ العبادة، وهو أشدّ الناس اجتهاداً في العبادة، لما امتنَّ الله عليه من معرفته، وهو دائم الشكر لله عزّ وجل، ومعترف له مع تمام اجتهاده بالتقصير في أداء حقه.

وقد وصفه الله تعالى بالعبودية في مقام تكريم مع ابنه وحفيده، قال الله تعالى: {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ(45) إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (46) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ (47)} ]ص:45-47[، ويقول تعالى: {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا}: الذين أخلصوا لنا العبادة ذكراً حسناً {إبْرَاهِيمَ} الخليل وابنه {إِسْحَاقَ} وابن ابنه {يَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي} أي: القوة على عبادة الله تعالى: {وَالْأَبْصَار} أي البصيرة في دين الله، فوصفهم بالعلم النافع والعمل الصالح الكثير، و{إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ}: عظيمة وخصيصة جسمية هي {ذِكْرَى الدَّارِ} جعلنا ذكرى الدار الآخرة في قلوبهم والعمل لها صفوة وقتهم، والإخلاص والمراقبة لله وصفهم الدائم، وجعلنا ذكر الدار يتذكّر بأحوالهم المتذكر، ويَعتبر بهم المُعتبِر ويذكرون بأحسن الذكر(3).

وإنَّ نبيّنا إبراهيم - عليه السّلام - من أولي العزم الذين حققوا أقدار عظيمة ومراتب متقدمة في تحقيق العبودية لله عزّ وجل والدعوة إليها.

‌ب- {وَاتَّقُوهُ}:

اهتمَّ إبراهيم - عليه السّلام - بدعوة قومه إلى توحيد الله عزَّ وجلّ وإفراده بالعبودية والحثِّ على تقواه؛ لأنَّ تقوى الله عزّ وجلّ هي الضمانة الحقيقة لاستقامة الناس على منهج الله، وعدم التفلّت منه هنا وهناك، وعدم الاحتيال عليه أو الالتواء في تنفيذه، كما أنّها هي مبعث الخُلق الفاضل المنظور فيه إلى الله بلا رياء ولا تظاهر ولا مماراة، كما أنّ التقوى في مضمونها: هي اتخاذ وقاية من عذاب الله بفعل الطاعات واجتناب المنهيّات(4).

إنَّ المتدبر لكتاب الله تبارك وتعالى يجد أن التقوى هي من أكثر الأمور التي وجه القرآن الكريم لها العناية، وحمل النفوس على الاهتمام بها، وأصل التقوى من الوقاية، وأول مراحل التقوى: اجتناب الشرك، والمرحلة الثانية: اجتناب الكبائر، وأما عن المرحلة الثالثة التي تكتمل بها التقوى فهي: الابتعاد عن الصغائر، ويدلُّ على ذلك ما رُوي عن سيدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: لا يبلغ العبد أن يكون من المتّقين حتى يدع ما لا بأس به حذراً لما به البأس(5).

وعلى هذا، فالتقوى هي أرفع الدرجات التي يجب على المؤمن أن يرتفع إليها، مهما تحمّل في سبيل ذلك من صعاب ومشقات.

 

مراجع الحلقة الثامنة والعشرون بعد المائة:

(1) قصص الأنبياء، مصطفى العدوي، (2/118) نقلاً من تفسير الطبري "جامع البيان في تأويل القرآن"، (18/372) .

(2) تفسير سورة هود "دراسة تحليلية موضوعية"، أحمد نوفل، جمعية المحافظة على القرآن الكريم، عمّان، الأردن، ط1، 1439ه، 2018م، ص112.

(3) تفسير السعدي "تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان"، ص1499.

(4) نوح عليه السلام والطوفان العظيم، د. علي محمد محمد الصّلّابي، ص127.

(5) سنن الترمذي، كـ صفة القيامة، رقم (2451).

 

يمكنكم تحميل كتاب إبراهيم خليل الله دَاعِيةُ التَّوحِيدِ وَدينِ الإِسلَامِ وَالأُسوَةُ الحَسَنَةُ

من الموقع الرسمي للدكتور علي الصَّلابي


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022